بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

بالتيمور تتمرد

*نُشر هذا المقال لأول مرة في موقع جريدة العامل الاشتراكي الأمريكية بتاريخ 29 أبريل الماضي.

كانت الإجابة في بالتيمور
منذ أن خرج السكان الأمريكيون السود في فيرجسون، بولاية ميسوري، إلى الشوارع لأسابيع وشهور من التحدي، لم يكن السؤال هو هل ستنتشر المقاومة، ولكن متى ستنتشر، وأين ستظهر.

ألقت فيرجسون الضوء على وباء العنف الذي تمارسه الشرطة العنصرية، المفلتة دائما من العقاب، الذي ابتليت به المجتمعات في جميع أنحاء البلاد. ولكن رد الفعل من مسؤولي الحكومة المنوط بهم الحفاظ على سلامة الناس -وبالأخص أولئك الرجال والنساء الذين من المفترض أن ”يحموا ويخدموا*“- كان في أحسن الأحوال، مجرد كلام بدون فعل.

في أسوأ الأحوال، كانت الاستجابة من النُخبة السياسية ووسائل الإعلام هي شيطنة الشعب ذاته الذي يعاني وطأة سوء المعاملة والعنف، وتحويله إلى كبش فداء.

كان هناك بعض الكلام في الكونجرس حول العسكرة العبثية لإدارات الشرطة التي تنشر الآن أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا العسكرية القادمة من ترسانة وزارة الدفاع الأمريكية الضخمة -ولكن بدون أي إجراء لسحب الدبابات، كما أصدرت وزارة العدل التابعة للرئيس باراك أوباما تقريرا شديد اللهجة ينتقد إدارة شرطة فيرجسون لانحيازها- ولكنها لم تزعج نفسها بتوجيه اتهامات ضد الشرطي الذي قتل مايك براون.

وبالتالي، فإن الفعل الوحيد الذي أتى من مسؤولي الدولة كان من الشرطة -ونحن نعرف ما الذي فعلته منذ بداية عام 2015، قتل ضباط الشرطة 381 شخصا حتى 28 أبريل– معدل مرعب يعني قتل أكثر من شخص كل ثماني ساعات. كان لابد لإحدى تلك الجرائم من إنتاج الانفجار الاجتماعي المقبل الذي قُدّم في وسائل الإعلام على أنه ”أعمال شغب“ غير مفهومة.

كانت هناك علامات أولى في ماديسون بولاية ويسكونسن، حين استجاب مناهضو العنصرية في غضون ساعات إلى مقتل توني روبنسون الأعزل والبالغ من العمر 19 عاما في شقة صديقه في شهر مارس، لتليها أيام من المظاهرات، يقودها طلاب المدارس الثانوية بعد الخروج من فصولهم. استمر الإناء يغلي على نار هادئة بعد شهر عندما شاهدت البلد بأكملها شرطيا بساوث كارولينا يطلق ثماني رصاصات على ظهر والتر سكوت الذي حاول تفاديه.

ثم طار غطاء الإناء منفجرا في بالتيمور، بعدما طاردت الشرطة فريدي جراي وهاجمته بحجّة تبدو وكأنها قادمة من نسخة معاصرة من ”القانون الأسود*“: النظر في عينيّ شرطي ثم الجري. جراي ”طُوى مثل ورقة أوريجامي“ –على حد التعبير البشع لأحد شهود العيان– وبحلول الوقت الذي خرج فيه من عربة الشرطة، كان حبله الشوكي شبه مقطوع وحنجرته منسحقة.

خرج الآلاف من الناس، معظمهم من السود، إلى الشوارع في بالتيمور خلال الأسبوع بعد وفاة جراي. ولكن استفزازات الشرطة في بالتيمور حثت المُحتجين على المواجهات الجسدية التي ”قيل“ إنها سببت إصابات وصلت إلى 15 من ضباط الشرطة. (أما عن عدد الأشخاص الذين ”قيل“ أنهم أصيبوا من الشرطة فلا يمكننا التأكد لأن أحد لم ”يقل“ شيئا عنهم).

