تركيا:
مناورة أردوغان الدموية

تستخدم الحكومة التركية مجزرة سروج لشن الحرب – ليس على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، داعش، لكن على حركة التحرر الكردية.
في 20 يوليو، أودى تفجير انتحاري بحياة 31 اشتراكيا في “سروج”. وكان وفدا من فيدرالية الجمعيات الشبابية الاشتراكية (SGDF) في طريقه إلى “كوباني”(عين العرب) للمساعدة في إعادة بناء المدينة، وبناء مكتبة وملعب.
وقد وقعت المجزرة في ساحة المركز الثقافي “العمارة”، نقطة التقاء كل أولئك المتدفقين على الحدود التركية، لإظهار التضامن مع النضال في “كوباني” أو حتى لعبور الحدود. خلال قراءة الإعلان العام، فجّر مؤيد لداعش، يبلغ من العمر 20 سنة نفسه، وسط ما لا يقل عن 300 شخص.
النتيجة: 31 قتيلا والعديد من الجرحى – هجوم وحشي وشنيع على اشتراكيين من تركيا يقفون تضامنا مع حركة التحرر الوطني الكردية ويناضلون ضد حزب العدالة والتنمية (AKP) الحاكم في تركيا – الحزب الذي يقوم الآن بشكل أساسي مقام الدولة.
كان رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو والرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد أعربا عن تعازيهما، غير أن أردوغان لم يقطع زيارته لقبرص، كما أنه لم يعلن يوم حداد وطني (مثلما فعل في وقت سابق من هذا العام بعد وفاة الملك عبد الله عاهل السعودية).
معظم رسائل التعزية الدولية وُجّهت الى أردوغان، وذكرت وسائل الإعلام الغربية فيما يقارب الإجماع أن “إرهاب داعش استهدف الآن تركيا كذلك” مضيفة في بعض الأحيان أن الهجوم قد يكون عملا من أعمال الانتقام بعدما تم اعتقال بعض أنصار داعش منذ أسابيع مضت، وأن تركيا، على ما يبدو، تظهر أخيرا بعض الدوافع للانضمام إلى الحرب ضد داعش. غير أن هذا الهجوم لم يضرب “تركيا” أو مؤسسات دولتها، لكن استهدف اشتراكيين، معظمهم من الشباب، كانوا يعبرون عن تضامنهم مع النضال الكردي.
مثلما كان على وشك التجلي، فإن هذا الهجوم لم يكن سوى مجرد مقدمة لسلسلة من الأحداث المحمومة كشفت عنها الأيام التي تلت المجزرة، وبدء مرحلة جديدة في تركيا: حالة الطوارئ والحرب. الحرب غير الموجهة ضد داعش، لكن ضد اليسارالثوري وحركة التحرر الوطني الكردية.
حزب العدالة والتنمية ومسار التفاوض
من أجل فهم صحيح لهذه التطورات، من الضروري أن نأخذ بعين الاعتبار سياقا أوسع ونضالات السنوات الأخيرة. في يوليو2012، بدأ مسار التفاوض بين تركيا وحزب العمال الكردستاني (PKK). انطلق حزب العمال الكردستاني في هذا المسار من موقف قوة، والحال أن قواته المسلحة تفرض سيطرتها على مساحات شاسعة من الأراضي في محافظتي “هكاري” و”سيرناك”.
في نفس الوقت تقريبا، ابتداء من يوليو 2012، كانت الثورة في كردستان السورية (روجافا) قد بدأت في التبلور. فإذا كان من غير الممكن مضاهاة قوات حماية الشعب (YPG) مع حزب العمال الكردستاني (PKK) بسهولة، فإن كلاهما جماعات مسلحة داخل حركة واحدة أكبر من ذلك بكثير. ولما كان للحركة الكردية هيمنة فعلية قوية في المحافظات ذات الأغلبية الكردية في تركيا، فقد كان بإمكانها أن تركز على الصراع السياسي هناك، فيما يبقى الدفاع العسكري عن كردستان السورية الأسمى.
وطوال هذا المسار، لم يخطو حزب العدالة والتنمية، الذي كانت هيمنته في تركيا في تراجع فعلي في ذلك الوقت، مثلما اتضح خلال انتفاضة “جيزي” في يونيو 2013، أي خطوة جدية إلى الأمام. فالطرفان يستخدمان عملية التفاوض لتعزيز مصالحهما ومواقفهما الخاصة في إطار ميزان القوى. كان أردوغان يراهن على أنه بإمكانه تقديم نفسه كزعيم يرسي السلام في تركيا ويضمن أصوات الأكراد المحافظين، وبالتالي ترسيخ هيمنة حزب العدالة والتنمية وتهميش الحركة الكردية.
