بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

مئة عام على إبادة الأرمن على يد دولة «الخلافة العثمانية»

مذابح الأرمن
أم أرمينية راكعة بجوار طفلتها الميتة، في الطريق إلى مدينة حلب السورية

بدأ الأمر بموجة بشرية في شوارع يريفان، ففي 24 أبريل 1965، نزل أكثر من 100 ألف شخص إلى وسط عاصمة ”جمهورية أرمينيا الاشتراكية السوفييتية” للمطالبة بالاعتراف بـ”الإبادة الأرمنية”، وشكل ذلك بداية تحرك مطلبي كان حتى ذلك الحين بعيدا عن الأضواء.

وطوال عقود تحدث الأرمن عن “مدز يغهرن” أو “الكارثة الكبرى”، للإشارة إلى المجازر التي تعرض لها مئات الآلاف منهم بين 1915 و 1917 أيام السلطنة العثمانية. وحتى تظاهرات 1965 كان لفظ ”إبادة”محظور في الاتحاد السوفييتى الذي كانت أرمينيا إحدى جمهورياته الخمس عشرة.

في الرابع والعشرين من أبريل عام 1915، جرى اعتقال قادة المجتمع الأرمني في منطقة استانبول “إسطنبول حاليا” ونفيهم إلى أنقرة. وفى منتصف يونيو كان أكثر من 250 شخص قد جرى إعدامهم من قبل السلطة العثمانية، معلنة بداية حملة غير مسبوقة من الإبادة الجماعية للأرمن في أرجاء دولة الخلافة.

حتى ذلك الوقت، كان قد تم القضاء على الأرمن في بلدات بدليس والأرضروم، وفي 9 يونيو أرسل وزير الداخلية رسالة إلى محافظ أرضروم يطالبه فيها ببيع ممتلكات الأرمن المُهجّرين، حيث أنه لايوجد أمل لعودتهم.

على مدى صيف عام 1915، توسعت مناطق التهجير لتشمل سوريا الحالية، وحسب خطة الترحيل لايجب أن يتجاوز عدد الأرمن عن عشرة بالمئة من مجمل عدد السكان المحليين.

في 2 أغسطس من عام 1914، وقّعت تركيا معاهدة سرية مع ألمانيا، تنص على تغيير الحدود الشرقية للإمبراطورية لضم ممر للوصول إلى القوميات المسلمة في روسيا، كان ذلك يعنى بالطبع ضرورة تسريع استئصال وجود الشعب الأرمني من المنطقة المعنية، هذه السياسة جرى نشرها والإعلان عنها بعد دخول تركيا الحرب إلى جانب الألمان في 30 أكتوبر من عام 1914، في الإعلان جرى تبرير الأمر أن “من الطبيعي” اتحاد جميع ممثلي العرق التركى.

وعلى الفور بعد توقيع الاتفاقية مع ألمانيا، بدأت الدولة العثمانية عملية مصادرة أملاك المسيحيين الأرمن على نطاق واسع، في يناير من عام 1914 أعلنت تركيا الجهاد لرفع المزاج المعادى للمسيحيين وسط السكان المسلمين.

بأوامر من أنور باشا وجمال باشا، جرى استخدام المواطنين البريطانيين والفرنسيين في إسطنبول كدروع بشرية على الجبهات، وعلى نطاق واسع جرى استخدام إثارة نزاعات القبائل الإثنية التي تحيا على أراضي العدو، ليس من طرف تركيا وحدها وإنما حتى من طرف الحلفاء.

توجهت تركيا إلى المسلمين في روسيا للالتحاق بالجهاد ضد الروس، في ذات الوقت بريطانيا ساعدت المسلمين العرب للانتفاض على الأتراك ودعمت ثورتهم، في حين أن ألمانيا دعمت القوميين الأوكرانيين.

بعد بضعة ساعات من توقيع الاتفاقية السرية بين تركيا وألمانيا أعلن “الاتحاد والترقي” الحزب الحاكم التعبئة العامة، بنتيجة ذلك جرى استدعاء كل أرمني سليم إلى الخدمة العسكرية، الاستدعاء الأول شمل الأشخاص في الاعمار بين 20-45 سنة، تلا ذلك استدعاء الأعمار بين 18-20 و 45-60.

