بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

سيريزا والترويكا و“المفارقات الساخرة”

“المثلث المستحيل” بالنسبة لحكومة سيريزا كان: 1- الرجوع عن التقشف، 2- البقاء في منطقة اليورو، 3- بقاء سيريزا في السُلطة. مهدت الترويكا لكسر هذا المثلث، فكل ما كانت تريده الترويكا هي حكومة يونانية تنفّذ برنامجا كاملا من التقشف (تحقق فائضا في ميزانية الحكومة وسط الكساد)،  و “الإصلاحات الهيكلية” (إنهاء الحقوق العمالية، ورفع القيود عن الخدمات والتمويل، وخصخصة الأصول المملوكة للدولة). لقد حصلت حكومة ساماراس السابقة على أموال لخطة الإنقاذ في مقابل هذه “الشروط”، في حين أرادت سيريزا تغيير تلك الشروط، فلم تكتفي الترويكا بعدم التنازل، بل فرضت شروط أشد قسوة على سيريزا.

وهذا إلى حد ما هو نتيجة لتدهور عائدات الاقتصادات والحكومة اليونانية خلال الخمسة أشهر من فترة تمديد خطة الإنقاذ، ولكن هذا أيضا لأن الترويكا تريد كسر سيريزا وإنهاء تعهدات الحكومة بمعارضة التقشف المالي والإصلاحات الليبرالية الجديدة. وهذا لـ “تشجيع” الآخرين.

الدعاة الأكثر قوة لتطبيق تلك التدابير الأشد قسوة يشملون صندوق النقد الدولي (الذي يريد استرداد أمواله)، ووزير المالية الألماني شوبل،و بعض الدول الصغيرة في منطقة اليورو  والأكثر فقرا حتى من اليونان، والحكومات المحافظة في البرتغال وأيرلندا وإسبانيا التي فرضت التقشف الشديد على ناخبيهم وتواجه الآن الحركات المناهضة للتقشف في المنزل. فكل هؤلاء ترجح كفتهم عن كفة القوى المطالبة بإيجاد “حلول وسط” من الفرنسيين والإيطاليين والمفوضية الأوروبية.

وتذكروا المفارقة القاسية في أن كل هذه المفاوضات المُضنية صُممت ليس من أجل تقديم المساعدة إلى الشعب اليوناني، ولكن ببساطة للحصول على الموارد  المالية بحيث يضمن صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي أنه سوف يتم السداد لهم دون أي تقصير. فأكثر من 90% من القروض التي قدمتها الترويكا في السنوات الخمس الأخيرة، تم صرفها لدائني الحكومة اليونانية دون لمس أي جانب من جوانب الاقتصاد اليوناني.

وكان الدائنون الرئيسيون هم البنوك الفرنسية والألمانية وصناديق التحوط، والذي حصلوا على سداد قيمة مشترياتهم المضاربة للسندات الحكومية اليونانية مع “قصة شعر”* صغيرة في عام 2012. بعد ذلك، تولى منطقة اليورو، وصندوق النقد الدولي أمر الدين بينما جُرّدت صناديق المعاشات اليونانية من احتياطيها.

حكومة سيريزا تخلت عن جميع التزامتها، والتي كانت في الأصل: خفض الديون إلى النصف، ثم إلغائها، ومناهضة التقشف، ومعارضة الخصخصة.. إلخ. في نهاية المطاف، ولتحصُل سيريزا على الصفقة، اقترحت زيادة الضرائب السنوية للفرد الذي يفوق دخله 33 ألف دولار (شريحة الأثرياء). الضريبة على المواد والخدمات الغذائية أصبحت 23% من القيمة المضافة. معدل ضريبة القيمة المضافة الخاص في الجزر اليونانية، والتي كان يعتمد عليها قطاع السياحة بشكل رئيسي في الاقتصاد، من المفترض أن تُلغى. كما من المفترض أن يزيد سن المعاشات ابتداء من مطلع 2016، ويتم استبدال الفائدة لأصحاب المعاشات ذوي الدخل المنخفض تدريجيا بداية من 2018.