من ناحية أخرى، فإن الجانب الكردي أراد تعزيز هيمنته في شمال كردستان والتطور إلى بديل سياسي جدي في كل تركيا مع الحزب المعترف به الموالي للأكراد، أي حزب الشعوب الديمقراطي (HDP). يبدو واضحا هنا أي الطرفين أكثر نجاعة في هذا المجال.
ونتيجة لافتقار حكومة حزب العدالة والتنمية لمصلحة في السعي بصدق في مسار التفاوض – لا سيما بعد أن انحازت بشكل أكثر أو أقل صراحة لعصابات داعش ضد كردستان السورية – كان هذا المسار ميّتاً بالأساس. حزب العدالة والتنمية يدعم جميع أنواع الجماعات الجهادية في سوريا من أجل إسقاط الحكومة السورية والقضاء على القوات الكردية.
عندما ظهرت داعش كقوة مهيمنة في أجزاء كبيرة من سوريا والعراق وبدأت في شن هجماتها على كردستان السورية، ولاسيما “كوباني”، قد يكون أردوغان شعر بأنها اللحظة المناسبة للقضاء على هذا الحكم الذاتي الكردي الغير المريح والمزعج مباشرة على الحدود الجنوبية.
لو تم القضاء على “كوباني” في غضون أيام، لما اضطرت تركيا ولا الولايات المتحدة إلى اتخاذ موقفا واضحا. لقد أثار أردوغان سخط معظم الأكراد، حتى أولئك الغير متعاطفون بالضرورة مع حزب العمال الكردستاني (PKK)، عندما قال ساخرا أن “كوباني” سقطت بالفعل، على الرغم من أن المعركة ما زالت في مرحلتها المبكرة. كما صرّح البيت الأبيض أيضا أن “كوباني” لم يكن أولوية استراتيجية – أمر غريب لأنه في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تقول للعالم أنها تقاتل داعش ببأس، قاصفة بعض المواقع في الرقة، كانت داعش تتقدم، 50 كيلومترا شمالا، نحو بلدة حدودية صغيرة بجيش هائل.
المقاومة البطولية لوحدات حماية الشعب (YPG) ووحدات الدفاع النسائية (YPJ) والاحتجاجات الحاشدة في تركيا من قبل الشباب الكردي واليسار الثوري أجبرت القوى الدولية على اتخاذ موقفا واضحا. في نهاية المطاف بدأت الولايات المتحدة بتوجيه ضربات جوية وتسليم طفيف للسلاح. بالنسبة لوحدات حماية الشعب (YPG) يعد هذا “أهون الشرين” في سياق يكون فيه “أهون الشرين” هو الخيار الذي يفرضه الأقوياء على الضعفاء. استخفاف الولايات المتحدة وتركيا بات واضحا الآن وحكومة الولايات المتحدة تعطي الضوء الأخضر لتدمير المعارضة داخل تركيا، وقصف حزب العمال الكردستاني (PKK) وربما كردستان السورية أيضا.
ومع ذلك أبقت تركيا على الحدود مغلقة الشيء الذي أثار سخطا عارما لدى الحركة الكردية وكذلك الكثير من الشباب الأكراد الذين كانوا على استعداد لعبور الحدود والانضمام إلى المقاومة. عندما تم السماح أخيرا لبضع المئات من البيشمركة من كردستان الجنوبية (منطقة الحكم الذاتي في العراق) بالانتقال إلى “كوباني” عبر تركيا – بعد الضغط على تركيا من قطاعات واسعة من سكانها ومن قبل القوى الدولية – جاء ذلك متأخرا جدا لتغيير موقف معظم الأكراد من أردوغان.
خلال كل هذه الأحداث، لم تتوقف الدولة والجيش التركي عن بناء الطرق والمراكز العسكرية والحواجز الهادفة للحد من حركة القوات المسلحة الكردية. في المقابل، سحبت القوات الكردية المجاورة الجزء الأكبر من قواتها إلى شمال العراق (الأغلبية إلى جبال قنديل، حيث مقر القيادة والتي عادة ما تكون ملاذا آمنا لحزب العمال الكردستاني (PKK). تم هذا الانسحاب على الرغم من إحجام الحكومة على إنشاء إطار قانوني له.
على الرغم من كل هذا، استمر زعيم حزب العمال الكردستاني (PKK) عبد الله أوجلان والحركة الكردية في الهجوم وواصلا عملية التفاوض. في 28 فبراير، أصدر ممثلو حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) وحكومة حزب العدالة والتنمية بيانا مشتركا في قصر “دولمه باهتشه” – وهو عبارة عن خارطة طريق تهدف إلى حل العجز الديمقراطي في تركيا وإنهاء الكفاح المسلح لحزب العمال الكردستاني (PKK) ضد الدولة التركية. مع هذا التقدم المحرز أجبرت الحركة الكردية حزب العدالة والتنمية مرة أخرى على اتخاذ موقفا واضحا في حين لا يرغب هذا الأخير فيه.
