داعش من الوهم إلى اليقين.. القصة الكاملة (الجزء الأول)

يعتبر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” من أعنف وأخطر التنظيمات المتطرفة التي ظهرت على الساحتين العربية والعالمية حتى الآن. هذا التنظيم المتشدد “السني” تمكن خلال فترة قياسية من احتلال ثلث أراضي سوريا ومساحات واسعة من العراق، بما في ذلك مدن كبيرة مثل الموصل بشمال غرب العراق.
أما التنظيم الذي يضم آلاف المقاتلين من الدول العربية والمجندين الأجانب من مختلف أنحاء العالم، فقد أدى ظهوره بهذه القوة “البشعة”، لإطلاق أكبر حملة عسكرية دولية بقيادة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط منذ حرب تحرير الكويت في عام 1991، وربما تتجاوز هذه الحملة الحالية حدود تلك الحرب.
لقد تطورت داعش من قوة سلفية جهادية أسسها أبو مصعب الزرقاوي، وهو أردني متطرف انتقل إلى العراق بعد غزو الولايات المتحدة لأفغانستان عام 2002، ليتزعم الزرقاوي بعد ذلك فرع تنظيم القاعدة في العراق، والذي كان مسئولاً عن تفجير ضريح العسكريين في سامراء عام 2006، والذي أشعل فتيل الحرب الأهلية في العراق في 2006 – 2007. لقد تغير اسم التنظيم إلى (الدولة الإسلامية في العراق) عقب مقتل زعيمه الزرقاوي بغارة أمريكية عام 2006، فيما بدأت قوة التنظيم تضعف عام 2007 بعد تحالف قوات أمريكية مع عشائر من العراقيين السنة لمواجهته.
أدى اندلاع الأزمة السورية إلى إعادة إحياء الدولة الإسلامية، والتي قدمت الدعم لأحد أعضائها وهو أبو محمد الجولاني لإنشاء جماعة في سوريا عقب ثورة 2011. وفي نيسان من عام 2013 أعلن زعيم الجماعة الحالي أبو بكر البغدادي دمج جماعته مع جبهة النصرة تحت مسمى “دولة الإسلام في العراق والشام”، بيد أن جبهة النصرة رفضت هذا الاندماج، وانشق معظم مجاهديها الأجانب إلى “داعش”، ومنذ ذلك الحين و”داعش” في حرب مع الثوار السوريين لتفرض نفسها كدولة لا تقبل بأي جماعة أخرى تحارب في المناطق المُستولى عليها قبل أن تقسم بالولاء لـ “داعش”.
داعش والثورة السورية.. الذبح بسكين بارد
في يوم 29 يونيو وفي أول أيام شهر رمضان، أعلنت داعش مبايعة أبي بكر البغدادي خليفة للمسلمين من قبل مجلس الشورى، ليتغير اسمها إلى (دولة الإسلام). دير الزور هي خامس محافظة في سوريا والعراق تخضع لسيطرة الدولة الإسلامية، وهو تدبير كان من فرط شدته أن أصدرت القاعدة بياناً رسمياً نأت فيه بنفسها عن التنظيم. لقد جاءت أولى موجات الانتصارات الساحقة لـ”داعش” في محافظتي نينوي وصلاح الدين السنّيتين بالعراق، ثم استفادت من المخزون الهائل الذي استحوذت عليه من الأسلحة، أضف إلى ذلك هذا الزخم الذي أنتجته من المعنويات والخوف عند الاستيلاء على مناطق جديدة في سوريا، وبعد سيطرتها على دير الزور، تتقدم داعش الآن شمالاً في ريف حلب.
فعندما أعلن البغدادي دمج جماعته في العراق مع جبهة النصرة، أخذت داعش تتصرف كدولة في المناطق المستحوذ عليها، فعلى الرغم من أعدادها المنخفضة، استطاعت داعش أن تؤسس حكماً من الإرهاب في مناطق سورية عديدة. وقد أدى إنشاؤها لنقاط التفتيش الخانقة، ومصادرتها للأسلحة، وفرضها لإديولوجيتها على السكان المحليين إلى نفور معظم الجماعات المتمردة. مع نهاية العام الفائت، أعلنت جميع الجماعات المتمردة الحرب على داعش ودفعتها خارج إدلب وحلب ودير الزور.
