بين جيزي وسوما.. الحكومة التركية في مأزق

مع حلول الذكرى الأولى للاحتجاجات التركية بميدان تقسيم بمدينة إسطنبول، أحيى المتظاهرون الأتراك ، خلال هذه الأيام، مطالبهم باستقالة الحكومة التركية مع انتشار أمني كثيف وتهديدات أطلقها أردوغان باعتقال المتظاهرين حال وصولهم للميدان مرة أخرى تحت دعوى “تطبيق القانون”.
لكن خلال ذلك العام، وبين موجتين عارمتين من التظاهر، تميزت الساحة التركية بتقلب شديد وتصاعد للغضب الشعبي، حيث أدت كارثة منجم الفحم، التي أوقعت 282 قتيلا في سوما مؤخرا، الواقعة على بعد 100 كم شمال شرق إزمير بتركيا، إلى إحياء حركة الاحتجاج ضد الحكومة المحافظة التي يرأسها رجب طيب أردوغان احتجاجا على تكرار الحوادث المأساوية في المناجم التركية، حيث خرج آلاف الأشخاص في مظاهرات استجابة لدعوة النقابات في إسطنبول وأنقرة التي أعلنت عن إضراب عام في كافة أنحاء البلاد احتجاجا على قتل عمال المنجم، وطالب بعضهم باستقالة الحكومة.
وفي سياق الغضب الشعبي العارم إزاء الحادث، نظمت في العاصمة التركية أنقرة مظاهرة حاشدة تطالب حكومة أردوغان بالاستقالة حيث استخدمت شرطة أردوغان الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه والرصاص المطاطي لتفريقها واعتقلت أكثر من 50 متظاهراً. كما أُصيب رئيس اتحاد النقابات الثورية لتركيا، إحدى أكبر النقابات العمالية في البلاد، ونُقل إلى المستشفى بسبب أعمال العنف التي ارتكبتها الشرطة.
أما في سوما، موقع الحادث، فانطلقت مظاهرة احتجاجية لأكثر من 20 ألف شخص احتشدوا في محيط موقع المنجم المنكوب ضد الإهمال والفساد، مطالبين باستقالة حكومة رئيس حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان. وقد أطلقت الشرطة التركية الغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين. ونظمت تظاهرات أخرى في عدة مدن وسط تزايد السخط ضد السلطات التركية التي واجهت في الربيع الماضي حركة احتجاج غير مسبوقة.
ويواجه أردوغان انتقادات لتجاهل التحذيرات المتكررة بخصوص عدم سلامة المناجم في تركيا، مستنكرا هذه الاتهامات أثناء تفقده موقع الحادث حيث احتشاد السكان الغاضبين، متجاهلا مأساة المئات من أهالي منطقة سوما غربي تركيا المنكوبين بفقدان أبنائهم وأقاربهم إثر انفجار المنجم ووجه إهانات لهم إثر خروجهم بمسيرات احتجاجية غاضبة جراء هذه الكارثة البشرية التي ألمت بهم بعدما تعاملت حكومته بلامبالاة حيال معايير سلامة عمال المناجم.
وفي ردود الفعل الحكومية، رد رئيس الوزراء على الصحفيين قائلا: “انفجارات مثل هذه في المناجم تحصل كل الوقت”، معددا حوادث مناجم وقعت في فرنسا وبريطانيا في القرنين التاسع عشر والعشرين. فيما أثار أحد مستشاريه فضيحة بعد أن ظهر في صورة يرتدي بذلة ويستعد لركل متظاهر سقط أرضا ويمسك به عنصر أمن.
جاءت كارثة الانفجار في منجم سوما لتزيد من الضغط على حكومة أردوغان، إذ باتت متهمة في تحمل مسئولية موت أكثر من 200 شخصاً لمحاباتها أرباب العمل على حساب أمن العاملين، وأول الاتهامات الموجهة لحكومة أردوغان هو إهمالها لمراقبة أعمال المنجم في خضم خصخصة المنشآت الحكومية خلال الأعوام الماضية، كما أن عدد المفتشين الحكوميين لا يكفي لتغطية المناجم الموجودة في البلاد، والمفاجئة الكبرى هو أن حزب أردوغان “العدالة والتنمية” رفض سابقاً طلباً تقدمت به المعارضة للتحقيق في مسألة غياب شروط السلامة والأمان بمنجم سوما، وبالتالي تأتي احتجاجات حريق المنجم لتعيد إلى الأذهان احتجاجات ميدان تقسيم ضد هدم حديقة جيزي وإقامة المشاريع الاستثمارية لصالح رجال الأعمال، حيث تحولت هذه الاحتجاجات إلى حراك سياسي شارك فيه مئات الآلاف بدعم من النشطاء السياسيين واتحادات النقابات العمالية والأحزاب السياسية المعارضة سواء يسارية أو يمينية سعيا في المقام الأول إلى منعه من البقاء في السلطة.
