هل نحن على موعد مع ثورة في العراق؟

تعاني الجماهير في بلاد الرافدين عدة أزمات تضرب بعمق في حياتهم اليومية، وأبرزها الانفلات الأمني، والفساد، والطائفية.
منذ عام 2008 تحركت الجماهير الغاضبة للاحتجاج على معانتها اليومية وزادت وتيرة الاحتجاجات مع موجة الربيع العربي في 2011 تزامنًا مع خروج القسم الأكبر من الجيش الأمريكي. استمرت الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية في التصاعد دون تحقيق مكاسب حقيقية، نتيجةً لتعقد المشهد السياسي العراقي وغياب حزب جماهيري حقيقي يناضل من بينها ليقود تلك الاحتجاجات.
غضب جماهيري
أعلنت الجماهير غضبتها من الطبقة الحاكمة، مُمثلة في الدولة ومؤسساتها وبدأت سلسلة من اقتحامات المباني الحكومية. كان أولها اقتحام المنطقة الخضراء في 18 مارس 2016، والتي لا تعتبر المرة الأولى، فقد تم اقتحامها من قبل في 16 سبتمبر 2014. وتعتبر المنطقة الخضراء، المحصنة بقوة، معقل نظام ما بعد الاحتلال ورمز له، حيث اعتدت قوات الأمن على المتظاهرين مما أودى بحياة عدد منهم وإصابة آخرين.
وفي نفس السياق، قام المحتجون باقتحام المنطقة الخضراء مرة أخرى ودخول مبنى البرلمان يوم السبت 30 أبريل 2016 مما دفع السيد مقتدى الصدر (الداعي للاعتصام) بدعوة الجماهير إلى مغادرة البرلمان وفض اعتصام المنطقة الخضراء كمحاولة لكبح جماح الجماهير الغاضبة، وهو ما يفضح انتهازيته السياسية.
وفي يوم الجمعة 20 مايو قامت الجماهير الغاضبة باقتحام المنطقة الخضراء من جديد ودخول مبنى رئاسة الوزراء حتى وصلت إلى مكتب رئيس الوزراء حيدر العبادي. قامت قوات الأمن بالاعتداء على المحتجين واعتقلت العشرات وخرجت القوى السياسية في غالبتها تطالب بالتهدئة والإفراج عن المعتقلين، كما دعت الجماهير إلى الكف عن اقتحام الأبنية الحكومية.
وبعيدًا عن العاصمة العراقية بغداد وفي المحافظات العراقية الأخرى، قامت الجماهير بعدة محاولات لاقتحام مباني المحافظات.
ففي 20 مايو 2016 قام المحتجون باقتحام مبنى مجلس محافظة ذي قار والقادسية، وقامت قوات الأمن بمحاصرتهم والاعتداء عليهم. وفى 21 مايو 2016 حاول المحتجون اقتحام ديوان مبنى محافظة البصرة لكن قوات الأمن منعتهم وفرضت الحكومة حظر التجول لثني الجماهير عن تكرار محاولتهم.
سلسلة الاقتحامات تلك ليست جديدة على الاحتجاجات العراقية؛ فقد سبق وقامت الجماهير الغاضبة بمحاولات لاقتحام مباني حكومية لكن تلك الموجة تُعتبر الأعنف والأكثر قوة لأهمية ورمزية المناطق التي تم احتلالها.
فساد الطبقة الحاكمة
وصل الفساد إلى الذروة، بل حقق معدلات قياسية خلال حكم نوري المالكي الذي استمر من 2006 إلى 2014، فقد أشارت تقارير رسمية صدرت في 2015 تؤكد سرقة أكثر من نصف ترليون دولار من أموال الدولة العراقية خلال فترة حكمه، وهو ما يعادل أكثر من نصف الريع النفطي بين عامى 2003 – 2015 المقدر بـ 800 بليون (مليار) دولار، مع العلم أن السنوات الأخيرة وصل سعر البرميل لأكثر من 100 دولار وفقا لما أعلنته هيئة النزاهة العراقية الحكومية، وهيئة العلاقات الدولية ونُشر في مقال بالإنجليزية لوزير النفط العراقي المستقيل في جريدة “العدالة” العراقية بتاريخ 16 أغسطس 2015.