مع بداية الحرب على الجبهة الشرقية، تلقى أنور باشا هزيمة نكراء في معركة ساريقاميش في يناير 1915 ضد الروس، بنتيجة ذلك جرى طرد الجيش التركي من تبريز وخوي، هزيمة الأتراك كانت إلى درجة كبيرة بفضل المتطوعين الأرمن القادمين من مناطق روسيا، غير أن الاتحاد والترقي ألقى بالمسؤولية كاملة على الأرمن.

رسميا وجّه أنور باشا شُكره للأرمن الأتراك على تضحياتهم في معركة ساريقاميش ضد الروس، في رسالة وجّهها إلى البطريكية الأرمنية في قوني، في طريقه من أرضروم إلى إسطنبول كان على الدوام يعبر عن إمتنانه على “ولاء الأرمن التام للحكومة العثمانية”، غير أنه في إسطنبول أعلن لجريدة “تانين” ولنائب رئيس البرلمان التركي أن الهزيمة كانت نتيجة الخيانة الأرمنية، وأنه قد حان الأوان لترحيل الأرمن من المنطقة الشرقية، وتم تحميل تبعات الهزيمة للأضعف. وفي فبراير جرى اتخاذ إجراءات استثنائية ضد أرمن تركيا، تم تجريد 100 ألف جندي أرمني من سلاحه وجرى مصادرة الأسلحة من المدنيين الأرمن، والتي كان قد سمح لهم بحملها عام 1908، وبعد تجريد الجنود الأرمن من السلاح جرى ذَبح البعض من الرقبة ودَفن الآخرون أحياء.

السفير الأمريكي في تركيا في ذلك الوقت، وصف نزع سلاح الأرمن على أنه دعوة لإباحة قتل الأرمن وإبادتهم، في حين أن سُلطات العديد من المدن هددت بإبادة الأرمن والأشوريين، كما قاموا بإعتقال الآلاف منهم كرهائن، مطالبين الأرمن بجمع عدد معين من السلاح مقابل إطلاق سراح الرهائن، ورافقت الحملة أعمال وحشية ضد الأرمن الذي أُهدر دمهم. الأسلحة التي جرى جمعها تم تصويرها وعرضها في الإعلام في إسطنبول على أنها البرهان على “الخيانة”، مما فتح الباب واسعا لملاحقة كاملة وتامة للشعب الأرمنى.

فى لقاء بين طلعت باشا وزير الخارجية التركي والسفير الأمريكي هنري موركنثاو، قال طلعت باشا: “نحن قد تمكنا من التخلص من ثلاثة أرباع الشعب الأرمني، ولم يعد لهم أثر في بيتليسه وفانه وأرضروم، والحقد بين الأرمن والأتراك في الوقت الحالي في قوته؛ بحيث أن علينا القضاء عليهم تماما، وإذا لم نفعل ذلك سينتقمون منا حتما.
نَزع سلاح الأرمن جعل من الممكن القيام بحملات منظمة ومتواترة على السكان الأرمن في الدولة العثمانية، والتي تضمنت إرسال الأرمن سيرا على الأقدام إلى الصحراء لتعريضهم للموت جوعا أو عطشا، أو بفعل أعمال القرصنة التي يقوم بها البدو على المسافرين، وقد جرى إرسال الأرمن من مختلف بقاع الدولة وليس فقط من سكان الجبهة الشرقية.

في البداية جمعوا الرجال الأصحاء وأخبروهم أن الحكومة وبسبب ضرورات الحرب وتعبيرا عن نيات الحكومة الطيبة تجاههم، قررت نقلهم إلى مساكن جديدة. كان يجري نقل الرجال إلى السجون ولا يعطوا أية فرصة للاتصال بأهلهم، بعد ذلك يجري نقلهم إلى الصحراء ورميهم بالرصاص أو بالسلاح الأبيض.