ومع اقتراب الانتخابات وإدراك أردوغان أن خططه لتغيير الدستور لصالحه في خطر، وأن عملية التفاوض لا تُقوّي حزب العدالة والتنمية لكن حزب الشعوب الديمقراطي (HDP)، غيًر مساره وانهى هذا المسار فعليا.
بعد أيام فقط من الاتفاق، تراجع أردوغان وأعلن أنه لا يعترف به. وبعد أسابيع قليلة توّج ذلك بقوله أن تركيا ببساطة ليس لها “مشكلة كردية”. وفي الوقت نفسه، تم عزل أوجلان مرة أخرى في سجن جزيرة “إمرالي”، وهو ما يعني أنه لا يمكن زيارته لا من طرف ممثل سياسي أو محام أو حتى قريب. وهو لا يزال معزولا إلى يومنا هذا.
الحملة الانتخابية: الهدف حزب الشعوب الديمقراطي (HDP)
كان لأردوغان هدف واضح من وراء الانتخابات البرلمانية في يونيو 2015. حزب العدالة والتنمية كان يريد الحصول على367 مقعدا على الأقل حتى يكون بمقدوره تغيير الدستور بمفرده. لقد كان يريد إدخال نظام رئاسي ذو مواصفات “تركية” لم يتم تعريفه بوضوح. وقد تمت الإشارة إلى فرنسا والولايات المتحدة كنماذج، لكن كذلك أيضا كانت المملكة العربية السعودية. حتى بين المؤيدين وغيرهم من الزعماء السياسيين في حزبه، لم تكن لهذه الفكرة شعبية تُذكر.
أصبح واضحا أن حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) هو وحده القادر على منع هذا الانقلاب الذاتي من فوق، من خلال اجتياز العتبة الانتخابية (10%) والفوز بتمثيلية برلمانية. وكان النظام الانقلابي في عام 1982 وضع هذه العتبة الانتخابية لضمان عدم حصول أي معارضة ديمقراطية أو يسارية على صوت في البرلمان.
بسبب هذا الخطر، أعلن أردوغان جهرا أن الهدف الرئيسي هو حزب الشعوب الديمقراطي (HDP). هذا يجب أن يُفهم بالمعنى الحرفي للغاية، بما أنه تم تسجيل أكثر من 150 هجمة على حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) في الأسابيع التي سبقت الانتخابات، بما في ذلك: مهاجمة مجموعات فاشية لمسيرة الحزب والشرطة تراقب مكتوفة الأيدي في “أرضروم”، وأعيرة نارية في مختلف مكاتب الحزب، وتفجيرات متزامنة في مكاتب الحزب في “أضنة” و”مرسين”، والتي لم يقتل فيه لحسن الحظ أحد لكنها خلفت 6 جرحى، ومقتل “حمد الله أوجي” الذي كان يقود سيارة حملة الحزب، وقنبلتين في مسيرة حاشدة للحزب في “آمد” و”دياربكر” قبل يومين من الانتخابات أسفرتا عن مقتل 4 أشخاص وخلفت عشرات المصابين بجروح شديدة .
ورافق هذا الهجوم الهائل ترسانة من وسائل الإعلام القريبة من حزب العدالة والتنمية تطلق النار بدون هوادة على حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) وأحد قادتها المشاركين، الكارزمي “صلاح الدين دميرتاز”. طوال هذا الوقت كان أردوغان يخترق الدستور علنا – الذي يتطلب منه أن يكون رئيسا غير حزبيا – وتم التسليم حتّى بأنه استخدم المال العام لجولة حملته الانتخابية. ومع ذلك فقد دعا الناس للتصويت لصالح النظام الرئاسي، وليس لحزب معين، مع أنه وفي بعض التجمعات لم يكن حريصا بما فيه الكفاية وانفلت منه اسم الحزب الذي يعرفه الجميع على أي حال .
وعلى الرغم من هذه الحملة الهائلة من الأكاذيب والعنف الجسدي، لم يرد أنصار حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) على أي من هذه الاستفزازات. حتى أنهم حاولوا احتواء بعض الاشتباكات بين الجيش وحزب العمال الكردستاني (PKK) ، حيث أن الجيش أصبح أكثر نشاطا من جديد، محاولا الحث على الهجمات من أجل التقليل من الدعم لحزب الشعوب الديمقراطي(HDP) من قبل غير الأكراد في غرب تركيا.
