بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

معركة قانون العمل: إخضاع الحكومة الفرنسية على ركبتيها

الإضرابات والاعتصامات ومعارك الشارع تهز فرنسا. غضب ينفجر ضد الرئيس فرانسوا هولاند ورئيس الوزراء مانويل فالس، اللذين يخططان لتمزيق قانون العمل في البلاد في واحدة من أكبر الهجمات على الطبقة العاملة منذ الحرب العالمية الثانية.

هذه هي المعركة السياسية الأكثر أهمية منذ هجمات الرئيس السابق نيكولا ساركوزي على معاشات المتقاعدين في عام 2010. وستدوي عواقب هذه المعركة في جميع أنحاء أوروبا. في هذا المقال، تتحدث دارين روسو إلى الفيلسوفة الفرنسية إيزابيل جارو عن هذه الصحوة الجماهيرية.
———-

نجت كميل سينون من مذبحة النازية في “آوردور سور جلان – Oradour-sur-Glane” عام 1944، وكرَّمتها الحكومة بإدراج اسمها ضمن فيلق الشرف الفرنسي في عام 1982. ولكن عندما رشحها رئيس الوزراء مانويل فالس للحصول على وسام الاستحقاق لهذا العام، جاء ردها بالرفض. أعلنت من خلال رفضها للوسام تضامنها مع العمال والطلاب الذين يناضلون منذ عدة أشهر ضد هجمة حكومة الحزب الاشتراكي المقترحة على قانون العمل في البلاد.

ويُعد توبيخ سيون العلني مثالًا على حالة الاستقطاب التي تجري في أنحاء البلاد. فقانون العمل، الذي يوفر الحماية الشاملة، يُعتبر من مقدسات الطبقة العاملة الفرنسية التي لا تقبل المساس به. تقول عنه إيزابيل جارو عبر البريد الإلكتروني من باريس أنه “خلاصة عقود من النضالات الاجتماعية، ويرمز إلى انتصارات الحركة العمالية ضد أرباب العمل… إنه صرحٌ للصراع الطبقي وسبق أن هوجم في مناسبات عديدة، ولكن ما يحدث الآن هو تمزيقه إربًا. وهذا أيضًا ما يضفي طابعًا سياسيًا صريحًا على التعبئة الجارية، وليس مجرد طابع اجتماعي فحسب”.

“تنص المادة 8 من دستور عام 1946: يحق لجميع العمال، من خلال وساطة ممثلين عنهم، المشاركة في التقرير الجماعي لشروط العمل وإدارة موقع العمل”.

ينص ما يسمى التسلسل الهرمي للقواعد على أنه إذا تم التوصل لاتفاق على المستوى الوطني مواتي لمصلحة العاملين، فإنه لا يمكن أن يتأثر سلبًا باتفاقية على مستوى الشركة. أما أرباب العمل فيريديون تفكيك هذه القواعد حتى يتمكنوا من التخلص من حقوق العمال شركة شركة.

“هذا هو المبدأ ذاته من حماية قانون العمل واستقلال التمثيل النقابي الذى يريد أرباب العمل سحقه، بدعم – في سابقة تاريخية لهذه الدرجة من التواطؤ – من الحكومة الاشتراكية، والتي لم تتورع من إدارة ظهرها لناخبيها والغالبية الساحقة من العمال”.

تضيف جارو: “من الملفت للنظر أن الرئيس هولاند لم ينأى على الإطلاق بنفسه عن مطالب أرباب العمل، ضد الأغلبية الناخبة، وضد جزءٍ من معسكره السياسي والمسئولين المُنتخبين من حزبه، ليقوم بذلك بتصعيد الانقسامات في الحزب الاشتراكي. بالنسبة لعشيرة السلطة، فهي مسألة تنافس على الحق في السلطة واستكمال التحول لليبرالية في الحزب الاشتراكي”.

يُحطم ما يسمون بالاشتراكيين ما عرف بدولة الضمانات الاجتماعية ما بعد الحرب العالمية الثانية. فقد حافظت المؤسسات الفرنسية على حماية اجتماعية للمواطنين أفضل مما هي عليه في أجزاءٍ أخرى من أوروبا. ولكن الآن يريد أرباب العمل التخلص منها في أسرع وقت ممكن، تحت ضغط من المؤسسات الأوروبية، وذلك باستخدام الحكومة التي تخلت عن كل وعودها.