الانفلات الأمني وضعف الطبقة الحاكمة
انهارت الطبقة الحاكمة العراقية التي أسسها حزب البعث بمجرد سقوط صدام حسين لتحل محلها طبقة حاكمة جديدة تحاول نهب الثروات وبناء شبكات مصالح جديدة لتجد لنفسها مكانًا فوق أكتاف الجماهير الكادحة لذلك استخدمت الإرهاب المباشر؛ فقامت بإنشاء الميليشيات المسلحة الأكثر شراسة وحرية في إرهاب الجماهير.
ونتيجه لعدم قدرة تلك الطبقة على بلورة وجودها بشكل متماسك وحسم معركتها الوجودية، انتشرت الفوضى ممثلة في التفجيرات اليومية وعمليات السلب والنهب للجماهير الآمنة، وخرجت ميليشيا الدولة الإسلامية (داعش) لتعبر عن قبح الفوضى التي ستنتهي في حال حسم إحدى أقطاب المجتمع العراقي معركته، وفي ظل ضعف الطبقة الحاكمة الوليدة لم يعد أمام الطبقة العاملة العراقية سوى التحرك لحسم المعركة والسيطرة على الأمور.
الطبقه الحاكمة والطائفية
تعتمد الطبقة الحاكمة بالأساس على الأحزاب الدينية. فمن الوهلة الأولى تكتشف أن الأحزاب الدينية هي التي تسيطر على مقدرات المشهد السياسي، خصوصا الأحزاب الشيعية، وفي داخل التحالف الشيعي تجد الصراعات والإقصاءات الشيعية – الشيعية، فيطفو فوق السطح الصراع بين نور المالكي والتيار الصدري والذى ينتهي بخلع المالكي وقيادة مقتدى الصدر بشكل مؤقت للاحتجاجات في مارس 2016.
نظام المحاصصة الذي أسسه دستور الأمريكان وضع المناصب العليا في الدولة والحقائب الوزارية والمقاعد البرلمانية مقسمة على أسس مذهبية وقومية.
وتعتبر الطائفية سلاح الإدارة الأمريكية للسيطرة على المشهد العراقي ونهب ثرواته خصوصا بعد وصول نور المالكي، رجلها الأول والوسيط الأكثر حظًا بين الإدارة الأمريكية والإيرانية، وهو ما مكنه للعب دور سياسي لعدة سنوات انتهت بخروج الجماهير عليه وإسقاط حكومته.
في المقابل، يقف الحزب الشيوعي العراقي مكبلا بالأفكار الستالينية التي أودت به إلى مستنقع الخزى حيث وقف مهللا ومبشرا بالاحتلال الأمريكي لإسقاط صدام حسين وسيظل متذيلا لتلك الأفكار التي تحاول إعاقة الجماهير عن الثورة الاجتماعية.
بزوغ فجر جديد أم هي فقط عفوية جماهيرية؟
بدأت تلوح في الأفق مناوشات جماهيرية تستهدف احتلال مواقع حكومية، لعل أهمها احتلال مبنى البرلمان، أثناء الأزمة التي حاول فيها مقتدى الصدر اعتلاء أكتاف الجماهير والاستغلال السياسي لحراكها، لكن اندفاع الجماهير الغاضبه التي تخطط الالتزام الطائفي جعله ينسحب؛ فسقوط النظام الحالي يشكل تهديدا لكل ما يمثله ويضرب الطبقة الجديدة في العمق.
الجماهير العراقية بادرت باحتلال مجلس محافظة ذي قار(جنوب العراق) في خطوة تصعيدية جديدة تزامن مع اقتحام المحتجين للمنطقة الخضراء مما أدى إلى استخدام قوات الأمن للعنف، فاضطر المحتجون إلى الانسحاب لساحة التحرير بعدما تم اعتقال العشرات.
