بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

عربي ودولي

ما قل ودل

ماذا حدث في الانتخابات البريطانية؟ اسكتلندا هي ما حدث

إيد ميليباند، رئيس حزب العمال البريطاني السابق
إيد ميليباند، رئيس حزب العمال البريطاني السابق

ما بين ليلة وضحاها، حرفيا، أي بين غلق باب التصويت في الساعة العاشرة مساء السابع من مايو 2015 إلى الساعة الواحدة أو الثانية صباحا، لقى حزب العمال البريطاني هزيمة ماحقة، بعد أن كان رئيسه في المساء يطرح نفسه باعتباره رئيس الوزراء القادم وجد نفسه مضطرا إلى الاستقالة كرئيس للحزب والاعتذار عن “فشله”. لقد كانت الهزيمة الأخيرة لحزب العمال، في ظل جوردون براون، متصورة ومتخيلة إذ أتت في أعقاب الأزمة الرأسمالية العالمية التي كان مركزها أمريكا وبريطانيا، وللدقة رجال المال في وول ستريت وفي”السيتي” في لندن.

خاض حزب العمال تلك الانتخابات، 2010، بطريقة أقل ما يقال عنها أنها انتحارية، بمعنى أنهم كانوا يتمنون الهزيمة. نعم. يحدث في بعض الأحيان أن يتمنى الحزب الحاكم أن “تنشق الأرض وتبلعه” حرفيا، لأنهم لم يكن لديهم أي شيء يقدمونه ولا أي حل يخرجون به من الأزمة الاقتصادية التي اعتصرت الطبقات الأفقر في المجتمع. بل إن الاستراتيجية الوحيدة التي ارتآها حزب العمل في تلك الأيام، هي الاعتصار والمزيد من الاعتصارللطبقة العاملة، وحيث إن الطبقة العاملة هي سنده الاجتماعي الأساسي، فقد دخلوا الانتخابات وكانوا قد أسلموا “الروح” السياسية وآثروا أن يقوم حزب المحافظين بتوجيه الطعنة إلى صدر العمال، وأن يقوموا هم، بكل الانتهازية، بمعارضة حزب المحافظين. وعندما يُسألون عن اقتراحاتهم البديلة كانوا يقولون إنهم يرفضون هذه الاستقطاعات، وهذا العنف الطبقي الموجه ضد العمال، وأنهم هم لو كانوا في الحكومة كانوا سيبطئون “إيقاع الاستقطاعات”!! ولذا لم يكن من الغريب أن يسميهم الكثير من اليساريين “حزب المحافظين دايت”.

ولم يكن أكثر دلالة على هذه الروح الانتهازية، على هذا التشاؤم، على الروح العبثية التي سادت حزب العمال في انتخابات 2010 أكثر من ورقة تهنئة تركها وزير مالية حزب العمال لوزيرالمالية الجديد الآتي من حزب المحافظين وضعها في الخزينة الخاصة للوزير قائلا له: تهانينا إن الخزانة فارغة! هذه الورقة كانت لا تزال في جيب ديفيد كاميرون بعد أربع سنوات وأخرجها في لقاء تليفزيوني قائلا هذه كانت تركة حزب العمال لنا!!

ظن حزب العمال، بعد أربع سنوات من تركه هذه “التهنئة” في الخزانة الخاوية أنه سيسير إلى الحكم كما لو كان بفعل الجاذبية الأرضية. حزب المحافظين بالفعل زاد الفقر في بريطانيا، أنشأ ما يسمى “عقود العمل بلا ساعات” وهي من أكثر أشكال العمل استغلالا، زاد غنى المليارديرات حتى أن ثرواتهم تضاعفت في السنوات الأخيرة، وفي عهد المحافظين عادت “بنوك الطعام” الخيري الذي يقدم للفقراء ورأينا طوابير الفقراء في بريطانيا تقف تتسول الإفطار. دع الجاذبية تعمل وسنكون في عشرة داوننج ستريت.

