بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

“طلعت ريحتكم”

بقلم: يوسف خليل

“الشعب يريد إسقاط النظام”. هذا الشعار الذي أطلقته ثورات الربيع العربي التي اجتاحت الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ العام 2011، تتردد أصداؤه الآن مجدداً في شوارع العاصمة اللبنانية بيروت، حيث تجمع عشرات الآلاف من الناس – البعض يقدٍّر الأعداد بـ 100 ألف – للاحتجاج في وجه النظام الحاكم في 29 أغسطس.

كانت أزمة القمامة، الممتدة منذ سنوات، هي ما أشعلت شرارة الغضب المتصاعد. ففي 1998، كانت الحكومة قد خططت للتخلص من القمامة في مكبّ جنوبي بيروت كتدبير مؤقت، لكن الأمر استمر لسنوات طويلة، لتتكدس أكوام القمامة أضعافاً مضاعفة وتخنق السكان المحليين بالروائح الكريهة.

وعلى الرغم من الكثير من الاحتجاجات، ووعود الحكومات المتعاقبة، فشل السياسيون حتى في التخطيط لحل أزمة مكبّ القمامة العتيق هذا.

وفي هذا الصيف، انتهى العقد المُبرم مع الشركة الخاصة المسئولة عن جمع القمامة. وبينما تتصارع الأحزاب السياسية الحاكمة على تحديد مَن مِنهم سيتولى هذا العقد المربح، توجه سكان القرى المجاورة، فاقدين كل ثقة في الحكومة لحل مشكلة القمامة، لقطع الطريق المؤدي إلى المكبّ.

ومع غياب الحلول، ظلت القمامة تتراكم بكميات ضخمة في شوارع بيروت، لتخنق سكان المدينة. وفي ردة فعل على ذلك، دشّن نشطاء البيئة ونشطاء آخرون حملة “طلعت ريحتكم” لتوجيه إصبع الاتهام إلى الحكومة والسياسيين الفاسدين. انجذب الآلاف من الناس لنداء الحركة، إذ أنها تلقي اللوم على كافة الأحزاب السياسية الفاسدة، وتفتح الباب للناس للتعبير عن استيائهم العام.

في 22 أغسطس الماشي، استخدمت الشرطة الهراوات ومدافع المياه والغاز المسيل للدموع، وحتى الذخيرة الحية، ضد آلاف المحتجين الذين تجمعوا في وسط بيروت.

وفي سعيها لإجهاض الحركة، أصرت الحكومة على أن قوات أمنها كانت فقط ترد على “المندسين” و”المحرضين” الذين كانوا يلقون الحجارة والزجاجات البلاستيكية وما إلى ذلك لبدء الاشتباك. ومع الأسف، بعض منظمي “طلعت ريحتكم” قبلوا بذلك، واتُهِمَ “المندسين”، الذين يمكن التعرف عليهم بسهولة من “مظهرهم”، بالعمل بإيعاز من الأحزاب السياسية، بينما في الحقيقة “جريمتهم” الوحيدة هي أنهم جاءوا من الأحياء والضواحي الأفقر في بيروت، ومن الطبيعي أن يكونوا غاضبين وصداميين.

هذه المحاولة لتقسيم الحركة إلى “مدنيين سلميين” و”محرضين عنيفين”، أتت بعكس النتائج المرجوّة، فالكثير من المحتجين تعاملوا مع وصفهم “مندسين” وكأنه وسام شرف، هاتفين إياه في شعارات مثل “كلنا مندسون”، وكتبوه على قمصانهم ورسموه على الحوائط.

– – – – – – – – – – – – – – – –

وكما تصاعد قمع الدولة، ازداد عزم المتظاهرين على مواصلة الاحتجاج، وازدادت أعدادهم، حيث قُدِّرَ عدد المشاركين في مظاهرات يوم 29 أغسطس بـ 80 إلى 100 ألف متظاهر.

تحوّلت الاحتجاجات التي ترفع شعار “طلعت ريحتكم” إلى قطبٍ يجذب جماهير الناس التي ذهبت تعبر عن حنقها من ضعف الخدمات الحكومية مثل الكهرباء والماء والوظائف والفرص الاقتصادية. وسرعان ما تحوّلت الاحتجاجات إلى تحدٍ لكل الأحزاب السياسية في الحكومة.

السؤال المطروح داخل الحركة الآن هو ماذا يعني أن تكون الحركة “مستقلة”؟ من جانب، يجادل بعض النشطاء الليبراليين بأن ينبغي عدم “تسييس” الحركة، كما قصر مطالب الحركة على إصلاحات محددة، مثل الحد من الفساد وحل أزمة القمامة وانتخاب برلمان جديد. ومن جانب آخر، يرى كثيرون أن هناك حاجة إلى استدعاء الأحزاب السياسية كطريق وحيد لفهم النظام الذين يخرجون ضده ولتنظيم الحركة.

