فلترحل السلطة العميلة ولتشتعل المقاومة
“التنسيق الأمني”.. عار السلطة الفلسطينية

“التنسيق مستمر وسأعاقب من تورط في خطف المستوطنين”.
كانت تلك الجملة هي أولى التصريحات التي أطلقها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إثر التحرك العسكري الإسرائيلي، أعقبها بانتقاده لمنفذي عملية الخليل، مؤكدا أن السلطة الفلسطينية تنسق مع الكيان الإسرائيلي من أجل الوصول إلى المستوطنين المفقودين. وفي كلمته خلال افتتاح مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي في جدة بالسعودية، أكد بأنه لن يسمح بالعودة إلى انتفاضة تدمر الشعب، مضيفا: “نحن ننسق معهم (إسرائيل) من أجل الوصول إلى هؤلاء الشباب لأنهم أولا وأخيرا هم بشر ونحن نريد أن نحمي أرواح البشر”. وخلال العدوان الحالي على غزة انتشرت أخبار تتناول عزم عباس وقف التنسيق الأمني لكن سرعان ما تم نفيها من الأساس.
تصريحات عباس الحالية هي جزء من سلسلة طويلة، ففي عام 2009، وفي كلمة ألقاها محمود عباس أمام العشرات من المشاركين في المؤتمر الخامس للاتحاد العام للمرأة الفلسطينية صرح قائلا:”يجب وقف إطلاق الصورايخ حتى لا تجد إسرائيل ذرائع لإبقاء الحصار مفروضاً غلى غزة”، وبغض النظر عن أن السلام الاقتصادي الذي خاضته سلطة رام الله في نفس العام مع حكومة اليمين المتطرف وتصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي ليبرمان بأن حكومته غير ملزمة بأي تفاهمات سابقة، وبغض النظر أيضا عن دهاليز الاتفاق نفسه الذي يقضي ببناء علاقات اقتصادية بين إسرائيل والضفة الغربية مع إحكام قبضة الحصار على غزة ونزوح أكثر من 80% من أسر القطاع تحت الفقر، لكنه وفي كل مرة وخلال زيارته للبنان، يوليو 2013، يؤكد أنه: “لا بديل عن حل الدولتين والاعتراف بإسرائيل كدولة”. وقبل عدة شهور، وأمام 250 طالب إسرائيلي استضافهم الرئيس بمقر المقاطعة في رام الله ضمن المبادرة الإسرائيلية للسلام، صرح مشددا: “التنسيق الأمني مقدس.. مقدس”.
والتنسيق الأمني هو أحد بنود اتفاق أوسلو الذي وقعت عليه السلطة الفلسطينية وإسرائيل عام 1993 والذي يقضي “بملاحقة منظمة التحرير الفلسطينية للإرهاب والإرهابيين”، فيما تطور مفهومه في العام الذي يليه، 1994، مع توقيع مزيد من التنازلات والتفريط تحت اسم “السلام” في اتفاق غزة/أريحا ليصبح توسيع الرقعة الجغرافية لعمل السلطة الفلسطينية مرتبط بأداء السلطة الأمني، أو ما عُرف بـ”الأرض مقابل السلام”. وفي المقابل جاءت اتفاقية طابا عام 1995 لتحظر على السلطة الفلسطينية ملاحقة مَن عملوا مع إسرائيل (العملاء والجواسيس) خلال السنوات الماضية مع استمرار منعها للإرهاب أو “مقاومة الاحتلال”!
في أعقاب الانتفاضة الفلسطينية الثانية، أدركت السلطة أن الوقت قد حان لإدراج التنسيق الأمني على أرض الواقع، فمن ناحية سجلت المقاومة الشعبية تصاعد مذهل في مواجهة المجنزرات الإسرائيلية على غرار الملاحم البطولية في معارك “جنين” عام 2002 والتصدي بقتالية صامدة للاجتياح البري وتكبيد المحتل خسائر مريعة، ومن ناحية أخرى تفاقمت الأوضاع بالدرجة التي اشتدت معها المقاومة المسلحة واستعادت تفجير كفاح القضية على أساسها المسلح الذي انطلق بلا هوادة منذ أوائل عام 1965. التنسيق الأمني الذي دفع ثمنه المقاومين بالاعتقال والسجن أمثال أحمد سعدات المتهم في اغتيال وزير السياحة الإسرائيلي عام 2001، أصبح جليا قمة العمالة والخيانة، وتجسًد فيما بعد في الفصل التام بين مشاريع التحرر الوطني وتحرير كامل التراب الفلسطيني من جانب، ومشروع الدولة الفلسطينية من رؤية إسرائيل من جانب آخر.