النتيجة في صباح 8 مايو 2015: هزيمة لحزب العمال أسوأ من الهزيمة التاريخية التي لقيها من أربع سنوات، واتسع الفارق بينه وحزب المحافظين إلى 98 مقعدا. واستقالة إيدميليباند من رئاسة الحزب.

ماذا حدث؟ اسكتلندا هي ما حدث
لعلنا جميعا نتذكرالاستفتاء الذي جرى في اسكتلندا في سبتمبر 2014، وقام فيه الحزب الوطن الاسكتلندي مع اليسار الراديكالي بالدعاية لفكرة الاستقلال عن بريطانيا. وكان اليسار الراديكالي في إنجلترا أيضا يساند فكرة الاستقلال. ووقفت الأحزاب الكبرى الثلاثة، أحزاب المؤسسة الحاكمة، المحافظون والعمال والليبراليون الديمقراطيون، ضد الاستقلال. وانتهى الاستفتاء بحصول حملة الاستقلال على نحو 44,5% من الأصوات وحملة رفض الاستقلال على حوالي 55% من الأصوات.

كانت حملة الاستقلال حملة قومية وطبقية، إذ إنها كانت تمزج بين رغبة السكوتلنديين في الخروج من عباءة المملكة المتحدة برفض السياسات اليمينية لأحزاب المؤسسة الحاكمة للملكة المتحدة. الحزب الذي قاد تلك الحملة، الحزب الوطني الاسكتلندي، سياساته على يسار حزب العمال، وقف ضد دخول بريطانيا الحرب ضد العراق، ويقف ضد تجديد وتوسيع الترسانة النووية لبريطانيا، ويقف ضد إلغاء مجانية التعليم  الجامعي كما حدث في إنجلترا، ويقف ضد خصخصة الخدمات الصحية العامة كما يحدث في إنجلترا، ويقف ضد رفع سن المعاش كما هو الحال في إنجلترا. بل إن هذا هو “المزاج السياسي العام” في اسكتلندا، حيث من النادر أن ينجح أي مرشح من حزب المحافظين هناك. وعليه كانت حملة استقلال اسكتلندا حملة قومية يسارية معادية للإمبريالية البريطانية وكان عدوها الأول هو حزب المحافظين الذي يحكم بريطانيا كلها، ويحكم اسكتلندا باعتبارها جزءا من بريطانيا. ولهذا كان حزب العمال الاشتراكي البريطاني، وهو حزب إنجليزي بالأساس، يساند حملة الاستقلال لأن من شأن نجاحها تقليم الأظافر الاستعمارية لبريطانيا العظمى.

بالطبع لم تعجب هذه الحملة الرأسمال البريطاني الكبير. وقامت المؤسسات المالية بحملة رعب تهدد اسكوتلندا بالإفلاس. وقامت سلاسل السوبرماركت الكبرى مثلا بالتهديد بأنها ستترك اسكتلندا إن استقلت. كما هددت الدوائر المالية البريطانية اسكوتلندا بإنها لن تسمح لها باستخدام الجنيه مما يهددها بالإفلاس أو الانهيار المالي. ومن جانبها قامت أحزاب المؤسسة الحاكمة التي تخدم الرأسمال الكبير، حزب المحافظين وحزب العمال بالأساس، بشن حملة ترويع وتخويف دارت عن البطالة التي ستعانيها الطبقة العاملة السكوتلندية وانهيار الخدمات. ولم تكن هذه الحملة لتكتسي أي مصداقية لولا اقترانها بحملة الترويع من جانب الرأسمال الكبير بشكل مباشر. أي أن الرأسمالية البريطانية استخدمت أسلحتها الاقتصادية والسياسية في آن واحد ضد استقلال اسكتلندا. وبالفعل جاءت النتيجة كما جاءت.