المزيد من تقويض الديمقراطية
وعلى الجانب الآخر، هناك أيضًا كما تقول جارو “وحشية عنف السلطة التنفيذية والشرطة، والتي وصلت لمستوى غير مسبوق”. فبعد الهجمات الإرهابية في العام الماضي، أُعلنت حالة الطوارئ التي تم مدها لفترات متكررة، مما أعطى الشرطة سلطات أكبر من السابق بكثير.

وتوضح جارو أن الميل نحو السلطوية في فرنسا ليس بالأمر الجديد، ولكن هولاند يدفع سياسات الرئيس المحافظ السابق نيكولاي ساركوزى القمعية لمستوى أبعد، مُستهدفًا الاحتجاج الاجتماعي ومُتعمدًا إثارة الخوف والعنصرية. لقد توقفت الرأسمالية الفرنسية عن تقديم وعود الحرية والمساواة. إنها تلعب على التهديدات، مُدعيةً أن هناك عدو داخلي وخارجي. وقد ذهب أحد الصحفيين إلى حد مقارنة الاتحاد العام للعمال (CGT)، أهم الاتحادات النقابية الرئيسية، بتنظيم “الدولة الإسلامية”. باختصار، إنهم يعملون الآن على تجريم المقاومة الاجتماعية.

“حتى الآن، تُعتبر الضواحي العمالية والسكان المهاجرين هم الضحايا الرئيسيين لهذه السياسات الاستبدادية الممنهجة من التنميط العنصري والإذلال الدائم، في وسط جوٍ عام من اللامبالاة. اليوم، يكتشف المتظاهرون بدورهم هذا العنف المنظم ويتعرضون له، لا سيما طلاب المرحلة الثانوية والمتعلمين، وهم من مختلف الأصول الاجتماعية”.

تطلق الشرطة العنان للعنف بشكل متزايد، حيث تستخدم الرصاص المطاطي وقنابل الصوت. “في رين، وفي بريتاني، اصطدمت سيارات الشرطة بالمتظاهرين. وقد هاجمت الحكومة المضربين في بعض معامل التكرير بعنف”. وتقول جارو أن “الأساليب والأسلحة التي يستخدمها أولئك المُكَلَّفون بتنفيذ القانون تصيب الكثيرين ويمكن أن تقتلهم”.

“من الضروري أيضًا عدم إغفال العقوبات القاسية وغير المتناسبة على الإطلاق التي تقع على المتظاهرين، في حين يتم تبرئة الشرطة بشكل منهجي. فمن المنطقي إذن أن يتسع سخط الجماهير في هذه الظروف، ولا سيما بين قطاع من الشباب. وتحاول الحكومة تقسيم الحركة الاجتماعية والتأكيد على عنف المتظاهرين لتشويه سمعة التعبئة الاجتماعية. وقد أدانت الحكومة الاشتراكية علنًا – كما لم يحدث من قبل – “انتهاكات” اتحاد العمال (CGT) من خلال رئيس وزرائها نفسه.

اتخذت الحكومة أيضًا بعض التدابير المناهضة للديقراطية، حيث قمعت المناقشات البرلمانية في الجمعية الوطنية – الأمر الذي لا يعدو سوى أن يكون اعترافًا بالضعف. وقد أظهر ذلك أن هولاند كان عاجزًا عن الحصول على أغلبية الأصوات لصالح هجماته، حتى داخل صفوف حزبه.

تطلق جارو على ذلك “استيلاء مخزي على السلطة من حكومة فقدت مصداقيتها بالفعل – حكومة كان أعضاؤها ينددون دائمًا بنفس هذه الطريقة عندما كانت تُستخدم من قبل الحكومات اليمينية. لم يسبق أبدًا أن حدث مثل هذا الانفصال بين السلطة التنفيذية وسائر الجسد الاجتماعي. ومهما كانت نتيجة هذا الصراع، سيكون الثمن هو تعميق الأزمة السياسية الهائلة، وزعزعة استقرار مجمل المشهد السياسي الفرنسي. لكن هذه الأزمة، رغم أنها محمَّلة بالمخاطر، إلا أنها أيضًا محمَّلة بإمكانيات إعادة التعبئة وتسييس الشباب، وحتى تجديد اليسار”.