ولكن في 25 يونيو، فإن ثنائي كريستين لاجارد وفولفجانج شويبله (رئيسة صندوق النقد الدولي ووزير المالية الألماني) أرادوا القضاء نهائيا على الفائدة التي تُمنح لأصحاب المعاشات ذوي الدخل المنخفض بحلول عام 2017. إذا قبلت الحكومة هذا الاقتراح من أجل إصلاح نظام المعاشات في البلاد، فهذا يعني أن الشخص الذي يتلقى اليوم معاشا شهريا بقيمة 500 يورو (560 $) – ما يقرب من 50٪ من أصحاب المعاشات في اليونان تحت خط الفقر – سيتم اقتطاع ما يقرب من 200 يورو (223 $) من المبلغ الذي يتلقاه.

ولنفهم لماذا يجب أن نسمع من اليونانيين أنفسهم في تقارير وسائل الإعلام المختلفة، هذه ردود أفعال مستقاه من وسائل الإعلام من اليونانيين الذين يعيشون في سالونيك، ثاني أكبر مدينة في اليونان.

ميخاليس ناستوس 54 عاما، يدير محل صغير لبيع الملابس، يبيع الجينز بـ 10 يورو، والقمصان بـ 6 يورو، ومجموعة من فساتين الصيف الرخيصة، خسر أكثر من 50% من الأرباح بعد سنوات من الأزمة والبطالة وزيادة الضرائب. وقال ناستوس إن خوفه الرئيسي كان من اقتراح الارتفاع في ضريبة القيمة المضافة – ضريبة المبيعات غير المباشرة التي من شأنها رفع الأسعار وبشكل عشوائي تؤثر على جميع المُشترين، والذين يعاني معظمهم بالفعل من آثار الزيادات الضريبية السابقة. وأضاف: “بالطبع أنا ضد ارتفاع ضريبة القيمة المضافة، إنها بالفعل مرتفعة جدا، فسيكون لها تأثير الضربة القاضية. هذه التفاصيل الصغيرة ستؤثر على الناس فعلا. سعر الخبز سيرتفع – هذا أمر مهم لأن الناس في اليونان ما زالوا يتناولون الكثير من الخبز، حتى سعر رغيف السمسم ارتفع من 50 سنتا إلى 70 سنتا، هذا بالطبع  سيكون له تأثير كبير وواضح، فسوف ترتفع أيضا تكاليف التعبئة والتغليف، والطاقة، والأساسيات مثل المكرونة. الأفراد ذوي الدخل المنخفض لن يكونوا قادرين على شراء احتياجتهم، والمزيد من الناس لن يكونوا قادرين على الحياة”.

ميخاليس حاجي-أثانسياديس، 84 عاما، ضابط شرطة سابق قد تقاعد في سن الـ 50، قال إن معاشه انخفض من 1600 يورو إلى 1000 يورو في الشهر، وتم منع الفوائد الإضافية. لكن معاشه لا يزال أعلى بكثير من راتب ابنته البالغة من العمر 52 عاما، والتي كانت مدرسة في مدرسة ثانوية، وهذا ينطبق أيضا على شقيقها وزوجته، والذين ما زالوا يعيشون مع والديهم لتغطية نفقاتهم. وأضاف: “الناس جياع. لمدة خمسة أشهر لم يكن هناك أي تقدم، فالكثير من المحلات التجارية قد أُغلقت. الدخل أصبح أقل، ومع ضريبة القيمة المضافة أصبح كل ما تحتاج لشرائه أغلى بكثير”.

وبالقرب من السوق، إمرأة في الخمسين من عمرها، تقول أن الدخل الرئيسي لها كان من بيع السجائر في السوق السوداء، ووصفت كيف اعتاد المشترين شراء خمس أو ست رزم، ولكن الآن يقومون بشراء واحدة أو إثنين فقط. وأضافت “إنها تشعر وكأن الحياة قد انتهت،بالكاد يمكننا إطعام أنفسنا، فأولادها فقدوا وظائفهم كمساعدين بإحدي المحلات التجارية خلال فترة الركود، وكلاهما يعشيان معها الآن”. وتضيف: “يبدو وكأنهم يسعون وراء أموال الضعفاء، فأغلبية الأفراد ذوي الدخل المرتفع هربوا بعيدا وأرسلوا أموالهم خارج البلاد”.