أثبتت كل هذه الاستفزازات عدم جدواها: فقد اجتاز حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) العتبة الانتخابية، وحصل على أكثرمن 13% و80 مقعدا في البرلمان، في حين تدحرج حزب العدالة والتنمية الى أكثر من 40% بالكاد (من مايقرب 50%) وفاز بـ 258 مقعدا فقط. ولا تعد هذه النتيجة بعيدة فقط عن الأغلبية اللازمة لفرض تغييرات دستورية دون استفتاء – بل أنها لم تكن حتى أغلبية مطلقة. وهذا يعني أن فترة حكم الحزب الواحد قد انتهت، وأنه سيتم تشكيل حكومة ائتلافية.
حاليا تدير تركيا حكومة مؤقتة، وإذا لم يتم تشكيل تحالف حكومي بحلول نهاية أغسطس، ستجرى انتخابات أخرى في الخريف. فمن الواضح تماما أن أردوغان يرفض مجرد القبول بنتائج الانتخابات. لكن من أجل تحسين فرص حزب العدالة والتنمية في انتخابات مبكرة محتملة، يجب أن تتحول علاقات السلطة في تركيا على نطاق واسع إلى صالحه – وهذا لا يمكن أن يتحقق ببساطة بحملة حثيثة.
وبعبارة أخرى، أردوغان وحزب العدالة والتنمية على استعداد لبدء الحرب والجز بالبلاد في حالة الطوارئ من أجل البقاء في السلطة. لا توجد حقا أي وسيلة أخرى لتحقيق ذلك. إأنهما يخشيان بشدة فقدان السلطة، وجميع جرائمهما الدنيئة والفساد والعنف الذي تمارسه الشرطة، والاعتداءات النيوليبرالية على العمال، من شأنها أن تؤدي، على أقل تقدير، إلى دعاوى قضائية ضد كوادر قيادة حزب العدالة والتنمية وقد تهدد ممتلكاتهم وحياتهم.
معنى المجزرة
الهجوم على وفد فيدرالية الجمعيات الشبابية الاشتراكية (SGDF) في “سروج” هو هجوم على اليسار الثوري في تركيا، الذي يقف متضامنا مع الحركة الكردية. فهذه الفيدرالية هي المنظمة الشبابية للحزب الاشتراكي من أجل المقهورين (ESP)، وهو طرف مؤسس في حزب الشعوب الديمقراطي (HDP). “فيجن يوكسكداغ”، إحدى قياديي حزب الشعوب الديمقراطي، كانتسابقا رئيسة للحزب الاشتراكي من أجل المقهورين. ولم يكن هذا الهجوم عشوائيا، كما لم يكن بالتأكيد هجوما على “تركيا”. لقد كان اعتداءا حاقدا استهدف الثوار في تركيا وحركة التحرر الوطني الكردية.
ومع ذلك فقد عالجته وسائل الإعلام الغربية بطريقة مختلفة جدا: كل الإرهاب عاد الآن إلى تركيا، كما لو كان هذا أول هجوم تنفذه داعش على الأراضي التركية. هذا ليس صحيحا، مثل عدم صحة أن القنابل في مسيرة حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) في “آمد” زرعتها أيضا داعش.
وعلاوة على ذلك فإن “سروج”، على بعد بضعة كيلومترات فقط من الحدود ومن “كوباني”، تحت رقابة مباشرة لوكالات الاستخبارات. لا أحد بإمكانه التحرك هناك دون معرفة المخابرات التركية (MIT). وعلى ذلك، فداخل اليسار التركي والكردي، تتفشى بشكل واسع فرضية أن المخابرات التركية يجب على الأقل أن تكون على علم بهذا الهجوم . وقد أظهر تجليا لمزيد من الأحداث أن هذا الافتراض معقول.
ما تلا المجزرة في “سروج” تطور بسرعة كبيرة بحيث لا يمكن للمرء أن يصدق أن الدولة التركية لم تكن متحضّرة لذلك. الشرطة هاجمت تقريبا كل المواكب الجنائزية لضحايا المجزرة واعتقلت عدة أشخاص.
حزب العمال الكردستاني (PKK) ومغاوري المدن للشباب الكردي، حركة الشباب الوطني الثوري (YDG-H) ، ردوا الفعل وقتلوا اثنين من رجال الشرطة في “أورفا” اتهموهم بنسج علاقات مع داعش. اغتالوا أيضا منظم رئيسي لداعش في اسطنبول، يُفترض أنه كان مسؤولا على تجنيد مقاتلين جدد. حزب العمال الكردستاني (PKK) أعلن رسميا أن الهجمات في “أورفا” نفذتها الجماعات المحلية، وليس بناء على قرار من قيادة المنظمة.