تلك التحركات العفوية تخرج عن مجرد دعوات للإصلاح، كما يحاول تصديرها التيار الصدري وكل المتخاذلين. إنها ثورة تتكون في أحشاء الجماهير، ثورة ستطيح بالنظام الكائن وتبني مجتمع جديد.. مجتمع الجماهير الكادحة.
الفلوجة والاختيارات المُرة
الظروف السياسية التي فرضت نفسها على الساحة العراقية أبرزت أطراف فاشية دموية تقاتل الجماهير العراقية على الجانب الآخر حيث تكمن قوات داعش المسلحة.
في هذه الأيام تشن القوات العراقية، مدعومة من الملشيات المسلحة وقوات التحالف والحرس الثوري الإيراني هجمات على مناطق نفوذ الدولة الإسلامية بالعراق (داعش)، فقد أعلنت القيادة العراقية بقيادة حيدر العبادي البدء في حصار الفلوجة لتسهيل الاستيلاء عليها بما يُعرف بـ “الخطة 360” أي حصارها من جميع الجهات. وطوال السنة الأخيرة، على الأقل، توالت المعارك بمحافظات كاملة بدأت في الأنبار فيما تعاقب عليها مقاتلي داعش كرا وفرا بالدرجة التي لم تُحسم المعارك بشكل نهائي لصالح أي الطرفين (الدولة العراقية من جانب والتنظيم المتطرف من جانب آخر). الأمس الأنبار ثم ديالي ثم الفلوجة وهكذا دواليك.
وفي كل مرة تأتي المعارك لتفضح خسة الدعاية التي استخدمتها القيادة العبادية بدءا بحشد الجماهيرعلى أساس نشر فكرة خطورة داعش على أبناء المذهب الشيعي وحدهم، وكأنها في ذات الوقت تعد ممثلة للجماهير السنية، وهو ما يُفسر الجرائم التي ترتكبها الملشيات الشيعية بحق المدنيين العزل من أبناء الفلوجة. على الجانب الآخر، تستخدم داعش نفس الدعاية الخسيسة في حماية أبناء المذهب السني من خطر الملشيات الشيعية، وربما تلك الدعاية مكنتها من التمدد سريعا في المناطق السنية خصوصا في ظل الفراغ الأمني الذي كانت تعاني منه تلك المناطق.
أطراف النزاع تتبنى بالأساس الطائفية البغيضة التي تشعل الصراعات بين أبناء الكادحين من جانب وتستنفذ ثرواتهم من الجانب الآخر.
الثورة العراقية ستخرج المنطقة من ميلادها العسير
يعتبر نظام آل سعود القائد الأعلى للثورات المضادة في المنطقة، ولعل النظام الإيراني المنافس الأكبر له يدخل أيضًا ضمن داعمي الثورات المضادة.
ولعل العراق بما تملكه من موارد نفطية وثروة صناعية وتاريخ نضالي هي الأجدر على قيادة ثورات المنطقة من جديد. العراق هو مرآة للمنطقة، يتجرع مرارة الطائفية كما هو الحال في بلدان المنطقة، ينخر فيه الفساد وتُستنزف موارده وطاقته يوميًا بسبب الفوضى. في المقابل، فإن الاحتجاجات الاجتماعية العمالية والشعبية لم تُنظم تحت راية حزب ثوري تناضل من خلاله وتبني خبراتها النضالية لاستعادة الحراك وهزيمة عقباته.
إن تم تنظيم الاحتجاجات العراقية، ستصبح الثورة هي الند الأمثل للثورات المضادة والتي ستجعل من انتصارها أمل جديد لمواجهة الحصار التي فرضته داعمي الثورات المضادة على ثورات الربيع العربي.
ليس أمام النقابات والتنظيمات الثورية سوى تنظيم أنفسها، فالثورة العراقية التي تطيح بكل الأنظمة الطائفية وتوابعها هي الحل الوحيد لكي تنجو الجماهير من كل ما تعانيه، وهى أيضًا بوصلة جديدة للمنطقة لتهب شعوبها من جديد ضد كل الأمراض التي تعاني منها مجتمعاتها.