موقف حزب المحافظين في اسكتلندا لم يتأثر بهذه الحملة حيث إنه من الصعب النزول عن القاع، ولكن حزب العمال هو من تأثر. فإن كان الاسكتلنديين قد تم ابتزازهم والضغط عليهم من أجل “إقناعهم” بضرورة الإبقاء على بريطانيا العظمى، فإنهم لم ينسوا دور حزب العمال في هذا الابتزاز اليميني. لم ينسوا أن حزب”المحافظين دايت” قد قام بابتزازهم بالنيابة عن الرأسمال الكبير. وكانت النتيجة هي أن حزب العمال كان حتى الأمس هو أكبر حزب سياسي في سكوتلندا بناء على نتائج انتخابات 2010 (41 مقعدا من بين 59 مقعدا لسكوتلندا في البرلمان البريطاني) أما اليوم فإن له مقعد واحد! بعبارة موجزة: لقد امّحى حزب العمال في اسكتلندا. ماذا عن الحزب الوطني الاسكتلندي؟ بناء على نتائج انتخابات 2010 ظل الحزب حتى الأمس يحوز 6 مقاعد من بين 59، واليوم يحوز 56، أي بعبارة بسيطة: فاز في جميع الدوائر الانتخابية الاسكتلندية ما عدا مقعدا لحزب العمال ومقعدا لحزب المحافظين ومقعدا لحزب الليبراليين الديمقراطيين، أي الأحزاب الثلاثة الممثلة للمؤسسة الحاكمة والتي وقفت في وجه حملة الاستقلال!

وكما هي العادة دائما، بدأ الخاسرون من حزب العمال يصرخون بصوت ثغاء الذبائح: “نعم إنها هزيمة تاريخية ولكن هذا لا يعني أن كل من صوت للحزب الوطني الاسكتلندي يؤيد الاستقلال!” لكم الحق كل الحق. فلنكن أكثر دقة إذا: إن الأغلبية الساحقة للاسكتلنديين صوتوا للحزب الذي يطرح مهمته التاريخية وسبب وجوده العمل على استقلال اسكتلندا، الحزب الذي قاد حملة الاستقلال في الاستفتاء، الحزب الذي يعادي الميول الحربية لبريطانيا ويعارض مغامراتها الاستعمارية، الحزب الذي يريد التخلص من الترسانة النووية، ويحافظ بالفعل في اسكتلندا على مجانية الصحة والتعليم الجامعي. نعم هذا هو الحزب الذي صوت له الاسكتلنديون ليمثلهم في برلمان “بريطانيا العظمى”. إن هذا البرلمان سيشهد أزمات سياسية ضخمة ستكون كتلة الحزب الاسكتلندي التي تقف على يسار حزب العمال جزءا منه ونستطيع أن نقول إن شبح استقلال اسكتلندا سيخيم على هذا البرلمان كلما طرح الموضوح وكلما سُكت عنه!