والمفارقة الساخرة الأخرى أن صندوق النقد الدولي يعلم جيدا أن اليونان لا يمكنها أبدا سداد الدين الذي يقدر بحوالي  300 مليار يورو، ما يعادل 180% من الناتج المحلي الإجمالي وأكثر. طلبت اليونان “تخفيف عبء الديون” في مقابل الموافقة على مزيد من التقشف، وأن تكون على المدى الطويل. ولكن رفضت الترويكا هذا الاقتراح، ورفضت النظر في تخفيف عبء الديون، وعرضت فقط أموال “للإنقاذ” لمدة خمسة أشهر أخرى وبكميات قليلة، وبالتالي فهذا يُبقي اليونان في قبضة الكساد والفقر.

لذلك لدينا هذا الاستفتاء. سيُطلب من اليونانيين التصويت على مجموعة معقدة من المقترحات التي تقدمت بها الترويكا. والسؤال المطروح هنا هو ما إذا كان اليونانيين سيقبلون تلك الاقتراحات أم لا. فإذا صوتوا بـ“نعم”، فمن المفترض أن تعود حكومة سيريزا إلى بروكسل وتقول أنهم يقبلون أي شروط مقترحة. أما إذا قال اليونانيين “لا”، فمن المحتمل أن يواجه اليونانيين وقف المساعدات والتمويل لسداد ديون حكومتهم، وقطع القروض من قِبل البنك المركزي الأوروبي، الذي يمول حاليا البنوك اليونانية لتلبية الطلبات المتزايدة من المودعين بسحب أموالهم والتي تقدر بالمليارات.

greek bank deposits

الحكومة سوف تضطر إلى فرض ضوابط على رأس المال لوقف هروب الأموال إلى الخارج (أغلبية الأثرياء والشركات قد قاموا بذلك بالفعل). لابد لها من إصدار سندات دين لدفع رواتب الموظفين الحكوميين وأصحاب المعاشات، فـ“سندات اليورو” تلك تنخفض قيمتها بسرعة، كما أصبحت عملة اليورو “الحقيقية” شحيحة.

هناك المزيد من المفارقات الساخرة. الأولى هي أنه إذا صوّت اليونانيين بـ“نعم” على اقتراح الترويكا، لن تكون هناك صفقة أخرى للموافقة عليها. فبرنامج الإنقاذ الحالي ينتهي في 30 يونيو. بعد ذلك، سوف تكون هناك مجموعة جديدة تماما من الاقتراحات يجب أن يتم التفاوض عليها، والترويكا يتحدث عن استحالة العمل مع سيريزا. فهم يتطلعون لإزاحة سيريزا من السلطة، حتى يتمكنوا من التفاوض مع حكومة سهلة الإنقياد.

أما الثانية فهي أنه إذا صوّت اليونانيين بـ“لا”، تم قطع القروض عن الاقتصاد اليوناني من قبل البنك المركزي الأوروبي، فبذلك ستتخلف اليونان عن سداد جميع ديونها، ولا يوجد أي إجراء فعلي لإزالة دولة من منطقة اليورو. فوفقا للقواعد، يجب على الدولة أن تطلب المغادرة، وغير ذلك لا يمكن إخراج أي عضو. هذا واضح بالنسبة لميركل، وهولاند، وقادة اليورو.

كان الانتقاد من الأحزاب الموالية للترويكا في اليونان أن تسيبراس يستخدم الاستفتاء لتجنب اتخاذ القرار بنفسه. وأنه يختبيء وراء الناخبين. هناك بعض الحقيقة في ذلك ولكنها ليس الحقيقة الكاملة لأن سيريزا ستشن حملة للتصويت بـ“لا”.

ولكن ماذا لو حصل على ذلك؟ بالتأكيد، يجب على الحكومة التحرك لوضع حد لهذه الفوضى المُضنية. يجب أن ترفض الاعتراف بدين الترويكا “المشين”، ويجب أن تفرض ضوابط على رأس المال، ويجب تأميم البنوك اليونانية، وتقديم الصروح الشامخة من الاقتصاد تحت سيطرة العمال. الشعب اليوناني يمكنهم أن يبدأوا في قلب هذا الكساد الاقتصادي، ولكن اليونانيين لن يستطيعوا فعل ذلك بمفردهم، إنهم بحاجة لجهود القوى العمالية في جميع أنحاء أوروبا؛ لكسر قبضة القوى الرأسمالية على السياسة الاقتصادية والاستثمار.

في مقال أخر، سأحاول تحليل حالة الاقتصاد اليوناني، وما يمكن القيام به لتحويله في إطار خطة لأوروبا.


* المقال منشور باللغة الإنجليزية في 28  يونيو 2015