باتهام حزب العمال الكردستاني (PKK) بأنه ارتكب خطأ عندما ارتكب هذا الانتقام، الكثير من المعلقين الليبراليين الذين لديهم بعض التعاطف مع الحركة الكردية وحزب الشعوب الديمقراطي (HDP) يتجاهلون تماما التاريخ الطويل من الاعتداءات المتكررة والتفجيرات، والقمع من قبل الدولة والجماعات الفاشية التركية إما بدعم أو، على أقل تقدير، بتسامح من قبل الدولة. هذا هو استمرار لتقليد عريق بين الليبراليين بخصوص جدل مفاده أن الأكراد ينبغي أن يكون لهم المزيد من الحقوق، ولكن ينبغي عليهم وقف الكفاح المسلح والتحول إلى حركة قانونية بأتم معنى الكلمة.
ما يتجاهله هذا الموقف هو أن الدولة التركية لن تصبح فجأة “متحضرة” و “ديمقراطية” بمجرد أن يتوقف حزب العمال الكردستاني (PKK) عن العصيان المسلح. هذا المنطق يتبع منطق الدولة، الذي يعتبر العنف وقمع الدولة، المباشر أو الغير مباشر، مجرد دفاع عن النفس. وليس من المستغرب بعد ذلك أن المتحدثين الرسميين للولايات المتحدة يدعمون تركيا في جهودها ضد حزب العمال الكردستاني (PKK)، في اشارة الى الحق في “الدفاع عن النفس” (للدولة التركية طبعا).
يمكن للمرء مناقشة ما إذا كان أم لا للرد المسلح من معنى من الناحية التكتيكية. ومع ذلك، فإن خط المنطق الليبرالي يبدو على هذا النحو: بعد عمليات القتل بدأت الدولة التركية غارات جوية على مواقع لحزب العمال الكردستاني (PKK) كردة فعل، وإن كان مبالغ فيها. وهكذا يتم تجاهل السياق الذي يحدث فيه هذا الصراع كلية. وعلاوة على ذلك، ما يتجاهله خط المنطق هذا هو أن الطريقة السريعة التي ردت بها تركيا مشبوهة للغاية، وتصبح أكثر شبهة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التعليل بأن حزب العمال الكردستاني (PKK) شد مرارا انتباه النشاط الجوي المتزايد لطائرة استطلاع تركية في الأسابيع الأخيرة.
حرب ضد داعش؟
مخططات الدولة التركية للتدخل في سوريا باتت معروفة منذ زمن. فقد أثبتت الوثائق المسربة أن الخابرات التركية كانت تفكر في هجوم تحت العلم المزيف من أجل إقامة ذريعة للحرب. وصدرت اقتراحات مرارا وتكرارا عن “منطقة أمنية” في شمال سوريا انطلاقا من أنقرة، والتي، وان تفاوت نطاقها، بدت موجهة بوضوح وفي كل الاحوال ضد كردستان السورية.
بعد هزيمته الانتخابية، عانى أردوغان من هزيمة أخرى. فوحدات حماية الشعب ((YPG ووحدات الدفاع النسائية ((YPJ وحلفائهم حرروا “تل أبيض” من سيطرة داعش. وكان هذا نصرا حاسما، وربما أكثر أهمية من وجهة نظر عسكرية من الدفاع عن “كوباني”. فالخط من “أقجة قلعة” في تركيا عبر “تل أبيض” إلى “الرقة” (عاصمة داعش في سوريا) كان الطريق الذي تنقل داعش من خلاله الأسلحة والأدوية والمواد الكيميائية، والمقاتلين. وعلاوة على ذلك، من خلال اتخاذها “تل أبيض”، كانت وحدات حماية الشعب ((YPG قادرة على توحيد مقاطعات “كوباني” و”الجزيرة”. الهجوم لا يزال مستمرا، مع نجاحات كبيرة من قبل وحدات حماية الشعب ((YPG التي تضيق الخناق على “الرقة”.
ولكن كيف يمكن للحكومة التركية أن تتصرف؟ دعونا نتذكر أن داعش كانت في “تل أبيض”، على مقربة من الحدود التركية، لأكثر من سنة. كان العلم الأسود يُشاهد بشكل واضح من الأراضي التركية، ومع ذلك لم تنبس الحكومة ببنت شفة. مباشرة بعد سحق وحدات حماية الشعب ((YPG لداعش في “تل أبيض”، كثرت الضجة في حزب العدالة والتنمية وإعلامه.