بعد ذلك تم تجميع الأطفال والعجائز والنساء، وأخبروهم أن عليهم الانتقال إلى بيوت جديدة، وتم وضعهم في قوافل لا نهاية لها تسير على الأقدام، وتحت حراسة الجندرمة، من قرية إلى أخرى ليصلوا بهم إلى الطرق الصحراوية، من لايستطيع الاستمرار بالمشى يجري قتله، ولم يكن هناك استثناء حتى للحوامل. كان يجري اختيار الطرق الصحراوية الطويلة والمنعزلة، بحيث تضمن موت أكبر عدد ممكن منهم.

وفي منتصف مارس 1915 قامت القوات الفرنسية والبريطانية بمهاجمة الدردنيل، وعلى أثر ذلك بدأ العمل النشط لنقل العاصمة إلى مدينة إسكيشهر وترحيل السكان المحليين، وخوفا من “إلتحام الأرمن مع الأعداء”، قررت الحكومة التركية نقل جميع الأرمن في المنطقة الواقعة بين إسطنبول وإسكيشهر.

فى هذا الوقت عُقدت العديد من الاجتماعات لجمعية الاتحاد والترقي؛ حيث قام بهاء الدين شاكر (قائد التشكيلات الخاصة) بتقديم البراهين على مشاركة الأرمن في انتفاضات الأناضول الشرقية، وعلى أساس تأكيد شاكر على أن “العدو الداخلي ليس أقل خطرا من العدو الخارجى” جرى تفويضه بصلاحيات إضافية.

في نهاية مارس قامت التشكيلات الخاصة بتنظيم مذابح أرضروم، وأرسلت إلى المنطقة أكثر عناصر جمعية الاتحاد والترقي تطرفا لتنظيم الدعاية المعادية للأرمن، بما فيهم رشيد بيك، الذي اشتهر في منطقة ديار بكر بممارساته الفظة، بما فيها الاغتصاب والاعتداءات الجسدية والاعتقال، وفي النهاية أصبح أشهر قاتل للأرمن.

وعلى الرغم من تأكيد منظمة “تركيا الفتاة” على أن الترحيل كان ردا على عدم ولاء الأرمن في الجبهة الشرقية، فإن أول عملية ترحيل جرت ليست من منطقة الجبهة الشرقية وإنما من مركز الأناضول إلى سوريا، تحت قيادة أحمد جمال باشا المعروف في سوريا بـ “السفاح” لمجرد شنقه بضعة سوريين.

اعتبر جمال باشا أن الأرمن في منطقة زيتونة ودورتيول يشكلون خطرا محتملا وقرر تغيير البنية الديموغرافية للمنطقة الواقعة تحت إدارته، وبدأ جمال باشا بنفي سكان مدينة زيتونة بتاريخ 8 أبريل، وهي مدينة كان سكانها يتمتعون بحرية نسبية منذ عهود، وكانوا على الدوام في صدام مع السلطات التركية، كتبرير للنفي قامت السلطات التركية بالادعاء بوجود خطة سرية بين سكان زيتونة الأرمن وبين السلطات العسكرية الروسية.

جرى إرسال ثلاثة آلاف جندي تركي إلى مدينة زيتونة، واستباحت القرى الواقعة حول المدينة قبل دخولها للمدينة، بنتيجة الأخبار التي سبقت الجنود انتفض بضعة شبان ارمن وتحصنوا في دير المدينة، وحسب المؤرخين الأرمن تمكن المنتفضين من قتل 300 جندي تركي، وحسب المؤرخين الأتراك قُتل سبعة جنود وضابط واحد فقط قبل سقوط الدير، غير أن قادة المدينة الأرمن طلبوا من المنتفضين الاستسلام كما طلبوا من السُلطات اعتقالهم ومعاقبتهم. وعلى الرغم من أن طلعت باشا وزير الداخلية التركية، عبر عن شكره لمساعدة الأرمن على اعتقال الهاربين من الجيش، غير أنه في تصريح لاحق صور الأحداث وكأنها انتفاضة أرمنية خدمة للقوى الاجنبية، في تطابق مع الرواية الرسمية.

وعلى الرغم من أن الجموع الرئيسية للأرمن عارضوا الانتفاضة على الحكومة التركية، إلا أن التهجير كان جماعيا، حيث أُرسلوا إلى كونيا أو صحراء دير الزور (في سوريا) ليموتوا.