لكن الحرب كلفت الثوار غالياً، لقد أدت المعارك مع داعش إلى مقتل نحو 7 آلاف شخص وبدء تفكك تحالفات الثوار نتيجة القتال، فعلى سبيل المثال لم يتبقَ من الجبهة الإسلامية، إحدى أكبر الفصائل المسلحة المعارضة للنظام السوري التي تضم 7 فصائل إسلامية منها حركة أحرار الشام ولواء التوحيد والجبهة الإسلامية الكردية، إلا قوقعتها بعد أن كانت أكثر التحالفات قوة، والآن اتخذت “الجبهة قراراً بعدم قتال تنظيم “داعش” الإرهابي في شمالي محافظة “حلب” السورية، بسبب كثافة هجمات قوات التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وقوات النظام السوري، حيث استهدفت قوات التحالف مواقعا للجبهة الإسلامية، وأنهم اتخذوا قراراً بعدم قتال داعش، بسبب تكثيف قوات النظام، وميليشيات حزب الله هجماتها في ريف حلب.
أما جبهة النصرة، التي كانت أكثر الجماعات المتمردة فاعلية، فهي الآن تجاهد لوقف انجراف مقاتليها ومناصريها نحو داعش، خصوصاً بعد خسارتها لقبضتها القوية في دير الزور. لقد ازدهرت داعش بفضل التفكك بين المتمردين السوريين والتناقضات لدى داعميهم، مما سارع من تفكك هذه الجماعات هو أن الكثير من أعضائها وقاداتها كانوا إما متعاطفين مع داعش أو مترددين في توجيه بنادقهم ضد أي طرف غير النظام السوري.
أما عن علاقة “داعش” بالنظام السوري والترويج المستمر لما يسمى بأن “داعش” صنيعة المخابرات السورية، فإنه يمكن الحديث بأن هناك اختلاف في الإديولجيات بين القاعدة والبعث السوري، وبأن معظم قيادات تنظيم “داعش” يعتقدون بأن حزب البعث ونظام الأسد كافر، ولكنهم قد سلكوا معه مسار التقية الدينية وأنهم يستعملونهم ولا يتبعونهم، أما حرب النظام على الشعب السوري، فهي بالضرورة حرب عليهم وبالتالي لا يمكن لـ “داعش” الدفاع عنه، وعلاوة على ذلك، فذلك المسار لا يخدم منهج تنظيم “داعش” الجهادي.
هناك أجندة عسكرية لـ “داعش”، وهناك خطط للمعارك، وهناك خطة لفرض بيعة البغدادي على بقية الفصائل المسلحة في سوريا، وهناك قيادات في “داعش” يعتقدون بأن هناك طريقة أفضل لفعل ذلك، وهي طريقة إعلان قتال الخارج عن بيعة البغدادي وإعلان الحكم الإسلامي، ولكن عليّ أن أقول أيضاً أن “داعش” لا يزال في منهجه يوافق إرادة النظام السوري، لكن من غير إتفاق أو تنسيق مسبق. وهذا هو سبب التهمة التي تقول أن “داعش” صنيعة النظام السوري. ببساطة هناك علاقة تعاون ومصالح وتبادل منافع مع اختلاف عقائدي كبير. إن السيل الجارف لـ “داعش” قوي وليس من الصعب رؤية أن القادم أسوأ. لكن فيما هو أبعد من العوامل السياسية والعملية.