اندلاع الصراع
هناك ميزة رائعة في النضال الحالي وهى أن الشباب اتخذ الخطوة الأولى. انخرط الجامعيون والطلاب، الذين عادةً ما يظلون بعيدون عن النضال العمالى، فيه منذ البداية، حيث يعمل العديد منهم لدفع تكاليف الدراسة، لذا فهم غير مُنفصلين عن مشاكل الحياة العملية. وبشكل حاسم، فمستوى الغضب والوعي السياسي أعلى مما كان عليه في الصراعات الماضية.

ويشمل غضب الشباب الآن “الواقع الاجتماعي ككل، وهو ما يميز التعبئة الحالية عن التحركات السابقة للشباب التي كانت متركزة بشكل أكبر على القضايا الدراسية والجامعية. النضج السياسي وإصرار الشباب يثير الإعجاب”.

في حشد هذه التحركات، ظهرت حركة “طول الليل”. وهي إبداع مُذهل مرتبط بتحركات العمال. بدأت “طول الليل” من باريس، لتنتشر في المحافظات. فقد كانت وما تزال تمثل تحديًا لهجمات الحكومة. تقول جارو “حتى وإن كنا آسفين لضعف “طول الليل” في الضواحي العمالية، لكنها لا تزال حركة لا يُستهان بها تؤثر على الآلاف من البشر، سواء كان المشاركون فيها مسيَّسين من قبل أم لا”. إنها مساحة للتواصل مع النضالات والإضرابات المختلفة، تشبه الكثير من نضال الميادين في مصر واسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية واليونان وتركيا، وتحمل مثلهم كلًا من الخصوصيات الذاتية والانقسامات الداخلية:

“حركة طول الليل مكان للتسييس الأصيل لمواجهة الأفكار المُسيطرة في المجتمع، ولوضع البدائل في التضامن الفعَّال وخلق صلة مع العمال في النضال. المناقشات في “طول الليل” متنوعة، ولكنها تتميز أيضًا بمناهضة الرأسمالية والإرادة عند بعض المناضلين لتوحيد النضالات المختلفة معًا. سيدوم تأثير هذه الحركة، ومن المستحيل قياسه على الفور، ولكن هذه هي المساحة التيي ستشكِّل جيلًا جديدًا من المناضلين، الذين يريدون القطيعة مع الاستسلام والسلبية”.

لكنها ليست المكان الوحيد الذى يحدث فيه الصراع: “بدأ النضال في الجامعات والمدارس الثانوية. ثم التقط العمال الراية من الشباب – الذين يصعب حشدهم خلال فترة الامتحانات. فبعد تواصل الإضرابات والمظاهرات، أعقب ذلك انخفاض طفيف. ثم تصاعدت مرة أخرى، لكنها لم تصل بعد لمستوى 2010 أو إضرابات قانون التقاعد عام 1995 – التي تعد النقطة المرجعية الكبيرة للنضال الاجتماعي الحديث في فرنسا”.

“تظل الاعتصامات أكثر أهمية: تبدو المظاهرات كبديل للإضرابات من إحدى النواحي والعكس صحيح. في بداية يونيو، أحصينا من 450 إلى 500 نضال عمالي حول مختلف القضايا، مما وسع من النضال ومثل قطيعة مع نقاط ضعف الماضي. وبالإضافة إلى ما قيل، فإن القطاع العام هو الأكثر تعبئة. وقد لجأ العمال في السكك الحديدية ومصافي النفط والطاقة والنقل وجمع النفايات إلى الإضراب لأجل غير مُسمى. وتشير جميع استطلاعات الرأي أن العمال يحظون بالتأييد الشعبي الواسع ويحافظون عليه، على الرغم من حملات التشنيع الهائلة من وسائل الإعلام”.

الحركة العمالية
لقد عانت الحركة النقابية في فرنسا من الانقسام لفترة طويلة، مما يعد نقطة ضعف، ولكن هذا يعني أيضًا أن أجزاء من الحركة لم يتم دمجها بشكل كامل في جهاز الدولة، كما هو الحال في أجزاء أخرى من أوروبا. وتوضح جارو أنه في فرنسا “عادةً ما يميزون بين النقابات الإصلاحية والنقابات المناضلة”.

يمثل الاتحاد الفرنسي للعمل (CFDT)، والاتحاد العام للعمال (CGT) كلًا من هذين الاتجاهين. إنهما يتنافسان في العضوية والنفوذ والتوجه، ويتأرجحان بين التعاون مع الحكومة أو النضال ضدها.