إيد ميليباند: اللي يخاف من العفريت يطلع له!
لم تحرم سكوتلندا حزب العمال من 40 مقعدا كانوا لديه حتى الأمس فحسب، بل في رأيي أثرت القضية الاسكتلندية عليه بأكثر من ذلك، بكثير. لقد كان التحالف المحتمل بين حزب العمال والحزب الوطني الاسكتلندي مطروحا في الأوساط السياسية أثناء الانتخابات، ولم يستبعده عدد من قيادات حزب العمال، للوقوف في وجه حزب المحافظين. ولكن هذا التحالف كان بالنسبة لإيد ميليباند “عفريتا” يريده أن ينصرف بأسرع وقت، فهو “يرعب” الناخبين الإنجليز من الطيف السياسي اليميني. حتى إن رئيسة الحزب الوطني الاسكتلندي عرضت في إطار مناظرة تليفزيونية مذاعة على الهواء على إيد ميليباند التحالف سياسيا و”العمل معا من أجل إخراج حزب المحافظين من أروقة الحكومة” بشرط أن يعد ألا يكون صورة شاحبة من حزب المحافظين، ألا يكون “حزب المحافظين دايت”، أي أن يعد بسياسات أكثر يسارية. وكان رد فعل ميليباند هو رسم تعبيرات طفولية على وجهه واللعب بالحواجب ورفع كتف وخفض الآخر وإعطائها ظهره تارة وكتفة تارة أخرى وهي تتحدث إليه! كان، حرفيا، يغازل اليمين. كان يفعل كل ما بوسع إنسان أن يفعله ليبدي الرفض الكامل لما يسمع!! لم يكن كافيا بالنسبة له أن يرفض العرض حتى “يصرف العفريت”، بل الأمر استحق القليل من رقص الزار! فهو لا يرفض هذا التحالف فقط، إنه يرفضه للغاية، يرفضه قوي جدا خالص! ورد عليها بإنه لا يمكن أن يقبل العمل معها لإن حزبها حزب متطرف، أي يساري، ويريد تحطيم بريطانيا.

لماذا كل هذا الرفض؟ لأن حزب المحافظين كان بالفعل بدأ يشن حملة يقول فيها إن انتخاب ميليباند، حزب العمال، لن يعني إلا إدخال الحزب الوطني الاسكتلندي إلى مقر الحكم – 10 داوننج ستريت. لأن حزب العمال لن يستطيع أن يحصل عل أغلبية فسوف يتحالف مع الاسكتلنديين ويقدم لهم تنازلات – من ناحية السياسات اليسارية، الحقوق الاجتماعية، ومن ناحية الاستقلال أو المزيد من السلطة المحلية.

وقع ميليباند إذا في شر أعماله. لم يكن أمامه إلا الاندفاع باتجه اليمين الذي يغازله بالفعل وأن يقسم أغلظ الأيمان في كل فرصة أتيحت له أنه لن يتحالف مع الحزب الوطني الاسكتلندي لأنه متطرف يساريا وقوميا. لقد كان إيد ميليباند يساعد في تخويف الناخبين من “العفريت” اليساري الاسكتلندي، فيحضره لا يصرفه. وساهم هذا بالفعل في زيادة المناخ العام يمينية وزيادة تشدد الجمهور اليميني وثقته في نفسه.

وطبعا كان من نتائج هذا أن حزب العمال خسر كل مقاعده، إلا واحدا، في اسكتلندا والتي كانت تعتبر “خزانة” لمقاعد حزب العمال في البرلمان، وخسر في أنحاء بريطانيا الأخرى على يد الناخب اليميني.

لم تنفع سياسة حزب العمال في أن يكون “حزب المحافظين المخفف” لا في اسكتلندا ولا في إنجلترا. لقد احتفظ حزب العمال بمقاعده التي احتفظ بها تاريخيا لأسباب اجتماعية طبقية مثل لندن والشمال الإنجليزي ومنطقة وسط إنجلترا الصناعية حيث إنه لا يزال يمثل القيادة السياسية للطبقة العاملة. نصف ميزانية حزب العمال تأتي من اشتراكات النقابات العمالية فيه. هذه الانتخابات تفتح الأبواب واسعة لصراعات عدة ستجري في السنوات القليلة القادمة: صراعات قومية ضد بريطانيا الاستعمارية، وصراعات طبقية سيجد حزب العمال المهزوم صعوبة أكبر في ضبطها وربطها وخنقها، وصراعات من اليمين وأقصى اليمين ضد المهاجرين وضد البقاء في أوروبا.

ستشهد السنوات القادمة صراعات تتبدى على هيئة توليفات من القضايا القومية والطبقية والعنصرية. إن هذه اللحظة تقتضي وجود بديل يساري لحزب العمال أكثر من أي وقت مضى. وهذا السؤال لا يطرح نفسه على المستوى النظري الفلسفي، بل هو سؤال عملي بالأساس.