بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

داعش من الوهم إلى اليقين.. وهابية التنظيم والدولة (الجزء الثاني)

تناولنا في المقال السابق ظاهرة “داعش” ومدى ارتباطها بتلك الأحداث المتفجرة في العراق أو زيادة لهيب الحرب المستعرة بسوريا، فإعلان داعش الخلافة لم يكن كما أراده الخليفة الداعشي، وبعد نحو قرن من الزمن، أصبح للمسلمين خليفة لكنه لم يُحمل على محمل الجد. ما بال المسلمين لا يرحبون بخليفتهم الجديد؟!، وما بال غير المسلمين الكُثر لا يحفلون بفرض الجزية؟! وماذا لو تكاثر عدد الخلفاء، وقد سبق أن كان لأمة المسلمين في زمان ثلاثة خلفاء لكل منهم خطيب مسجد يرفع الصلوات باسم الخليفة؟!

لقد أصبحت “داعش” ظاهرة جديدة دخلت السجال العربي المُستجد، وباتت واحدة من عناوين حقبة أطلق عليها ذات يوم لقب الربيع العربي. لكن الخلافة الجديدة وُلدت متعثرة، فهي ليست بالدولة ولا بالخلافة لكن طبيعة الجزيرة العربية غيرت وصف “داعش” إلى تنظيم الدولة الإسلامية، ربما تحضيراً بما يُعد له، فلم يخطب الناس في الجوامع باسم الخليفة ولم تُصك العملة باسمه بعد. لكن السؤال هو كيف يمكن أن نفهم الارتباط بين الخليفة البغدادي الجديد وممن قررت عائلته قبل سنوات بجمعه للقب الملك (الذي أسبغه عليه المُستعمر البريطاني) ولقب “خادم الحرمين” (الذي لم يسبغه عليه الحَرَمان)؟!

داعش والسعودية.. وهابية النمط الواحد
من أجل تقدير دقيق للخطورة المتمثلة في مشروع “داعش”، لابد من قراءة إجمالية للعقل السياسي السعودي. فالدولة السعودية الوهابية التي نشأت في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي عقب تحالف الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود عام 1744 الذي أسس لدولة دينية تقوم على تقاسم السلطة بين الشيخ والأمير، أريد لها الانفراد بالتمثيل السياسي السني، بما يحول دون نشوء أي كيان آخر منافس داخل المجال الإسلامي العام.

ففي داخل المجال الديني الوهابي، خاض حُراس المذهب تحديات متعاقبة لإبقاء الدولة السعودية داخل نطاق تأثير التعاليم الوهابية التي وضعها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فيما جرت محاولات فردية أحياناً وجماعية أحياناً أخرى لإعادة “وهبنة” الدولة السعودية ولكن باءت المحاولات بالفشل.

أدت الهجمة الخاطفة لداعش في العراق، واستيلائها على مدينة الموصل وعدد من المدن الأخرى، وأخيرا إعلان الخلافة وتنصيب الخليفة، إلى ارتباك حسبان  الكثير من دول المنطقة، فربما يكون “داعش” خرج عن السيطرة منذ عام، ومنذ ذلك الحين صار التنظيم يطرح الندية لا التبعية، والبغدادي الآن له استراتيجيته الخاصة، ويسعى فقط لمصلحته بالأساس وفقا لمبدأ تقاطع المصالح، أي أنه الآن صار عدوا مؤجلا للدول التي دعمته ومولته في مغامرته بسوريا.

لكن عقب التطورات السريعة بالعراق، أضحى الموقف السعودي الحالي يذكرنا بمأزق الأفغان العرب، مع اختلاف وتيرة وخطورة الأحداث، فالمجاهدين سابقا والإرهابيين لاحقا، على بعد 200 كيلو متر من الحدود السعودية، وليس كما كانوا قبل 3 عقود في جبال أفغانستان. فبعد استعمال السعودية للجهاديين في ثمانينيات القرن الماضي لمحاربة الاتحاد السوفيتي في إطار الحرب الباردة وبإيعاز ودعم وتوجيه أميركي، تبقت للسعودية ودول أخرى مشكلة هؤلاء العائدين من أفغانستان، فتحولت ضدهم بعد تشجيع ودعم وفتاوي دينية حضت على ذهابهم لمقاتلة  الشيوعيين “الملحدين” في بادئ الأمر، وبانتهاء دورهم، ولعوامل عدة عصفت بالمنطقة منذ بداية التسعينات، أدارت السعودية ظهرها لهم، بل وجرمت أنشطتم داخل حدودها منذ حرب الخليج الثانية.