تنتشر شائعات لا أساس لها تماما من الصحة عن كيفية قيام وحدات حماية الشعب ((YPG بالتطهير العرقي، وأعلن بأحرف كبيرة على الصفحات الأولى أن حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، وهو الحزب السياسي لوحدات حماية الشعب ((YPG، أكثر خطورة من داعش. بالطبع، هذا ليس مستغربا، فالدعم الضمني والصريح من حكومة حزب العدالة والتنمية لداعش أصبح الآن واضحا تماما.
ولم تتوقف وسائل إعلام حزب العدالة والتنمية عند هذا الحد. جنبا إلى جنب مع الحكومة طالبوا بتدخل عسكري فوري، الذي رفضته حتى قيادات الجيش (ويفترض، كما يتضح الآن، أنهم كانوا يدركون أن دافع التدخل هش جدا ولا بد من شيء أكثر خطورة للقيام بذلك). وتوّج أردوغان كل ذلك بإعلانه أنه لن يسمح أبدا لدولة كردية مستقلة أن تتشكل في سوريا (هذا على الرغم من حقيقة أن حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) لم يعلن هذا الهدف)، “مهما كان الثمن”.
بعد مجزرة “سروج” قام حزب العدالة والتنمية بتصعيد الوضع تماما. بعد فترة وجيزة، جدّ حادث آخر في البلدة الحدودية التركية “كيليس” خلف قتيلين: جندي تركي وعنصر داعشي. بالنظر إلى كل الأحداث الأخرى، لا تكاد تجد أي شخص لا يزال يتحدث عن هذه الحادثة. ولكنها استخدمت بالاضافة إلى الهجوم الذي وقع في “سروج” كذريعة لحرب تركيا المفترضة ضد داعش. فضربت الطائرات التركية بضعة أهداف داعش، قبل أن تحول قنابلها بالكامل تجاه حزب العمال الكردستاني (PKK).
التنسيق في كل هذا مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي واضح. في اجتماع حلف شمال الاطلسي في 28 يوليو تموز الذي دعت إليه تركيا، أعلن حلف شمال الأطلسي دعمه الكامل لتركيا في هذا الجهد ضد الإرهاب. كما أصدر المتحدثون الرسميون باسم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عدة بيانات تعلن دعمها الكامل للحرب على “الإرهاب بكل أشكاله”.
هذه التصريحات لم تتطرق إلى قصف حزب العمال الكردستاني (PKK) على الرغم من حث بعض السياسيين الأوروبيين لأنقرة على مواصلة مسار التفاوض (والذي، بطبيعة الحال، لا معنى له الآن على الاطلاق ). ولكن الصورة واضحة تماما: انضمت تركيا إلى الحرب ضد داعش إلى حد ما، وفتحت قاعدة “إنجرليك” الجوية للجيش الامريكي. في المقابل، سمحت الولايات المتحدة لتركيا بقصف حزب العمال الكردستاني (PKK) ، على الرغم من أن وحدات حماية الشعب ((YPG أثبت مقدرتها في أن تكون قوة فاعلة ضد داعش.
صحبة تركيا تريد الولايات المتحدة إنشاء هذه “المنطقة الأمنية”، والتي ينبغي أن تصل من “عزاز” إلى “جرابلس” على طول الحدود التركية نزولا الى “حلب” تقريبا. على افتراض أن تشمل “منطقة حظر الطيران”. هذا يعطي المزيد من الدلالة على الهدف الحقيقي للعملية.
“المنطقة الأمنية” تغطي على وجه التحديد الاقليم بين مقاطعتي “عفرين” و”كوباني”. إن توحيد المقاطعتين يؤدي إلى إنشاء كردستان سورية موحدة وهو المشروع الرئيسي لوحدات حماية الشعب ((YPG. وفي الوقت نفسه، لا داعش ولا وحدات حماية الشعب ((YPG يمتلكان طائرات. فلماذا إذن إقامة منطقة حظر جوي؟ مرة أخرى، فإنه من الواضح أن الهدف هو حكومة الأسد. وهكذا، يمكننا أن نستنتج أن هذه “المنطقة الأمنية” قد تكون فعلا “منطقة أمنية” للجماعات التكفيرية بما أنها ستحميهم من أعدائهم الرئيسييين: وحدات حماية الشعب ((YPG والجيش العربي السوري و غيرها من المجموعات المسلحة.
البيانات الرسمية تشير إلى أن تركيا تخطط جديا لانتقال العديد من مليوني لاجئيها السوريين إلى تلك المنطقة الصغيرة. أيضا، صحبة الولايات المتحدة الامريكية، سيتم دعم “الثوار المعتدلين” (وربما بعض القوى اليمينية المعتدلة) للتخلص من داعش.
