السياسة قبل الاقتصاد.. وكلاهما قبل الإنسانية
واقع الدمار ووعود الإعمار

عقد بالقاهرة، منذ أيام قليلة مؤتمر إعادة إعمار غزة، شارك فيه ممثلو 50 دولة ومنظمة وهيئة دولية، وقد بلغت التعهدات المعلنة بـ5.4 مليار دولار، تعهدت قطر وحدها بمليار دولار منها، وتعهدت الولايات المتحدة بتقديم 212 مليون دولار، كما تعهدت كل من تركيا والإمارات بدفع 200 مليون دولار وأعلنت كاثرين آشتون، مسؤولة السياسية الخارجية بالاتحاد الأوروبي، عن تبرعات بـ568 مليون دولار.
يأتي المؤتمر، كالعادة، عقب عدوان اسرائيلي جديد، وكان العدوان الأخير “الجرف الصامد”، قد بدأ في 17 يوليو 2014، واستمرّ 27 يوما، حيث شنت إسرائيل أكثر من 55 ألف هجمة بين جوية وبرية وبحرية، مخلفة 2200 شهيد منهم 530 طفل، وخسائر تقدر بـ 3.6 مليار دولار أمريكي، ودُمّر أكثر من 80 ألف منزل وشُرّد أكثر من مئة الف فلسطيني، وتضاعف نسبة البطالة التي وصلت قبل العدوان إلى 63% من قوة العمل.
في المقابل تكبد العدو الإسرائيلي، ما لا يقل عن 67 قتيل من العسكريين وستة من المدنيين.
وقد وضعت حكومة التوافق الوطني الفلسطينية خطة تفصيلية لإعادة الإعمار بقيمة أربعة مليارات دولار، في حين يرى خبراء أن القطاع بحاجة إلى مبالغ أكبر، وأن العملية ستستمر عدة سنوات. كما تحتاج وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “أونروا” 1.6 مليار دولار لتغطية احتياجاتها الملحة في المدى القريب.
تستهدف خطة إعادة الإعمار التي تستمر ثلاث سنوات، مساعدات إنسانية عاجلة، وإعادة تأهيل البنية التحتية، وإعادة النهوض بالقطاع الاقتصادي ممثلا بالزراعة والصناعة والتجارة والتشغيل وتشجيع الاستثمار.
السياسة قبل الاقتصاد
كشفت الكلمات التي ألقاها المتحدثون المشاركون في المؤتمر عن سياسية المؤتمر قلبًا وقالبًا، حيث صرح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري عن ضمان بلاده “لأمن الإسرائيليين”.
وكان الرئيس الأمريكي باراك أوباما فى كلمته التي ألقاها أمام الدورة 69 للجمعية العامة للأمم المتحدة فى نيويورك قد ألقى بتصريحات أذهلت حتى المحللين الاسرائيليين عندما قال: “إن الوضع فى العراق وسوريا وليبيا يجب أن يشفي الجميع من وهم أن هذا الصراع – الإسرائيلي الفلسطيني – هو مصدر المشكلات فى المنطقة…”
“…وأن التغييرات فى الشرق الأوسط توحد بين إسرائيل ودول إسلامية معتدلة – السعودية ومصر- فى مواجهة الدول المتطرفة وفى مقدمتها إيران وذراعاها الإرهابيتان – حزب الله وحماس”.
كما كشفت كلمة عبدالفتاح السيسي عن ثوابت موقفه تجاه القضية الفلسطينية وهي فرض حدود 1967 وقبول حل الدولتين ورفض الحلول العسكرية (المقاومة) وقبول حل عادل – على حد قوله ودون توضيح – للاجئين الفلسطينيين.
طرأت على الساحة متغيرات أهمها مشروع المصالحة الفلسطينية، الذي أدى الى تشكيل حكومة وحدة وطنية، بما يعني أن عملية إعادة الإعمار لن تتم تحت إشراف حركة حماس.