قال أحد المتظاهرين، يُدعى محمود، في مظاهرة أمام القنصلية اللبنانية في مانهاتن بالولايات المتحدة، 29 أغسطس الماضي، أن “في البداية كانت هناك نبرة سياسية في قليلٍ من الاحتجاجات، لكنها ليست صريحة”. كان محمود، الذي وصل مؤخراً إلى نيويورك، مشاركاً في الاحتجاجات الأولى في لبنان. استكمل حديثه قائلاً:

“تركزت الحركة في الأغلب على قضية القمامة، لكن بعد ذلك صارت هناك نبرة سياسية أكثر فأكثر، واستياء الجميع في لبنان من مشكلة القمامة هو ما فتح الباب لذلك. هذه هي القضايا التي تؤثر في الجميع، بغض النظر عن القطاع الذي يعيشون فيه. لابد أن تتناول الأمر على المستوى السياسي كي تتعرف عليه”.

خلقت الحركة المساحة التي يضع الناس فيها علامات الاستفهام على زعمائهم التقليديين الذين احتكروا حياتهم. وبدأت الانقسامات الطائفية، التي فرضتها النخب من أجل توطيد مراكزها، في الانهيار، حيث يسير الناس من خلفيات طائفية مختلفة معاً، يهتفون سوياً، ويدافعون عن أنفسهم في مواجهة قمع السلطة.

وبرغم الخلل البادي عليها، أظهرت الدولة استعدادها للتوحد ضد جماهير الناس المطالبين بإنهاء الفساد وتواطؤ الأحزاب عبر التقسيمات السياسية المختلفة. ومن الواضح أن هؤلاء السياسيين يمكنهم العمل سوياً لحماية النظام وتقسيم الغنائم بينهم، لكنهم لن يتمكنوا من توفير الخدمات الأساسية مثل جمع القمامة.

وكما يوضح الهتاف الشعبي، “14 و8.. عملوا البلد دكانة”، تعود الإشارة هنا إلى الانقسام الرئيسي في السياسة اللبنانية بين حركة 14 آذار الموالية للغرب، وحركة 8 آذار المصطفة إلى جانب حكومتي سوريا وإيران.

– – – – – – – – – – – – – – – –

هناك تشققات كبرى في النظام الحاكم في لبنان. وكما أوضح نشطاءٌ في “المنتدى الاشتراكي”، الذي كان جزءاً من الحركة منذ بدايتها، في بيان صادر لهم في 29 أغسطس، فإن:

“ما يميز اندفاع الجماهير الشبابية الكثيفة إلى الشوارع والساحات، اليوم، هو حصوله عند الدرجة العليا، التي بلغها تعفن السلطة البرجوازية القائمة، وتناقضاتها المستعصية، وما تبديه من عجز عن إعادة إنتاج مؤسساتها (كالرئاسة الأولى، والمجلس النيابي، وقيادة الجيش، وما إلى ذلك)”.

ما من رئيس للبنان منذ 2014، لأن الأحزاب السياسية في البرلمان – ولا حلفائهم الخارجيين – لم يتوصلوا إلى إجماع بعد، فوفقاً للدستور اللبناني، ينتخب البرلمان – لا الشعب – الرئيس. لكن دورة البرلمان الحالي قد انتهت في 2013. وإذ أنهم لم يتوافقوا بعد على قانون انتخابي تُجرى وفقه الانتخابات الجديدة، فقد صوّت البرلمانيون غير المنتخبين مرتين لمد ولايتهم. لقد أدى هوسهم بالسلطة، وعجزهم عن إدارة البلاد، بالكثيرين لأن يشيروا إليهم بعبارة “الطبقة السياسية”. هؤلاء السياسيون ومحاسيبهم يستفيدون من النظام بتعاقدات حصرية وصفقات مربحة.

لكن وصفهم بـ”الطبقة السياسية” يشوّش على حقيقة أن هؤلاء السياسيين يمثلون جزءاً من الطبقة الرأسمالية التي يمثلونها. لقد راكموا الملايين من وراء دولتهم المعطوبة، من خلال الخصخصة وسياسات الليبرالية الجديدة التي أفقرت العاملين وسرقت شواطئهم ومساحاتهم العامة، وحرمتهم من الخدمات الأساسية مثل الصحة والكهرباء والماء، وألقت بالبلاد في أزمة تلو الأخرى. لذان فقد انتشر في المظاهرات هتاف شعبي آخر، يشير إلى نواب البرلمان بعدد مقاعدهم، هو “الـ 128 حرامي”.

المظاهرات الضخمة في أغسطس تُظهر مرة أخرى قوة الناس العاديين على تجاوز العقبات والانقسامات التي تكرِّسها الطبقة الحاكمة بينهم. لكن التحديات لا تزال، برغم ذلك، كثيرة وكبيرة. على مدار الأربعة أعوام الماضية، شهدنا ما يمكن أن تصل إليه الطبقات الحاكمة لسحق الانتفاضات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لكننا أيضاً شهدنا كيف يمكن للحركات التقدمية أن تُلهِم بعضها البعض.

في الوقت الذي تصعد فيه القوى الطائفية الرجعية على مستوى المنطقة، فإن الانتفاضة في لبنان، تلك البلد التي اعتبرها الكثيرون نموذجاً للطائفية المُقنَّنة، تشير إلى الطريق للأمام، وتُعد متنفّساً للهواء يستحق دعمنا.

* المقال منشور باللغة الإنجليزية في 3 سبتمبر 2015 على موقع “العامل الاشتراكي” الأمريكي