بعد مدينة زيتونة جرى إخلاء مدينة كيليكى، وهي تهجيرات جرت قبل انتفاضة آيالة وان، وهي الحادثة التي تتخذها الحكومة التركية حجة رسمية لتبرير عمليات تهجير الأرمن وابادتهم، وعلى الرغم من أن إجراءات الحكومة التركية كانت متجاوزة كل الحدود إلا أنها كانت حتى ذلك الوقت لاتزال لم تشمل كل مناطق الخلافة العثمانية.

الإبادة الجماعية بدأت في 19 أبريل عندما جرى قتل 2500 شخص في محيط مدينة وان، وبعد بضعة أيام وصل العدد إلى خمسين ألفا، الهجوم على وان كان بنتيجة استفزازت مخططة من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي، وهو الأمر الذي اعترف به لاحقا جنرالان تركيان هما إبراهيم عباس وحسان تاشين.

وتحت التهديد بالإعدام جرى منع السكان المسلمين من حماية الأرمن. وفي انتظار الهجوم التركي قام سكان وان بتحصين مدينتهم تحصينا فعالا، كان عدد السكان الأرمن في مدينة وان حوالي 30 ألف ولكن المسلحين منهم 1500 فقط، عندما وصل الجيش الروسي إلى وان في 16 مايو، اضطر الأتراك إلى الانسحاب، ليقوم الجنرال الروسي نيقولاي بتعيين حكومة أرمنية على البلدة، ولكن بعد ستة أسابيع انسحب الروس والتحق بهم القادرون من الأرمن.

مجزرة الأرمن في أورفا
فى 18 أبريل جرت اجتماعات جماهيرية حاشدة في منطقة أرضروم، خلالها جرى توجيه الاتهام للأرمن بالخيانة، كما جرى تهديد كل مسلم يقوم بمساعدة أرمنى بأنه سيتلقى نفس المصير، وفي الأسبوع التالي أصبح أرمن منطقة أرضروم مستهدفين في غزوات إباحة دورية، وفي منتصف مايو جرت مذبحة في مدينة خنوس وضواحيها؛ حيث قتل 19 ألف أرمني.

من مجموع 65 ألف أرمني من سكان أرضروم بقى على قيد الحياة مئة أرمنى، بسبب عملهم في مواقع عسكرية هامة، الكثير منهم جرى ذبحهم وقذفهم في منحدر نهري قرب قرية كيماكس، وتم نفي الآخرون إلى حلب والموصل.

في قرية بايبورت الأرمنية من منطقة أرضروم، تم تجريد الأرمن من أموالهم وأخذوا بناتهم الصغيرات مقابل وثيقة عدم تعرض للأسرة، غير أنه لاحقا قامت عصابات الشبيحة “تشتيس” بالهجوم عليهم، وعندما حاولوا الهروب إلى مدينة ارزيرجان، والتي كان قد جرى تطهيرها من الأرمن سابقا، تصدت لهم الجندرمة بالرصاص.

إباحة الأرمن ورفع الحماية القانونية عنهم أخذت مقاييس لاتوصف، النساء والأطفال من مدينة أردو الساحلية، جرى شحنهم في عربات القطار بحجة نقلهم إلى مدينة سامبسون، ولكن المحطة الأخيرة كانت في عرض البحر.

في فترة الأحكام العرفية عام 1919، قام رئيس شرطة مدينة طربزون بإرسال الفتيات والأطفال الأرمن كهدايا إلى قادة منطقة استانبول من أعضاء الاتحاد والترقي، كما قام محافظ طربزون بخطف البنات الأرمن من مستشفيات الهلال الأحمر لاغتصابهن وابقائهن رهائن لديه.

الجزء الجنوبي من أرمينيا التركية جرى تنظيفه من الأرمن بواسطة ”طابور القصابين”تحت رعاية دولة الخلافة، في البداية طلب منهم دفع البدل، وبعد أن تأكدت الدولة من تجفيف مواردهم المالية قامت بتهجير غالبيتهم.