دأب النظام السعودي منذ التسعينيات على انتهاج ما يمكن تسميته بعقيدة أمنية تجاه الجهاديين، تقوم على عنصريين أساسيين، أولهم وأهمهم هو أن تكون هذه الجماعات خارج الحدود السعودية، ولا تضر بمصالح المملكة، العنصر الثاني هو توظيف هذه الجماعات سياسيا لتحقيق مصلحة السياسة الخارجية السعودية شريطة أن يتم دعم هذه الجماعات من خلال قنوات غير رسمية.

الشق الأول تم تنفيذه بشكل احتوائي طوال فترة التسعينات بقبضة أمنية حديدية، وبعد 11 سبتمبر قطعت السعودية بشكل ظاهري كل ما تبقى من خيوط مع التنظيمات المتطرفة وشددت قبضتها داخلياً حتى تبعد عنها شبهة دعم الإرهاب في هذه الفترة.

أما الشق الثاني فقد تم توظيفه بشكل نموذجي في الأزمة السورية، فدعمت السعودية تدفق الإرهابيين إلى سوريا من كل بقاع الأرض، وأمنت معسكرات التدريب والسلاح بشراكة دول إقليمية، ووفرت غطاء إعلامي وديني لهم. كان الفاعل الرئيسي والمشرف على هذا الانفتاح من الجانب السعودي الأمير بندر بن سلطان المعين حديثا وقتها كرئيس للاستخبارات (في 15 أبريل 2014 صدر أمر ملكي بإعفائه من منصبه بناء على طلبه كرئيس للاستخبارات السعودية)، والذي أوغل في دعمه للمسلحين على أمل أن يتم إسقاط نظام الأسد سريعا، لكن بعد عامين أتضح أن الأسد باقي (في ظل تحالفات دولية أكبر)، بل أن موقفه صار أقوى من بداية الأحداث بسوريا، وأن معظم الدعم والأسلحة من الجانب السعودي ورجال أعماله المليارديرات، وقعت في يد جهاديين منفلتين لا يلتزموا بأطر القيادة التي تطمئن لها السعودية مثل النُصرة أو الجيش الحر، ناهيك عن الاقتتال بين الأطراف هناك، وهو ما يعني فشل بندر في مهمته، بل امتد هذا الفشل إلى نشأة خطر محتمل جديد يسمى “داعش”.

حاولت القيادة السعودية أخذ احتياطها من تمدد التنظيم وانفلاته، فشرعت في إجراءات منذ بداية العام الحالي من شأنها ضبط قنوات الدعم ولملمة تلك الفوضى المبعثرة، فأصدرت قائمة بالتنظيمات الإرهابية المحظور تواجدها على أراضيها أو انضمام السعوديين لها بعقوبات تصل إلى الإعدام، ومنح فترة لمواطنيها المتورطين بالانضمام والقتال في صفوف “داعش” بالتوبة والعودة إلى المملكة، وغيرها من الإجراءات الاحتوائية والحمائية، لكن دون تجفيف منابع الدعم أو غلق قنوات التمويل مثل ما ذكر تقرير للخارجية الأمريكية منذ شهور حول التمويل الخليجي للتنظيمات الإرهابية.

جاء في بيان صادر عن مجلس الوزراء العراقي  وفق وكالة “ا ف ب”، أنه لوحظ موقفا وحيدا مستغربا يصدر من مجلس الوزراء السعودي، “وأننا ندين بشدة هذا الموقف الذي نعتبره ليس فقط تدخلا في الشأن الداخلي، وإنما يدل على نوع من المهادنة للإرهاب”!