والاقتصاد قبل الإنسانية
عندما تنتهي الوحوش من نهش الضحايا تترك البقايا للضباع، وطالما أن الوحوش قد لوحت بكمية ضخمة من اللحم، فإن الكثير من الضباع والنسور تحوم حول المكان بحذر، ورجال البيزنس يعرفون متى وكيف يتقدمون، فقد تساءل داكر عبد الله، عضو مجلس إدارة “اتحاد المقاولين في مصر”، “كيف نقوم بالإعمار بينما هناك حرب أخرى محتملة؟” وأضاف في تصريحه للسفير اللبنانية: “..الحقيقة أننا لن نستطيع أن نقوم بشيء، إلا إذا قدمت المصارف التمويل اللازم، وتدخلت شركات التأمين لخفض المخاطرة… كما أن الحل السياسي يجب أن يسبق الإعمار”.
ويضع أحمد الزيني، رئيس الشعبة العامة لمواد البناء في اتحاد الغرف التجارية في مصر شروطا مسبقة منها تأمين دخول مواد البناء خاصة عبر سيناء.
ليس في الإمكان أبدع مما كان.. ولم يكن
في 2 فبراير2009 عقد في شرم الشيخ مؤتمر إعادة إعمار قطاع غزة بعد العدوان الذي استمر 27/12/2008 – 17/1/2009، شاركت فيه 70 دولة و16 منظمة إقليمية ودولية ومن مؤسسات التمويل الدولية، كالأمانة العامة للأمم المتحدة والجامعة العربية والبنك الدولي.
وحسب عنوان المؤتمر فقد كان يهدف إلى دعم الاقتصاد الفلسطيني ككل، و إعمارغزة بشكل خاص.
كانت الخطة الفلسطينية المقترحة تقدر بـ2.8 مليار دولار مطلوبة من المانحين، موضحة مجالات إنفاق الأموال تفصيليًا، وهي:
توفير ملاجىء مؤقتة، إصلاح البنية التحتية، إعادة إعمار المساجد والكنائس والمراكز الثقافية والمواقع التراثية، إعادة بناء وترميم أكثر من 15 ألف منزل مدمرة كليا وجزئيا، وتعويض المزارعين وتأهيل المنشآت الصناعية والتجارية والخدمية المتضررة.
وصلت تبرعات المانحين المعلنة حوالي 5 مليارات دولار، 186% من طلبات خطة السلطة، حيث وصفها أحمد أبو الغيط، وزير الخارجية المصري الأسبق بأنها “فاقت التوقعات”، وقد تعهدت السعودية وحدها بدفع مليار دولار.
وقد اضطلعت الولايات المتحدة والمفوضية الأوروبية، خلال المؤتمر، بالدور الحاسم في توجيه سياسات وآليات توزيع الأموال، بما لا يتلائم مع حجم تبرعاتها مقابل الدول العربية التي آثرت الدفع والخضوع.
لكن هذه الوعود ظلت حبراً على ورق، حيث أصرّت الجهات المانحة على تجنب حركة حماس التي تسيطر على القطاع، فيما ربطت الولايات المتحدة صراحة بين تعاونها مع الفلسطينيين وبين احترامهم “التزامات منظمة التحرير الفلسطينية بالتخلي عن العنف والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود” على حد تعبيرها.
ربط مبارك في كلمته آنذاك بين إعمار غزة وبين التوصل لاتفاقات وفاق وطني فلسطيني واتفاقات تهدئة إسرائلية-فلسطينية برعاية دولية.
بينما أكد أبو مازن على التمسك بحل الدولتين ورؤيته لفلسطين 1967. كما دارت كلمات المتحدثين وقتها حول النقاط نفسها، علاوة على إدانة الحل العسكري (المقاومة) ودعم سلطة أبو مازن (الشرعية).
لم يكن مؤتمر شرم الشيخ هو المناسبة الوحيدة للنكوص بالتعهدات، فقبله بقليل، وبعد معارك نهر البارد (مايو 2007) عقد مؤتمرا مشابها في بيروت ولم يُقدّم سوى مبالغ زهيدة للغاية (1%من المطلوب للإعمار).