بتاريخ 25 سبتمبر، قامت القوات العثمانية بمحاصرة القرية وبعد فترة قصيرة استسلم الأرمن، الرجال جرى قتلهم في مكانهم، في حين جرى توزيع النساء والفتيات على الأتراك والأكراد المحليين، وأما البقية فقد جرى نقلهم إلى الجنوب لإغراقهم في نهر دجلة، بالمجموع جرى قتل 15 ألف من سكان بدليس وتم توزيع مساكنهم وأراضيهم على المهاجرين من الأتراك والأكراد.

في ذات الوقت جرى ذبح السكان في المناطق المحيطة بمدينة بدليس، ثم توجهت قوات دجفدت إلى منطقة موش حيث كان يسود سلام مؤقت بعد مذابح مايو، وبمجرد وصول القوات التي تتألف في الأساس من الأكراد والأتراك، بدأت عمليات قتل الرجال بالحرب أما النساء والأطفال فتم إرسالهم إلى الحظائر حيث تم حرقهم أحياء.

بالانتهاء من منطقة موش انتقلت عصابات دجفدت إلى مدينة ساسون الواقعة على شواطئ البحر الأسود، والتي قام الأرمن بالدفاع عنها حتى استنفذوا رصيدهم من الذخيرة والطعام، وبسقوط المدينة قامت قوات دجفدت بشحن السكان على البواخر وقذفهم في عرض البحر.

في مدينة خاربوته “إيلازيغ حاليا”، جرى قتل 13 ألف جندي أرمني، وجميع طلاب ومعلمي مدرسة الفرات العليا، وجميع رجال الدين الأرمن، إضافة إلى ذلك جرى تهجير سكان ميرزفون حيث المدرسة الأرمنية العليا “الأناضول” تحت رعاية الكنيسة البروتستانتية.

من خلال السفير الامريكي تمكن الأرمن من الحصول على عهد من أنور باشا وطلعت باشا بضمان أمن أعضاء الهيئة التدريسية، غير أن محافظ المنطقة أعلن أن لاعلم له بأي عهد، وأرسل الأرمن بمسيرة صحراوية طويلة حتى ماتوا، كما تعرض أغلب أرمن مدينة أنقرة إلى التهجير على الرغم من أنهم من اتباع المذهب الكاثوليكى.

عمليات التهجير في قيليقيا
لم تهتم دولة الخلافة بالتمييز بين “المذنبين” و“الموالين” من وجهة نظر السُلطة، كما أن هذه التهجيرات لم يكن لها علاقة بمدى قرب الأرمن من الجبهات، كما لم تعد السُلطات التركية تُعير أهمية لضرورة خداع الأرمن بقصص كاذبة لأسباب التهجير أو وجهة التهجير أو تنبيه الأرمن إلى ضرورة التزود بالغذاء والماء، والتي تعني عمليا تهيئتهم للموت جوعا.

عدا عن ذلك شجعت الجندرمة المرافقة لقوافل المهجّرين الأرمن، جميع العصابات بالأساس من الكرد والشركس وآغات التجمعات السكّانية، على التعدي على أفراد القافلة بالسلب والخطف والاغتصاب، ونتيجة ذلك بقى في نهاية المطاف على قيد الحياة حوالي 20% فقط. الأمر نفسه تكرر مع جميع أرمن الأناضول، في حين أن أرمن المحافظات الغربية وصلوا بصورة أسهل نسبيا إلى منطقة التجميع في دير الزور حيث جرى قتل غالبيتهم حوالي 150 ألف أرمني.

استخدام الأرمن في التجارب الطبية
في ظروف غياب شروط النظافة الصحية الأولية، انتشرت الأمراض والأوبئة بسرعة بين جنود الجيش التركي، وكانت السبب في وفاة جندى من كل عشرة، ومن أجل تحضير اللقاحات ضد التيفود جرت تجارب في المستشفى المركزي استخدم فيها الأرمن من جنود وطلاب المدرسة العسكرية كأرانب للتجارب، وغالبيتهم ماتوا.

جرت التجارب تحت الإشراف المباشر من قبل بروفيسور المدرسة الطبية في استانبول حمدي اكنار الزيات، وبعد انتهاء الحرب قامت محكمة استنابول الخاصة بوضع الزيات في مستشفى المدرسة الطبية للعلاج الإلزامى بسبب “اختلال عقلي شديد”. ويُعتبر اليوم هو مؤسس علم البكتريولوجيا التركي، وتحوّل منزله إلى نصب ومتحف في استانبول.