في صيف عام 2009، وقبل 5 أعوام، عقدت حركة التحرير الفلسطينية “فتح”، التي ترأس السلطة الفلسطينية، مؤتمرها المركزي وبعد تأخر 20 عاما عن المؤتمر الذي سبقه، كتلبية للظروف الراهنة حينها، وفقا لإعلان الحركة، في تعديل البرنامج السياسي بما يتوافق مع المستجدات. وبحسب البرنامج الجديد، فالباب الأول أعلن ما يبدو إنه المشروع الوطني الفلسطيني الجديد (!) بأن: “على ضوء الموقف السياسي لحركتنا تجاه أساليب النضال في المرحلة القادمة، فإنه من الواضح ضرورة معالجة هذا الموضوع بطريقة تنهي الوجود العسكري المستقل للحركة وأعضائها”.
في حين تناول الباب الثاني اتهاما وقحا للعمليات الفدائية ووصفها بـ”الانتحارية” التي تهدف لـ”تقويض عملية السلام عن أي تقدم حقيقي بهدف تحقيق خدمة أهداف سياسية لبعض الأطراف”، فيما عكف التليفزيون الفلسطيني الرسمي على استخدام نفس الكلمة “الانتحارية”، ليتناول البرنامج خليطا وتزاوجا مشبوها بين التحرر الوطني وبناء الدولة الفلسطينية: “إن فتح وفي الوقت الذي تؤكد فيه على حق الشعب الفلسطيني من حيث المبدأ في مقاومة الاحتلال.. فإنها ترى من واقع التجربة وفهمها لموازين القوى وللوضع على الأرض ضرورة التوصل إلى وقف متبادل وشامل لإطلاق النار بين الجانبين، وترى فتح إنه ومع تحقيق ذلك سيتم التركيز على المسار السياسي بفاعلية أكبر.. ومن الطبيعي أن هذا كله سيقود إلى استبعاد تدريجي للسلاح من الساحة الفلسطينية ككل باستثناء أجهزة الأمن”.
لسنا إذن بحاجة للمقارنة الشاسعة مع الصيغة التي تبنتها الحركة في مؤتمرها الخامس الذي تلى اشتعال الانتفاضة الفلسطينية الأولى برفض ومقاومة مشروع الحكم الذاتي وكافة المشاريع التصفوية الأخرى، لكن المؤتمر الأخير جاء بأهم نتائجه البعيدة تماما عن محاسبة الفاسدين داخل الحركة وإهدار المال العام والفضائح الجنسية المهينة، وبعيدا عن إعلان التحقيق في قتل عرفات، أو القطع في الأمور العالقة في قضايا الأسرى واللاجئين. جاء المؤتمر متسقا تماما مع جنوح السلطة برئاسة محمود عباس، الذي بدأ حياته مفاوضا ولم تحمل يده السلاح يوما، مع خيارات المهادنة والخيانة، واكتفى فقط بإعلانه الضمني وبمنتهى الصراحة: تطويق المقاومة في فتح وكل الفصائل، والإجهاز عليها.
خطوة بخطوة استطاعت السلطة الفلسطينية تطويع المقاومة المسلحة بجميع فصائلها لبنود اتفاقيات السلام مع العدو، ففي عام 2004 الذي شهد انتكاسة لمد الغضب الشعبي في الانتفاضة الثانية باعتقال قيادات فدائية على أيدي الإسرائيليين ومقتل عرفات، أعلن جبريل الرجوب، المستشار الأمني السابق أن: “المجلس الثوري لفتح يدرس حلً كتائب شهداء الأقصى” أو الجناح المسلح لفتح، وبالتتابع وخلال السنوات المتتالية تم تجريد المقاومين من أسلحتهم واعتقال وتعذيب كل مَن يقاوم الاحتلال، فيما تفاخر الجنرال الأميركي كيث دايتون، المسئول في التنسيق بين الجانبين، أنه: “لا يقدم للفلسطينيين شيئا إلا بموافقة إسرائيل” وأن “السلاح الفلسطيني (التابع للأجهزة الأمنية والذي وافقت عليه إسرائيل) لا يصلح لقتال الإسرائيليين”.