بدأت الاشتباكات الرئيسية الأولى في مول ”مونداومين“ التجاري، نقطة التجمع لاحتجاج طلاب المدارس الثانوية الذي تمت الدعوة له على وسائل التواصل الاجتماعي. ظهر رجال الشرطة في كامل عتاد مكافحة الشغب الشبيه بـ”روبو-كاب*“، وأغلقوا محطة المواصلات المحلية حتى لا يتمكن الطلاب من الذهاب إلى منازلهم، ومن ثم واجهوا الشباب بالعصيّ ومسدسات الصعق الكهربائي. ليس من الغريب أن تم إلقائهم بالحجارة.
الآن هناك حديث محموم في وسائل الإعلام الوطنية حول ”العنف“ في بالتيمور. كان ذلك مختفيا على مدى السنوات الخمس الماضية، حين قتلت شرطة بالتيمور 109 شخصا، وفقا لاتحاد الحريات المدنية الأمريكي (ACLU).

فقط في السنوات الأربع الماضية، دفعت إدارة شرطة بالتيمور 5.7 مليون دولارا في تسويات قضايا وحشية الشرطة والحقوق المدنية. وكان من الضحايا صبي يبلغ من العمر 15 عاما كان يركب دراجة ترابية، ومحاسبة حامل بالغة من العمر 26 عاما كانت قد شهدت أحد الاعتداءات، وامرأة تبلغ من العمر 50 عاما كانت تبيع تذاكر يناصيب الكنيسة، وشماس كنيسة بالغ من العمر 65 عاما كان يلف سجارة، وجدة بالغة من العمر 87 عاما كانت تساعد حفيدها الجريح.

في هذا السياق، لا يمكن إلا أن نصف تصوير وسائل الإعلام لقذف الحجارة بأنه ”اندلاع العنف“ في بالتيمور بالفحش. كما قال مراسل مجلة ”أتلانتيك“ تا-نهيسي كوتس:

عندما يُبَشر باللاعنف كمحاولة للتهرب من تداعيات الوحشية السياسية، فإن هذه الدعوة تفضح نفسها. وعندما يبدأ اللاعنف في منتصف الحرب حين ينادي المعتدين طالبين هدنة، فإن الدعوة تكشف حقيقة كونها حيلة. وعندما يُنادى باللاعنف من قبل ممثلي الدولة، في حين تنهال الدولة بالعنف على مواطنيها، فإنه الدعوة تكشف عن كونها عملية نصب.

وحتى الآن، فباراك أوباما، أول رئيس من أصل أفريقي في بلد قام على العبودية، قدّم نفسه كزعيم للنصابين عندما ندد بالمتظاهرون باعتبارهم ”مجرمين وبلطجية“، وقال: ”إنهم لا يعلنون موقفا. إنهم يسرقون“. ”سوف يظهر مبنى واحد محترق على التلفزيون مرارا وتكرارا، ويضيع آلاف المتظاهرين الذين تظاهروا بالطريقة الصحيحة من المناقشة“.

أن ينضم أوباما إلى جوقة النفاق ويدين أولئك الذين خرجوا إلى الشوارع في بالتيمور هي صفعة أخرى في وجه مجتمع يواجه ”أكواما من العنف“. كلمات الرئيس تتجاهل غضب الآلاف من الناس الذين يتظاهرون بـ”الطريقة الصحيحة“، ولكن رغم ذلك يرون العنف الواقع من الشرطة ضد مجتمعات السود بشكل يومي يمرّ بدون مساءلة.

الثوران في بالتيمور ليس تكرار للمقاومة في فيرجسون. إنه يمثل توسعا في النضال، وتطوره على أراضٍ جديدة.

بالتيمور مشابهة لفيرجسون في أن لديهما أغلبية من السكان السود الذين يعانون سوء المعاملة والعنف على أيدي الشرطة، في حين يتعرضون لعدم المساواة. منطقة العاصمة ببالتيمور هي التاسعة عشر في أكبر مصادر الناتج الاقتصادي في الولايات المتحدة، ولكن وجدت دراسة بجامعة جونز هوبكنز أن الشباب في الأحياء الفقيرة هناك يواجهون ظروف مماثلة لنظرائهم في نيجيريا والهند. كما كتب دان دياموند لمجلة فوربس:

الأطفال السود في بالتيمور هم أكثر عرضة بتسع مرات تقريبا للوفاة قبل سن الواحدة من الرضع البيض. حالات الإيدز أكثر شيوعا بما يقرب من خمس مرات في المجتمع الأمريكي الإفريقي.. ”ستة أميال فقط تفصل أحياء رولاند بارك وهولينز ماركت ببالتيمور عن بعضها البعض“، يقول عميد هوبكنز المؤقت، جوناثان باجر، في العام الماضي ”ولكن هناك فرق 20 سنة في متوسط ​​العمر المتوقع بين الحييّن“.