داعش والعراق.. أبواب جهنم قد فُتحت
لم ينتهِ العام 2013 حتى كانت السلطات المركزية العراقية قد فضت بالقوة اعتصام الفلوجة الذى كان قد استمر قرابة العام، مانحة باستخدامها المفرط للقوة تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام “داعش” فرصة دخول المدينة بزعم حمايتها. على الناحية المقابلة، بدا وجود الجهاديين السنة “داعش” مطلوبا من الجميع على تناقض أهدافهم، فمسلحو المدينة “السنية” وعشائرها رغم اختلافهم الجذري مع حاملي الرايات السود كأسلوب حياة، مثل مشهد الاحتفال بإشعال النيران في كومة ضخمة من علب السجائر التي باتت محرمة كان لافتا. إلا أنهم كانوا على استعداد للتحالف معهم ضد الجيش العراقي النظامي، الذى ينظرون إليه “كأداة بطش” في يد نظام شيعي طائفي يرون أنه عمل على تهميشهم، إن لم يكن إقصائهم.
بالطبع لم يكن مختلفا موقف رجال الجيش العراقي القديم، جيش صدام، الذي كان قد جرى التخلص منهم. كذلك موقف قوى إقليمية كانت قد استدعت تحريضًا ومساندة لوجيستية الخطاب الطائفي قلقاً من تزايد ما اعتبروه مدًا شيعياً، والمثير أن وجود الجهاديين وراياتهم السود وإرهاب تسجيلاتهم الدموية بدا أنه مطلوب أيضا من الحكومة المركزية في بغداد، كغطاء منطقي ومضمون للحشد داخليا وخارجيا لعنوان “الحرب ضد الإرهاب”، وللصراع السياسي مع الزعامات المحلية، وهو بالمناسبة الغطاء ذاته الذي قدمته الرايات السود لبشار الأسد، الذي بدا المجتمع الدولي على استعداد لغض الطرف عن براميله المتفجرة خوفا من ذلك القادم المجهول.
كانت هذه بدايةَ القصة، لكنها ليست بالضرورة نهايتها لظهور التنظيم الدموي بالعراق.
لقد استغل تنظيم “الدولة الإسلامية” ضعف أجهزة الدولة العراقية ليتوسع بشكل مخيف في مناطق بعينها في هذا البلد. ظهرت قوته الضاربة بجلاء عندما قام بالاستيلاء على مدينة الموصل، حيث تم اعتبار العملية وقتها بمثابة ناقوس خطر لا يهدد العراق بمفرده وإنما المنطقة برمتها.
فيما وصل مقاتلو تنظيم داعش إلى أطراف مدينة كوباني الكردية، وبعد معارك هي الأعنف منذ بدء هجومهم على المدينة، أفادت وكالة رويترز للأنباء بأن عناصر التنظيم دخلوا المدينة المحاصرة منذ أسابيع ورفعوا راياتهم السوداء في الجانب الشرقي لكوباني، وأوضحت شبكات أنباء سورية محلية، أن تنظيم الدولة وصل إلى أحياء مدينة كوباني بعد أن سيطر على الأطراف الجنوبية والشرقية لقمة جبل “مشته النور” المطل على المدينة، مشيرا إلى أن عناصره استهدفوا بالدبابات والمدفعية الثقيلة والهاون أحياء المدينة بعشرات القذائف.
يتحدث الجراح الفرنسي “جاك بيريس” عن “رعب” المجازر التي يتعرض لها الأكراد في شمال سوريا:
“الوضع يدفعني إلى الانهيار بصفتي طبيباً، لافتاً إلى جروح وحروق وشبان انتُزعت أعضاؤهم، وعن التدفق المتواصل للجرحى مع انعدام “كل ما هو ضروري” لتقديم العلاجات الضرورية”.
لقد أصبح 40 إلى 50 ألف نسمة في “السرقانية”، وهي مدينة تبعد بضعة كيلو مترات شرق مدينة كوباني، عالقون بين مقاتلي داعش من جهة، والحدود التركية المقفلة من جهة أخرى بجدار علوه 5 أمتار ومزوّداً بأسلاك شائكة.