ووفقا لجريدة “يديعوت أحرونوت”، وفي شهر ديسمبر من عام 2009 إثر عملية طولكرم الفدائية، فإن الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية اعتقلت عددا من الفلسطينيين على حاجز الباذان شمال مدينة نابلس يُشتبه في إحراقهم مركبة أطلقوا منها النيران باتجاه مستوطنة “شفيه شومرون” وقادتهم للتحقيق معهم ضمن العمل الأمني المشترك بينها وبين إسرائيل.
وفي ظل الإضرابات النضالية واسعة النطاق التي خاضتها الحركة الأسيرة بكثافة، بالتوازي مع الثورات العربية التي اجتاحت المنطقة منذ عام 2011، لم يجد الرئيس الفلسطيني من الحديث عن الأسرى سوى من أُعتقلوا ما قبل أوسلو فقط (أو ما قبل تنسيق قواته أمنيا مع إسرائيل)، في الوقت الذي تمارس فيه سلطات الاحتلال اعتقالا إداريا مستمرا للمقاومين الفلسطينيين ومن يُشتبه بهم على وجه تعسفي ودون توجيه أي اتهامات، بل وتعيد اعتقال المقاومين الذين تم إطلاق سراحهم ضمن صفقات، مثلما حدث مؤخرا باعتقال القيادي بالجهاد الإسلامي ومفجر نضال الإضراب داخل السجون خضر عدنان، كذلك اعتقال صاحب أطول إضراب عن الطعام عرفه التاريخ المناضل سامر العيساوي.
ورغم فضائح التنسيق الأمني في ضياع ثوابت القضية الفلسطينية على أيدي قادتها، نجد على الجانب الآخر دعوة 8 فصائل يسارية منضوية في منظمة التحرير الفلسطينية إلى وقف ذلك التنسيق ردا على عدوان غزة الأخير، في إنكار ضمني لامتداد زمني طويل لجرائم ذلك التنسيق داخل غزة والضفة على السواء، وارتباك تام لموقف تلك الفصائل حال عدم وقف التنسيق، وهو ما يذًكرنا بالتهديدات المائعة التي ساقتها السلطة الفلسطينية أوائل العام قبل الماضي، 2012، بأنهاستدرس إمكانية وقف التنسيق مع الاحتلال ردا على تواصل الاستيطان في أراضي 67، في نفس الوقت الذي تؤكد فيه على حل الدولتين في تعايش وسلام!
وفي الوقت الذي دفعت فيه حركة فتح بمزيد من مؤيدي سياساتها التفريطية باعتصام عند مسجد الكالوتي بالضفة رافعين شعارات ويافطات مخزية تطالب الرئيس بمزيد من الاتفاقيات الدولية، أصدرت حركة الشبيبة الطلابية بحركة فتح في جامعة الخليل بيانا جاء فيه: “باسم كل ثائر فتحاوي يأبى الذل والانحطاط.. نعلن إننا بريئون من المدعو رئيس المنظمة الفلسطينية.. نحن ضد التنسيق الأمني ومع شعبنا الصامد ومع المقاومة بكافة أشكالها”.
إن العدوان الإسرائيلي على غزة اليوم مثلما يطرح خيانة التنسيق الأمني مع إسرائيل وإهدار ثوابت قضية دفع ثمنها دماء مئات الآلاف من الشهداء وملايين المُهجًرين على مدار 66 عاما، فإنه يطرح أيضا عجز الفصائل المختلفة المنضمة لمنظمة التحرير الفلسطينية على تحمل مسئولية قيادة مقاومة مسلحة بكافة قواعدها، رافضة للتذيل، وأثبتت انتصارات نوعية تتعمق عاما بعد عام، وضربت بصواريخها كل مساعي الانهزامية واتفاقيات السلام المذلة.
فليرحل العملاء الذين لم يعد لهم ثوابت في القضية سوى أمن إسرائيل، ولتُبنى المصالحة الفلسطينية مثلما يفرضها الشعب الفلسطيني أولا.