هذا هو وجه الاختلاف بين بالتيمور وفيرجسون. على عكس فيرجسون فبالتيمور هي مركز حضري رئيسي في قلب الممر الشمال الشرقي وعلى بعد ساعة بالسيارة من عاصمة البلاد. إنها مُدارة من قِبل مؤسسة سياسية من السود، وهي كما ذكر أحد المساهمين في موقع ”العامل الاشتراكي“ على وسائل التواصل الاجتماعي، “مندمجة تماما في مشهد ما بعد حركة الحقوق المدنية -المشهد الذي يشمل درجات هائلة من الفصل العرقي، وتركيزات مكثفة من الفقر بالإضافة إلى وحشية مذهلة، جنبا إلى جنب مع طبقة وسطى وشريحة سياسية سوداء جديدة”.

وأخيرا، وبفضل مسلسلات مثل ”ذا واير*“، فبالتيمور هي على الأرجح ثاني أشهر مدينة بعد ديترويت كمدينة تدمرت فيها الطبقة العاملة السوداء بفضل تصفية الصناعات.

عندما وصف شون جود، المحرر المساعد في مجلة ”جاكوبيان“، المشهد في غرب بالتيمور بعد أعمال الشغب، كتب يقول: ”إن الشيء الأكثر بروزا لم يكن الدمار الذي تسبب فيه المتظاهرين -سيارة الشرطة المدمرة ومكتب الاقتراض المحطم- ولكن الدمار الذي تسبب فيه رأس المال: البيوت المتاهلكة المغطاة بألواح الخشب، الأكواخ والمساحات الخالية في مدينة مليئة بهذه المناظر“.

هذه الظروف، التي تشكّل خلفية قتل فريدي جراي، ستجبر العديد من الناشطين في حركة ”لحياة السود أهمية“ -كما فعل مارتن لوثر كينج ومالكوم إكس على حد سواء في حقبة أخرى- على مواجهة التقاطعات بين العنصرية والرأسمالية.

كما قال كينج في كلمتة قبل اغتياله بأقل من شهر في عام 1968، الكلمات التي تكررت مرات عديدة على وسائل التواصل الاجتماعية على مدى الأسبوع الماضي:

يجب أن أقول الليلة أن الشغب هو لغة غير المسموعين. وما هو الذي فشلت أمريكا في سماعه؟ لقد فشلت في الاستماع إلى أن محنة السود الفقراء قد تفاقمت على مدى الـ 12 أو 15 عاما الماضية. لقد فشلت أن تسمع أن وعود الحرية والعدالة لم تتحقق. وفشلت أن تسمع أن قطاعات واسعة من المجتمع الأبيض هم أكثر قلقا بخصوص الهدوء والوضع الراهن من قلقهم تجاه العدالة والإنسانية.

يواجه المعارضون للظلم اليوم مهمة البناء على الغضب المرير والرغبة في النضال من أجل التغيير التي تتضح في الانفجارات الجماهيرية في فيرجسون وبالتيمور وما بعدهما.

نحن بحاجة إلى تحدي النفاق والكذب بشأن ما حدث هذا الأسبوع في شوارع بالتيمور، إلى التنظيم من أجل قدر من العدالة نريده هنا والآن -بدءً من توجيه الاتهام لرجال الشرطة الذين قتلوا فريدي جراي، والذي كان قتلهم له واضح تماما مثلما لو كانوا قتلوه بمسدساتهم- وتقديم رؤية لعالم مختلف يستحق القتال من أجله، مبني على التضامن والديمقراطية والعدالة.

 

*”لنحمي ونخدم To Protect and Serve“ هو شعار الشرطة الأمريكية.
*”القانون الأسود Black Codes“ هي قوانين صدرت في الولايات الجنوبية في أمريكا بين عامي 1865 و1866 بعد الحرب الأهلية بغرض الحدّ من حريات وحقوق الأمريكيين السود بعد تحريرهم.
*”روبو-كاب RoboCop“ هو فيلم خيال علمي من إنتاج عام 1987 عن شرطي يحصل على جسد آلي بعد تدمير جسده البشري.
*”ذا واير The Wire“ هو مسلسل أمريكي استمر من 2002-2008 عن واقع حياة الفقر وتجارة المخدرات والفساد في مدينة بالتيمور.