ومع ذلك، ليس فقط في كردستان بل في جميع أنحاء البلاد، بدأت الدولة التركية تثبت صراحة فحوى أهدافها الحقيقية. في 23 يوليو، بدأت موجة من القمع مع مداهمات للشرطة فجر كل يوم. اقتحمت الشرطة شققا في مدن عديدة في كل أنحاء البلاد قُدمت على انها حملة على هياكل داعش. غير أن الأرقام تشير إلى غير ذلك. وأظهرت التقارير الأولية أن 1300 شخصا اعتقلوا في سياق بضعة أيام، وأن 150 منهم لهم بالكاد صلة بداعش – والعديد من الأشخاص ذوي الارتباط بداعش تم الإفراج عنهم بسرعة دون توجيه اتهامات.
من ناحية أخرى، تم اعتقال ما يقرب من 900 عضو من اليسار الثوري والحركة الكردية، وكثير منهم أعضاء في الأحزاب القانونية مثل حزب الشعوب الديمقراطي (HDP). شنت الشرطة حملة على الاحتجاجات والمظاهرات في جميع أنحاء البلاد، وخلفت العديد من الجرحى، واعتقلت المزيد من الناس. خلال هذا السعير استخدمت الشرطة كل الوسائل من الغاز المسيل للدموع إلى الرصاص المطاطي الى الذخيرة الحية، وهاجمت المظاهرات والشقق الخاصة على حد سواء.
أكثر من ذلك: في “غازي”، وهو حي في ضواحي اسطنبول، يسكنه عموما العديد من العلويين والأكراد مع تمثيلة قوية للمنظمات الثورية، قتلت الشرطة “غوناي أوزرسلان”، وهي عضوة في الحزب المحظور، حزب التحرير الشعبي الثوري-الجبهة (DHKP-C). وذكرت الشرطة أنها أطلقت النيران عليهم. مع ذلك، فقد أفادت التقارير بعدم وجود دليل على ذلك. وتم العثور على خمسة عشر رصاصة للشرطة في جسدها، مما يفيد بوجود شبهة إعدام أكثر منها تبادل لإطلاق النار.
ولكن حتى ذلك لم يكن كافيا – فقد منعت الشرطة جنازة “أوزرسلان” من أن تُجرى لمدة ثلاثة أيام كاملة، مما أثار ردة فعل الجماعات الثورية التي أدت إلى أيام من قتال الشوارع المكثف وحالة الطوارئ في “غازي”. أصدقاء ورفاق “أوزرسلان” ارادوا ان يودعوها في “بيت الجمع”، منزل العلويين للعبادة، لكن الشرطة هاجمهتم بالغاز المسيل للدموع واقتحمت ودمرت “بيت الجمع”، قبل السماح للجنازة بالاقامة في مكان آخر.
ورافق هذه الموجة من القمع والعنف هجوما على وسائل الإعلام. فقد تم حظر أكثر من مائة وكالة للأنباء وصحف ومواقع انترنيت، معظمها ذات صلة بالحركة الكردية أو التيارات اليسارية.
هذا ليس مجرد ملاحظة على الهامش على ضوء كل ما حدث، ولكن قطعة أخرى في المعظلة أو ما هدفت إليه الدولة التركية من وراء هذه العملية برمتها: إشعال فتيل الحرب من جديد في كردستان واتخاذ اجراءات صارمة ضد اليسار في البلاد بأسرها. إنه بكل بساطة انتقام أردوغان للهزيمة الانتخابية ومحاولة عنيفة للتمسك بالسلطة.
قنابل لكردستان
إن تفحص وسائل إعلامها يساعدنا على فهم أهداف الحكومة التركية. بعد فترة وجيزة من قصف بعض مواقع داعش، قلّ الحديث عن داعش بشكل ملحوظ. نعم، هناك تهديدات يومية بالقصف، ويفترض من قبل داعش كأعمال انتقامية، ولكن كون أيا من هذه لم يتسبب حتى الآن في أي ضرر فإن التوجّه العام للدولة التركية يثير الشكوك حول ما إذا كان هذا مجرد مسرح سياسي من اجل مواصلة طهو هذه القصة.
بالنسبة لوسائل الإعلام يتجلّى الهدف الحقيقي واضحا: “الارهابيون الانفصاليون”، حزب العمال الكردستاني (PKK). منذ الأسبوع الماضي والهجمات على مواقع حزب العمال الكردستاني (PKK) متواصلة – معظمها جدّ في شمال العراق، ولكن أيضا في جنوب شرق تركيا. رد حزب العمال الكردستاني (PKK) و حركة الشباب الوطني الثوري (YDG-H) بطرق مختلفة على هذه الهجمات، ناقلين الحرب إلى المدن الرئيسية في كردستان الشمالية في تركيا. مع أنهما أبديا نوعا من ضبط النفس إلى حد الآن.