وفي تطورات متلاحقة أسفرت الاحتجاجات عن توفي شخصين، أحدهما متأثرا بجروح كان قد أصيب بها جراء طلق ناري خلال مواجهات بين الشرطة ومحتجين في مدينة إسطنبول. واندلعت المواجهات إثر إقدام مجموعة من الأشخاص على التظاهر احتجاجا على وفاة شاب كان قد أصيب في اشتباكات سابقة مع الشرطة. وبعد انتشار خبر إصابة الرجل بالرصاص، تدخلت الشرطة مرة أخرى واستخدمت مدافع المياه والغاز المسيل للدموع لتفريق متظاهرين تجمعوا في أوك ميداني ورددوا هتافات معادية للحكومة.
وعلى الرغم من أن حزب العدالة والتنمية تفوق على خصومه بفارق كبير في الانتخابات البلدية الأخيرة، إلا أن تكرار الاحتجاجات في الآونة الأخيرة، وتحديدا خلال عام كامل بين احتجاجات حديقة جيزي الماضية واحتجاجات منجم سوما الحالية، يضع أمامنا تساؤل عن مدى شعبية رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردغان وأسباب تراجعها. ففي نظرة سريعة نجد أن أهم ما تمركزت عليه شعبية حزب أردوغان في الانتخابات الماضية، منذ تشكيل الحكومة لأول مرة في 2002، هو الحفاظ على هامش الديمقراطية بإلغاء قوانين قمعية ومقيدة للحريات والخروج من الأزمة الاقتصادية سعيا للانضمام للاتحاد الأوروبي. الأمر الذي دفع حكومة أردوغان لتطبيق برامج صندوق النقد الدولي تطبيقا حرفيا من خصخصة الي هيكلة أنظمة الضمان الاجتماعي والصحة وتوفير أفضل شروط من أجل الاستثمار الخاص. وهو ما يدفع الشعب التركي ثمنه الآن لتواجه الحكومة احتجاجات متعاقبة ضد الخصخصة، وفي المقابل الحكومة للتعامل بقمع مع المحتجين لتسجل تركيا أولى البلاد في مواجهة العمال خلال مظاهراتهم في عيدهم الماضي في أوائل هذا الشهر.
بات واضح للمتابعين للوضع التركي أن تصاعد الاحتجاجات ناجم عن غضب موجود بالفعل وليس نتيجة مباشرة للأحداث. فبعد فضائح الفساد التي شملت أبناء لوزراء في حكومة أردوغان لم يعد الأتراك يستسيغون ذلك الوصف الذي يلقب به حزب العدالة والتنمية باسم “آكا”، أي الأبيض نسبة إلى الصفاء والبعد عن الفساد وهو ما اعتمد عليه الحزب الإسلامي المحافظ في دعايته الانتخابية.
وما زاد الأمر سوءا نشر تقارير تشير إلى تورط أردوغان ذاته في قضايا فساد أخرى تتعلق بمنحه تصاريح غير قانونية لأحد الشركات التابعة لواحد من أصدقائه لإمداد منازل المواطنين في مدن تركية بـ”غاز التدفئة”، يأتي ذلك في الوقت الذي فشلت حكومة أردوغان في جعل تركيا لاعب إقليمي أساسي سواء بتدخلها في الشأن العراقي والسوري أو دعم أنظمة الاستبدادية الدينية في دول الربيع العربي. وهو ما دفع معارضيه لمطالبة الحكومة الحالية بالاستقالة وحل المنظمات والجماعات التي تتبنى قراءات دينية متطرفة، وإصلاح السلطة القضائية، ومحاسبة المتهمين بملفات الفساد وإطلاق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين، وفتح ملفات الجرائم التي ارتكبت ضد الشعب وخاصة الأكراد، ومطالب تبني ضمان نزاهة العملية الانتخابية الرئاسية التي ستجرى بعد شهرين.