عدوان – إعمار – عدوان – إعمار.. وهكذا
في كتابه “الاستراتيجية العسكرية” الذي يعد مرجعية في سياسة حلف الأطلنطي، طرح الجنرال الفرنسي أندريه بوفر فكرتي “مناورة الإعياء”، أي استنزاف الطرف المقاوم واضعافه تدريجيا لإنهاكه تماما ثم “ترك الجروح تتعفن” أي مفاقمة المعاناة بدلا من معالجتها.
يمتد العدوان الإسرائيلي تبادليا مع خطط الإعمار المزعومة، بينما تتردى الحالة في الأراضي المحتلة، فعقب عدوان 2009 المشار إليه، تجدد العدوان في 2010 لمدة 23 يوما مخلفا أكثر من 1500 شهيد، و5300 مصاب.
وفي نوفمبر 2012 شنت إسرائيل عدوانها عامود السحاب باغتيال أحمد الجعبري أحد قادة حماس، على الرغم من التوصل إلى مسودة اتفاق تهدئة مع المقاومة بوساطة مصرية وكان الهدف إحراج نظام مرسي، أو حتى جس نبضه.
وبالتوازي مع ذلك تستمر سياسات الاستيطان الصهيونية بلا هوادة. فعلى سبيل المثال، تم التصديق مؤخرا على بناء ما يقرب من 5000 وحدة في بيت صفافا بالقدس الشرقية قرب باب آل المغاربة (200م تقريبا من المسجد الأقصى)، كما يتعرض الفلسطينيون داخل الخط الأخضر- أراضي 48 – لممارسات دؤوبة لتضييق الخناق عليهم.
من يدفع ثمن الرصاص ورغيف الخبز
في عجالة، يمكننا أن نلاحظ تلك العلاقة بين الاقتصاد والسياسة في مسار القضية الفلسطينية، فحين كانت قوى كبار الملاك هي المسيطرة على الاقتصاد الفلسطيني فرضت طابع الاستجداء وتقديم العرائض وواجهت كل مقاومة حقيقية لاحتلال البريطاني والاستيطان الصهيوني. وما أن ظهرت البرجوازية الفتية خلال الحرب العالمية الأولى حتى تركت بصماتها على المقاومة الشابة الصاعدة، التي استمر صعودها حتى النكبة.
عقب النكبة انتقل الثقل الى الخارج، وأصبح المجتمع الفلسطيني معتمدا بشكل كبير على تحويلات أبنائه في الخارج وخاصة في دول النفط. بينما ظهرت في الخلفية وبقوة الأنظمة العربية الداعمة، التي لم تقدم الدعم دون السيطرة على مسار المقاومة.
وكان تراخي منظمة التحرير شيئا فشيئا وجنوح قادتها إلى حياة الترف، متزامنا مع نمو اقتصاد المقاومة في الداخل الفلسطيني تحت الاحتلال، وهو ما انعكس في اندلاع الانتفاضة الأولى.
لكن لعبة “الداعم/المتحكم” ما تلبث أن تعود، واللوم لا يقع طبعا على الشعب الفلسطيني الذي يتجرع الموت والقهر أقداحا.
لكن الأمر الواقع يؤكد أن القوى العظمى، المتمثلة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، حتى وإن لم تكن هي المانح الأكبر، تظل متحكمة وصاحبة الأمر والنهي في أمور المعونات المقدمة، وتبقى الأنظمة العربية حتى لو كانت هي بالفعل صاحبة النصيب الأكبر في المنح المعلن عنها، متذيلة للمشهد.
والمنح المعلن عنها، مع فرض تشديدها فعلا، أو حتى تسديد بعضها، تضع السياسة قبل الاقتصاد، وكلاهما قبل الإنسانية، وهو ما انعكس في تصريحات الممثلين الرسميين للدول المشاركة، فالهدف في أفضل الحالات هو الإبقاء على الاقتصاد الفلسطين الهش أسر القطرات التي يمررونا عبر الصنبور الأمريكي-الصهيوني، ومن ثم خلق مجتمع فلسطيني ضعيف ثم إيجاد جيل جديد مبتسر لا يفكر ولا يقدر حتى على التفكير في المقاومة. فمن يملكون الجرافات والدبابات هم من يملكون الشاحنات وخلاطات الأسمنت.