فمنذ اندلاع الأحداث الأخيرة، سعت السعودية إلى نفي ما يحدث في شمال وغرب العراق من صنع “داعش” وأن الواقع يصف الأحداث بانتفاضة سُنية ضد ظلم وقهر وطائفية حكومة المالكي، وأن العديد من الأطر السياسية والقبلية والعشائرية في العراق تشارك في هذا الحراك، وأن مساهمة داعش فيه لا تتعدى كماً وكيفاً أصابع اليد الواحدة من نسبة المسلحين والتواجد على الأرض والسيطرة على المدن. لقد أصبحت السعودية الآن أمام مأزق ثلاثي، فمن جهة لا تستطيع أن تستمر في ادعاء أن ما يحدث بالعراق انتفاضة، ولا تستطيع إنكار أن الدولة الإسلامية لها اليد العليا فيما حدث وسوف يحدث، ومن جهة ثانية إذا حاولت احتواء وعقد صفقات مع المارد الجهادي الجديد فسيتم وصمها أمريكيا بوصمة دعم الإرهاب خاصة في ظل تراكم الثلوج بينها وبين الإدارة الأمريكية مؤخراً، وأخيراً إذا بادرت هي بالصدام مع الدولة الإسلامية عن طريق وكلاء لها بالعراق يعني أن الدولة ستسرع بتوسيع مجالها ليشمل الأراضي السعودية نفسها.

يتحدث عبد الله المالكي في مقال “الوهابية وإخوان من طاع الله وداعش.. هل أعاد التاريخ نفسه؟” عن ظاهرة “داعش” وكيف تخلق الدولة التطرف بأيديها، ثم تحترق به:

“ففي حين كان الإخوان (إخوان من طاعة الله وهي عبارة عن مليشيات بدوية وهابية مُسلحة أنشأها الملك عبد العزيز بهدف دعم قيام الدولة السعودية ومحاربة أعدائها، ولكن سرعان ما انقلبت عليه)، يكفِّرون الدولة، بسبب اتصالها بالحكومة البريطانية، وعقد الاتفاقات معها، اتباعا منهم لتعاليم وهابية (العهد القديم) وتطبيقا لنصوصها القديمة في تكفير كلّ من تحالف مع العساكر التركية؛ نجد أن هؤلاء الإخوان أنفسهم، أجازوا لزعمائهم فيما بعد، التواصل مع الحكومة البريطانية، ومحاولة عقد الاتفاقات معها، واللجوء إليها، والاستجارة بها، عندما ضاقت عليهم الأرض، جراء الخسائر والهزائم المتتالية التي تعرضوا لها من عساكر الملك عبد العزيز. ولكي لا يبدون متناقضين أمام أتباعهم، كانوا يبررون لهم هذا السلوك السياسي، بأنهم مقتدون بالصحابة، حين هاجروا إلى الحبشة النصرانية، وتركوا عشيرتهم الكافرة. الأمر الذي دفع كبار علماء وهابية (العهد الجديد) إلى إصدار الفتوى بتكفير أولئك (الإخوان) بسبب اتصالهم بالحكومة البريطانية (الكافرة) ولجوئهم إليها؛ فــ “هؤلاء الذين ذكرهم السائل، وهم العجمان والدويش، ومن تبعهم، لا شكَّ في كفرهم وردتهم، لأنهم انحازوا إلى أعداء الله ورسوله، وطلبوا الدخول تحت ولايتهم، واستعانوا بهم، فجمعوا بين الخروج من ديار المسلمين، واللحوق بأعداء الملة والدين، وتكفيرهم لأهل الإسلام، واستحلال دمائهم وأموالهم.

صدرت هذه الفتوى، في الوقت الذي كان أولئك العلماء يجيزون للملك التواصل مع ذات الحكومة البريطانية (الكافرة)، “لأنه إمام المسلمين، والناظر إلى مصالحهم، ولابدّ له من التحفظ على رعاياه وولايته، من الدول الأجانب”.

إن كلا الوهابيتين وجهان لنمط واحد؛ نمط يدّعي بأنه الوحيد الذي يملك الحقيقة الدينية بصفة مطلقة، وأنه الممثل الشرعي والوحيد للعقيدة الصحيحة، وأنه المرجع الوحيد في فهم السلوك القويم المؤدي للنجاة في الآخرة، وبالتالي يحق له إنتاج المعنى الديني وإدارته وتطبيقه وفرضه في الواقع دون الآخرين”.

