بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

عربي ودولي

القاهرة لم تكن أبدا مجرد وسيط بين إسرائيل وفلسطين

آخر الأساطير العظيمة عن مصر

نُشر هذا المقال لأول مرة في مجلة فورين بوليسي بتاريخ 21 يوليو 2014.

في عام 1970، وقع هنري كيسينجر في غرام السادات. بالنسبة لكيسنجر، الرئيس المصري “كان يملك حكمة وشجاعة رجل الدولة وأحيانا بصيرة النبي”. كانت هذه العلاقة الرومانسية هى منبع مجموعة من الأفكار التي تكونت عن مصر في السياسة الأمريكية مع الشرق الأوسط: و هي أن مصر ستكون حصن منيع في مواجهة الاتحاد السوفيتى، ستكون قاعدة للقوات الأمريكية في حال حدوث أزمة في الخليج الفارسي، والوسيط بين العرب – وخاصة الفلسطينيين – والإسرائيليين.

من بين هذه الأفكار تبقى كون مصر وسيط فى الأزمة الفلسطينية – الإسرائلية وقاعدة للقوات الأمريكية ذات صلة بالسياسات الأمريكية المعاصرة. و لكن الحقيقة هي أن مصر لم تكن يوماً وسيط حيادي ناجح في الأزمة الفليسطنية، وكانت هذه مجرد أسطورة يتدارجها الساسة الأمريكيون .

في الوقت الذى تدخل فيه عملية “الحد الواقي” الإسرائيلية أسبوعها الثاني بخسائر في الأرواح تتعدى المئات، نجد أن مصر تفعل ما كانت تفعله دائما وهو السعي وراء مصالحها أولاً. فمع كل التغيرات التي شهدتها مصر منذ سقوط نظام مبارك تبقى نظرة الجيش و المخابرات المصرية لغزة كما كانت منذ عقداً مضى أو أكثر؛ وهي أنها تريد إبقاء الفلسطينيين، وخاصة حماس، في صندوق، ومنع الصراع من زعزعة الاستقرار في شبه جزيرة سيناء، وضمان أن قطاع غزة لا يزال مسؤولية إسرائيل اولاً، واستبعاد غيرهم في الإقليم من لعب أي دور في غزة.

بناءاً على نظرة التي كونها الساسة الأمريكان تجاه موقف مصر فهم يرون أن اتفاقية وقف إطلاق النار تخدم هذه الأهداف، ولكن الحقيقة أنه ليس من المعروف تحديداً إن كانت سوف تخدم هذه الأهداف أم لا.

انتهى العدوان الإسرائيلي في عامي 2011 و2009 بنفس الطريقة. بعد أسابيع من الصراع قامت المخابرات الحربية المصرية، بالتعاون مع نظيرتها الإسرائيلية والأمريكية، بتفعيل اتفاقية تضع حدا للعنف. فى كلا الحالتين كانت الحكومة المصرية هى المستفيدة، فهي أبقت على حدودها مؤمَّنة دون الانغماس في غزة وفي الوقت ذاته أضعف العدوان الإسرائيلي حماس من الناحية العسكرية.

بالطبع لم يكن الأمر بهذه السهولة دوماً، فقيادات حماس ليسو بالسذّج: هم يعلمون أن المصرين لم يكونوا يوماً يسعون لمصلحة المنظمة و لهذا السبب عارضوا تسليم النصر للقاهرة بهذة السهولة. المنظمة الإسلامية الفليسطنية كانت أيضاً مدعومة في هذا الوقت من سوريا و إيران، مما كان مصدر إزعاج كبير لرئيس المخابرات في نظام مبارك، عمر سليمان. ولكن عندما حان الوقت لعقد اتفاقية لم تكن حماس قادرة على مواجهة الجيش الإسرائيلى و الضغوط السياسة المصرية معاً.

تتراوح الآراء الحالية عن فشل الحكومة المصرية في التوسط لعقد اتفاقية وقف إطلاق النار بين من ينظر إليه كدليل على عدم كفاءة الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، أو من يراه نتاج عن انحطاط مركز مصر بين الدول الإسلامية. لكن هناك تفسير آخر:
ترى الحكومة المصرية أن استمرار الصراع، في الوقت الحالي، يخدم مصالحها. إذا أخذنا في الاعتبار الحملات الدعائية ضد الإخوان و حماس التي يشهدها المصريون والتي تستند عليها شرعية السيسى جزئياً، فالعنف الحالي في غزة يخدم مصالح وأهداف السيسي السياسية من الدرجة الأولى.