التجارب التي قام بها حصلت على موافقة المفتش الصحي العام للقوات العثمانية سليمان نعمان، وأدت تلك التجارب إلى احتجاج الأطباء الألمان العاملين في تركيا وأيضا احتجاج بضعة أطباء أتراك، أحد الأطباء الأتراك هو جمال حيدر، والذي حضر شخصيا التجارب وكتب عنها رسالة إلى وزير الداخلية عام 1918 حيث وصفها “بالبربرية” و “الجريمة بحق العلم”.

ومع حيدر تضامن الطبيب الرئيسي لمستشفى الهلال الأحمر في إرزيجان الدكتور صلاح الدين، متعهدا بمساعدة السلطات في البحث عن الجناة الذين قاموا بتنظيم وإجراء التجارب، غير أن وزير الدفاع رفض هذه الاتهامات، ولكن حيدر وصلاح الدين أصروا على شهاداتهم.

بنتائج التحقيقات التي قامت بها المحكمة العسكرية الاستثنائية في عام 1919، أصبح معلوم وقائع تسميم الأطفال الأرمن والحوامل الأرمنيات من قبل مسؤولي المصحات الطبية وبقيادة مدير دوائر وزارة الصحة في طربزون علي صائب، ومن كان يرفض تناول السم كان يجبر على تناوله أو يتم رميه في البحر ليغرق.

ومن تمكن من البقاء حيا والوصول إلى معسكرات التجميع جرى تزويده بالماء وفيه جرعة قاتلة من المورفين. شهود فرنسيين وأتراك أكدوا حوادث تسمم الأطفال الأرمن في المدارس والمستشفيات، كما استخدم الصائب حمامات بخار محمولة على السيارات لقتل الأطفال بالبخار الحار.

محافظ ديار بكر الدكتور محمد رشيد، أشاع أن الأرمن “ميكروبات خطرة” الأمر الذي يبرر التخلص منهم، كان ذلك لتأكيد الاعتقاد أن الأرمن أقل تطورا من المسلمين، الذين كانوا خير أمة وبالتالى أفضل من الأرمن، كما كان محمد رشيد أول من قام بربط حوافر الحمير على أرجل الارمن، وأول من قام بصلب الأرمن على صورة صلب المسيح. مجمل هذه الممارسات توحي أن ماقامت به الفاشية الألمانية في عهد هتلر للقضاء على اليهود مستوحى من التجرية التركية في القضاء على الأرمن.

أعداد الضحايا
يتفق معظم المؤرخين على أن عدد القتلى من الأرمن تجاوز المليون. غير أن الحكومة التركية وبعض المؤرخين الأتراك يشيرون إلى مقتل 300,000 آلاف أرمني فقط (ورغم ضخامة الرقم التركى أيضا إلا أن الدولة ترفض تسمية ذلك بإبادة أو تطهير عرقي)، بينما تشير مصادر أرمنية إلى سقوط أكثر من مليون ونصف أرمني بالإضافة إلى مئات الآلاف من “الآشوريين/السريان/الكلدان” واليونان. أما جريدة نيويورك تايمز في عددها الصادر في 15 ديسمبر 1915، تذكر أن تم قتل ونفي ما يقرب من مليون شخص على أيدي الأتراك.

بسبب هذه المذابح هاجر الأرمن إلى العديد من دول العالم من ضمنهم أرمن سوريا ولبنان ومصر والعراق، ولا يزال الأرمن يحيون تلك الذكرى في 24 أبريل من كل عام، وحتى الآن لا تعترف دولة تركيا بهذه المذبحة.

وجبل أرارات الذي استقرت على قمته سفينة نوح بحسب الرواية التوراتية، والذي يقع اليوم في تركيا يبقى بالنسبة للأرمن تذكيرا أليما بجريمة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي قامت به دولة الخلافة “العثمانية” الدولة العليّة.

 

*خريطة توضح سير عمليات الإبادة الأرمنية

خريطة توضح سير عمليات الإبادة الأرمنية