لقد أصبح من الضروري لفت الانتباه الى أن عقيدة “داعش” لا تختلف عن عقيدة أي تنظيم سلفي جهادي، وعودة سريعة إلى المكتبة العقائدية المثبتة على المواقع الإلكترونية لتنظيم “داعش” سوف تنفر من الهوية العقائدية لدى التنظيم. إن مؤلفات محمد بن عبد الوهاب مثل كتاب التوحيد وكشف الشبهات ونواقض الإسلام، وغيرها يجرى توزيعها في المناطق الخاضعة لسيطرة “داعش”، ويتم تدريسها وشرحها في الدروس الدينية الخاصة التي يعقدها الجهاز التربوي في التنظيم، علاوة على ذلك، من يقرأ سيرة أفراد الطبقة القيادية في تنظيم دولة العراق الإسلامية سوف يجد وبسهولة متناهية أن هؤلاء تشرّبوا العقيدة الوهابية وأتقنوا العمل بكل تفاصيلها، بل يتعمَّد كتّاب سيرهم التشديد على عبارة “يسير على منهج السلف”، أي يعتنق المذهب الحنبلي الوهابي.

لم يختلف بن لادن مع آل سعود إلا في شأن السياسة الخارجية، ولا يختلف البغدادي مع آل سعود إلا على السياسة الخارجية، فلم يكن تسرب وانتشار العقيدة الوهابية حدثاً عفوياً أو صحوة متأخرة لأفكار محمد بن عبد الوهاب، إن اجتماع المال النفطي مع العقيدة الوهابية هو الذي روج للفكر والممارسة المتطرفة، لكن حتى بلاد العم “سام” ليست بمنأى عن ذلك، فواشنطن والغرب عمدوا إلى عون آل سعود والتغاضي عن تلك الممارسات الطائفية والقمع المزدوج باسم الدين والحق الإلهي المُمارس بحق الشعب السعودي،  فلم تمنع التطرف ولا حتى محاولة تصديره للخارج. على سبيل المثال لم يعترض أحد في الغرب على وحشية من يسموا بالمجاهدين عندما قطعوا عضو محمد نجيب الله (رابع رئيس للجمهورية الأفغانية والذي أعدمته قوات طالبان شنقاً في 27 سبتمبر 1996 بکابول) وخصيتيه بحد السيف بعد أن علقوه على عامود كهرباء، لقد أصبحت ذائقة الغرب ضد الوحشية انتقائية مثل كل سياساته، والذين تساءلوا عن سبب إطلاق سراح شاكر العبسي (زعيم مجموعة فتح الإسلام المتورطة في خوض مواجهات مسلحة مع الجيش اللبناني في مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين في طرابلس منذ 20 مايو 2007) من السجون السورية لا يتساءلون عن سبب إطلاق سراح أبي بكر البغدادي من سجون الاحتلال الأميركي في العراق!

أحياناً كثيرة تتطور الأفكار لتطرح تلك التساؤلات الهامة عن سبب عدم خروج المسلمين في مسيرات احتجاجية ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وما يقوم به من أعمال تشمئز لها النفوس، رغم اعتبار الكثيرين أن التنظيم المتشدد الذي تحركت دول غربية وعربية في الآونة الأخيرة لدحره، يشوه صورة الإسلام الحقيقي، إلا أن ما من مظاهرات شعبية خرجت للتنديد بداعش على غرار الاحتجاجات التي نظمت عقب نشر رسوم كاريكاتير مسيئة للنبي محمد أو فيلم “براءة المسلمين” المسيء، أو حملة حرق القرآن التي نظمها القس الأميركي تيري جونز. لقد تعقدت المسائل بالفعل. وذبحك يا عزيزي إن لم يكن بأيدي “داعش” سيصبح غداً بسبب “داعش” أيضا، لكن هذه المرة برعاية دولية وعربية في كثيراً منها، وتحت مظلة الحرب على الإرهاب!