فبعد مقاومة استمرت أسابيع دخل التنظيم المتطرف المدينة وسيطر بالكامل على 3 من أحيائها الشرقية، وأخلى مئات المدنيين المدينة بطلب من المسئولين العسكريين الأكراد. لقد وصلت المعارك إلى داخل مدينة عين العرب الكردية السورية إثر سيطرة مسلحي تنظيم “الدولة الإسلامية” على 3 أحياء في ناحيتها الشرقية بعد 3 أسابيع من المعارك أجبرت مئات الآلاف من السكان على النزوح خوفا من بطش التنظيم “الجهادي” المتطرف. فيما ذكر “المرصد السوري لحقوق الإنسان” أن الجهاديين “سيطروا على أحياء المدينة الصناعية ومقتلة الجديدة وكاني عربان في شرق كوباني بعد معارك عنيفة بينهم وبين وحدات حماية الشعب الكردي”، الميليشيا الأقل تسليحا وتجهيزا، وذلك بعد ساعات فقط على دخول مقاتلي التنظيم المتطرف كوباني التي تعتبر ثالث أكبر مدينة كردية في سوريا.
ينبغي أن نرى ظاهرة “داعش” كجزء من اتجاهين واسعين داخل الإسلام السني من شأنهما أن يجعلا من “داعش” تهديداً أيديولوجياً طويل المدى، حتى لو تم كبح جماحه عسكرياً. فإنه يجب النظر إلى صعود “داعش” في سياق الشعور بالاغتراب لدى السنّة. هذا الشعور بالطرد وبالظلم يعرف بالعربية بـ “المظلومية”، وهو مفهوم مرتبط تاريخياً بالشيعة، لقد تصرف السنّة في هذا الجزء من المنطقة كأقلية مذعورة، يشعرون بعدم الأمان، محاصرين. أما الشيعة فهم أكثر حسماً، ثقةً وتنظيماً، وبدعم إيراني للميليشيات المسلحة بالعراق، ولحزب الله بلبنان، فإن الشيعة أكثر نشاطاً وصخباً من أي وقت مضى. ولأول مرة في التاريخ يعبر المقاتلون الشيعة الحدود للمشاركة في الجهاد، كما حدث في سوريا بحجة الدفاع عن المراقد الشيعية وإخوانهم العلويين، في المقابل يشعر السنة بأنهم مُهاجَمون من دون دفاع.
لقد بدأت فكرة القتال كالطريقة الوحيدة لتحصيل حقوقهم تكتسب جاذبية لديهم، وفي الوقت ذاته يُنظَر للقوى التقليدية السنية السياسية كانت أم الدينية، على أنها واقفة في صف الظالمين، فاقدة تماماً للمصداقية، صامتة.
من هذا الوضع اليائس تخرج داعش بإمكانية ملء الفراغ. يمكن استشفاف هذا الموقف من حقيقة أن إرهاب داعش لاقى رداً خافتاً من قبل رجال الدين والعلماء، وأن استيلاءها على المحافظات السنية في العراق قوبل باحتفالات واسعة. وأن هنالك قلق لدى بعض الحكومات في المنطقة من وجود متعاطفين مع داعش ضمن المنظمة الدينية. على سبيل المثال، ندد الملك عبد الله بن عبد العزيز مؤخراً بـالكسل والصمت من قبل العلماء المسلمين في مواجهة التطرف (يقصد داعش)، كان ذلك توبيخاً علنياً غير مسبوق لكبار العلماء، بثه التلفزيون الرسمي السعودي.
إن رأس التنظيم البغدادي، والذي أعلن نفسه خليفة لـ “الدولة الإسلامية”، انتقل بفكرة الخلافة من العوالم الساحرة والتنظير الممل والدعوات الفضفاضة إلى حيز التطبيق على أرضية الواقع وإلى الممارسة الفعلية، لقد تصاعدت قوة التنظيم بسببين رئيسيين:
أولهما إقصاء قوى الإسلام السياسي وتعثرها عقب الربيع العربي والذي أعاد الحياة للتنظيمات الراديكالية والجهادية في المنطقة. أما السبب الثاني فيكمن في وضع السُنة في العراق، هذا الوضع دفع السنة إلى أن يتحالفوا مع الشيطان في سبيل الخروج من جحيم المالكي وطائفيته، وهو ما أكسب “داعش” تعاطفا من قبل بعض الأماكن في الشارع العراقي بتوصيف “الدولة الإسلامية” والنظر إليها على كونها المخلص.
وللحديث بقية..