في نهاية الأسبوع الماضي، زايد الجيش التركي مرة أخرى في المعادلة عندما قصف “بطريق الخطأ” مواقعا لمجموعات الجيش السوري الحر المتحالف مع وحدات حماية الشعب ((YPG وأصاب أربعة من عناصرهم. لقد استجدت حوادث طفيفة قبل وبعد ذلك قام خلالها الجيش التركي إما بالعبور إلى كردستان السورية أو قصف شيئا ما على الحدود، وهو ما يدل على أن الصراع في أقل حدته في الوقت الراهن.
إذا أخذنا بعين الاعتبار الاحتجاجات في شمال كردستان وتركيا عندما قامت داعش بمهاجمة “كوباني”، مما أسفر عن مصرع نحو خمسين شخصا، فلن يكون من قبيل المبالغة القول بأن تركيا سوف تحترق إذا ما تجرّأ الجيش على مهاجمة كردستان السورية بجدية.
ماذا بعد؟
هناك خلفية شفافة تماما لهذا التصعيد: أردوغان وحزب العدالة والتنمية لم يقبلا بالهزيمة الانتخابية. انهما يريدان الانتقام، وخلق حالة الطوارئ التي من شأنها رفع فرصهم في الفوز بانتخابات مبكرة في الخريف. هذا ما يفترضه المنطق : إذا ما قُتل جنود ورجال الشرطة بالرصاص على أيدي حزب العمال الكردستاني (PKK)، سوف تتوحد موجة قومية خلف أردوغان وتمنحه الأغلبية التي يحتاج إليها، في حين يقوم الأتراك الذين لا يشعرون بالراحة مع حزب العمال الكردستاني (PKK) بالتخلي عن وحزب الشعوب الديمقراطي (HDP)، وبالتالي دفعه تحت خط العتبة الانتخابية.
أو حتى أكثر مباشرة: حزب العدالة والتنمية قد يمنع حزب الشعوب الديمقراطي (HDP)، إذا ما طالب بذلك بعض السياسيين من الحزب الفاشي حزب الحركة القومية (MHP). في الوقت الحالي، يبدو أن الاتجاه الرئيسي ينصب على المحاولة حول بعض أعضاء الحزب فقط. تقارير التحقيق بصدد تسعة نواب من حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) وحزب الشعب الجمهوري (CHP)، بما في ذلك زعيم الحزب “كمال قليتش دار أوغلو”، تم إرسالها إلى البرلمان. وهو ما يُهيء الأرضية القانونية لبدء التحقيقات ضد النواب المنتخبين.
وفي الوقت نفسه، تم إطلاق تحقيق جنائي ضد الرئيسان المشاركان لحزب الشعوب الديمقراطي (HDP) – “صلاح الدين دميرتاز” الذي ساهم تمثيله الذكي والكاريزماتي للحزب في كسب العديد من الأصوات، و“فيجان يوكسكداغ” التي خدشت السلطة بخطابها في “سروج” في 19 يوليو في الذكرى الثالثة لثورة كردستان السورية. “دميرتاز”، من ناحية أخرى، يحاكم بتهمة التحريض على العنف لدعوته للاحتجاج عندما داهمت داعش “كوباني”.
بالفعل، لقد ادعى حزب العدالة والتنمية قبل الانتخابات مرارا وتكرارا أن هذه الدعوة للاحتجاج هي التي جعلت الشعب الكردي ينزل للشوارع وتسببت في نهاية المطاف في مقتل خمسين شخص. وهكذا، فإن حزب العدالة والتنمية يتجاهل أن معظم هؤلاء الخمسون ضحية توفوا بسبب عنف الدولة. على أية حال يبدو التوجّه واضحا: تضييق الخناق على هياكل اليسار لضمان الفوز بانتخابات مبكرة محتملة، أو تشكيل ائتلاف-(حرب) مع حزب الحركة القومية (MHP) الفاشي.
هجوم الدولة الشامل والحقيقة الساطعة أن أردوغان على استعداد للمخاطرة بالحرب والفوضى تُبشر بأوقات عاصفة قادمة. ما تحتاجه القوى الثورية والديمقراطية في تركيا وكردستان الآن ليس قراءات مجردة بخصوص تحويل الخد الآخر، ولكن التضامن الكامل والاحتجاجات الهجومية ضد السياسة العنيفة والقاتلة للدولة التركية ومنظمة حلف شمال الأطلسي – وخاصة في دول مثل الولايات المتحدة وألمانيا.
* المقال باللغة الإنجليزية هنا