بنظرة أنانية بحتة، ماذا قد يكون أفضل من موقع السيسي الحالي؟ إسرائيل توجه ضربات قوية لحماس دون تدخل حقيقي من مصر. وفي خضم العاصفة يتقدم رجل الدولة الرئيس السيسي بمبادرة لعقد اتفاقية لوقف إطلاق النار. إذا وافق عليها الطرفان فهو الفائز، وإن رفضها أحدهم، كما فعلت حماس لأن الاتفاقية قدمت لهم القليل، فهو أيضاً الفائز.
بدلاً من أن تقلل حماس من مقدرة السيسي على حل الأزمة برفضها للاتفاقية في 14 يوليو الماضي، فقد أكدت وجهة النظر المصرية-الإسرائيلية-الأمريكية عن عناد المنظمة. و من الواضح أن الحكومة المصرية، صح ذلك أم أخطأ، ترى أن تحالفها مع إسرائيل سوف يخدم أهدافها في القضاء على حماس، والحفاظ على الأمن فى سيناء وتقليص دور الفاعلين الآخرين فى المنطقة. بمعنى آخر، ما يسعى السيسى لتحقيقه في عدم الاتفاق على وقف إطلاق النار هو نفسه ما سعى لتحقيقه مرسى و من قبله مبارك بمبادرات الحد من العنف.

سياسات السيسي يمكن بالطبع أن تأتي بنتائج عكسية. فقد حاول مبارك تطبيق سياسة مشابه في 2006 أثناء التوغل الإسرائيلي في لبنان إيماناً منه أن القوات الإسرائلية العظيمة ستتمكن من توجيه ضربة قاضية لحزب الله، لكن كانت النتيحة هي انكشافه سياسياً بعد أن أدت العمليات الإسرائليه لارتفاع أعداد الضحايا المدنيين دون أن تحقق أهدافها. وفي مواجهة إعلام قد ازداد شراسة ورأى عام الهائج – حيث انتشرت ملصقات مشيدة بحسن نصر الله في شوارع القاهرة – اضطر مبارك لإرسال ابنه جمال بصحبة طائرة مليئة بخدم النظام إلى بيروت في محاولة ضعيفة لإثبات دعم مصر للشعب البناني.

قد تغير عواقب مشابهة حسابات السيسى فيما يتعلق بغزة. تستخدم القيادات المصرية لشعارات معارضة لحماس في محاولة لسحب الثقة من الإخوان المسلمين، لكن ذلك لم يؤثر في تضامن نسبة كبيرة من المصريين مع الفلسطينيين.
ربما أصبح المصريين يكرهون الإخوان، ولكن تبقى كراهيتهم لإسرائيل أكبر. و مع توسع عملية “الحد الواقي” الإسرائيلية وارتفاع عدد الضحايا المدنين، قد يصبح تواطؤ السيسي مع إسرائيل لا يغتفر سياسياً.

حاولت تركيا وقطر ملء دور الوساطة الذي يبدو أن السيسي قد تخلى، ولكن تبقى فرص حل الصراع من خلال الدوحة أو أنقرة بعيد المنال. مثل السوريين والإيرانيين الذين أجهدوا عمر سليمان، الأتراك والقطريين يوفرون لحماس وسيلة محتملة للخروج من الكماشة المصرية الإسرائيلية من خلال تقديم الدعم الكافي للمنظمة لمواصلة القتال. و لكن بعيدا عن موقفهم في الأزمة، تبقى فرص الأتراك والقطريين في التوسط والوصول لاتفاقية ضئيلة.

خطب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الساخنة عن العنف في غزة هي في معظمها، و كما كانت دائماً، حول السياسة الداخلية. فمن المهم لدائرته الانتخابية أن ترى رئيس وزرائهم كـ”ملك الشارع العربي”، حتى لو فقدت أنقرة بريقها إقليمياً. فالمصريين والإسرائيليين أيضا يكرهون أردوغان، و لن يسمحوا له أن يلعب دورا في حل الصراع. نفس الشيء ينطبق على قطر، التي يعتبرها المصريين دولة مارقة لدعمها لجماعة الإخوان مسلمين والجماعات المتطرفة في المنطقة. ببساطة لا يوجد سبب وجيه للاعتقاد بأن القاهرة ستتنازل عن التفاوض في شيء مهم مثل أمن الحدودها لبلدين هي ليست فقط لا تثق بهما بل وتعتبرهما أعداء.

منذ ان اتفقت القاهرة وواشنطن على “علاقتهما الاستراتيجية”، غذى الأميركيون العديد من الأساطير العظيمة عن مصر. آخرها هو الاعتقاد الخاطئ عن مصر كوسيط بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ومن المثير للسخرية أن هنري كيسنجر قد يفسر فشل المصريين في حل النزاع بمصطلحات رومانسية، والتحسر على عدم وجود سادات – الذي قارنه بأخناتون كزعيم سابق لزمانه – قادر على التدخل. ولكن في فجر عصر السيسي، يبقى السبب الحقيقي، و هو الأكثر “كيسينجرية”، هو ببساطة: إن الحكومة المصرية لا تعتبر وقف إطلاق النار في مصلحتها في الوقت الراهن.