كان الاتحاد الفرنسي للعمل CFDT في السابق وثيق الصلة بما كان يسمى اليسار الثاني، والموالي الآن لليبرالية الجديدة: “بعد بعض الاحتجاجات… دعم قانون العمل ورفض الانخراط في المعارضة”. وخلال موجة الإضرابات في العام 1995، خسر الاتحاد الفرنسي للعمل CFDT كثيرًا من أعضائه بسبب دعمه الهجمات الحكومية على الضمان لاجتماعي.

“أما الاتحاد العام للعمال CGT فله علاقات تاريخية مع الحزب الشيوعي. وبالرغم من تراجعه في النضال لفترة غير قصيرة فلقد عاد، بعد أن مر مؤخرًا بأزمة عميقة في قيادته، عاد مرة أخرى إلى مقدمة الصفوف، ولا سيما بعد تجربته الأخيرة في مؤتمر في مرسيليا، الذي أعطى أهمية متزايدة لمطالب العمال الراديكالية”.

في المعركة الحالية “يلعب الاتحاد العام للعمال CGT وأمينه العام، فيليب مارتينيز، دورًا محركًا في النضال الاقتصادي، وأيضًا من الناحية السياسية، ويقدم رؤية أخرى للمجتمع، ولا سيما في الدفاع عن مطلب تخفيض ساعات العمل، وهو المطلب الرئيسي في المعركة ضد سياسات الليبرالية الجديدة التقشفية”.

وتشارك النقابات المناضلة الأخرى في الصراع، مثل “قوة العامل” التي تأسست في عام 1947 نتيجة لانقسام في الاتحاد العام للعمال CGT، والتضامن الديمقراطي الموحد SUD-Solidaires، الذي نشأ في عام 1981، والذي يمتلك قواعد عمالية في القطاعات العامة للدولة مثل الصحة والصحافة والثقافة والبريد والسكك الحديدية.

يبقى الصراع الطبقي على قيد الحياة، ولكن لا أحد يمكنه التنبؤ إلى أين سيؤدي الصراع: “لقد تراكمت هزائم الحركة العمالية الفرنسية عبر العقود الأخيرة، مع استثناء وحيد هو النضال ضد عقد العمل الأول في عام 2006، وكان هذا انتصار للمدارس الثانوية وللطلاب بشكل أساسي، ولكن كان يُعتبر انتصارًا رمزيًا ومؤقتًا أكثر منه انتصارًا حاسمًا لفرملة أجندة الليبرالية الجديدة التي تتقدم كالقطار المجنون”.

“في المقابل، حدثت تعبئة كبيرة، في عام 2010، من الملايين من المتظاهرين في الشوارع، لكنها فشلت في وقف الهجمات على قانون المعاش. لهذا السبب، فإن النصر هذه المرة على الهجوم ضد قانون العمل قد يتبعه عواقب هائلة… هذا النصر ليس مؤكدًا، لكنه يبقى ممكنًا بالنظر إلى مستوى التعبئة الجارية والدعم الشعبي لها”.

اليسار
بسبب الاختلافات الاستراتيجية الداخلية، تقول جارو أن جبهة اليسار – وهي تشكيل ضم الحزب الشيوعي، وحزب اليسار وعدد من المجموعات الأخرى – قد انقسمت: “لقد أعلن جان لوك ميلينشون من حزب اليسار ترشحه للانتخابات الرئاسية، ولكن الشيوعيين منقسمون بعمق”. ومن أقصى اليسار أعلن كل من حزب “مناهضة الرأسمالية الجديد” و”نضال العمال” عن مرشح مختلف، مما يدل على أن الخلافات التاريخية لا تزال تؤثر سلبًا على الحاضر. مما يمثل مؤشرًا كئيبًا على خلفية الصراع الاجتماعي الضخم الجاري.

“الانقسام على يسار الحزب الاشتراكي شاملٌ ومؤسف. ويواجه هذا اليسارأعداءً طبقيين مُتحدين على الضروريات، ويمين متطرف يسيطر، في جو من تصاعد العنصرية، على جزءٍ من الغضب الشعبي. ويمكننا اعتبار النضالات الجارية قادرة على التأثيرفي هذا الوضع، ولكن الترجمة السياسية لهذه النضالات لا يجب أن نتوقع أن تحدث بشكل فوري أو عفوي”.

“من ناحية، لا يزال من الضروري إعادة تصور مشروع بديل مناهض للرأسمالية، ذي مصداقية وقادر على التعبئة، لينجح في توحيد النضالات الحالية، دون الرضوخ للمنطق الرئاسي والطابع المُشخصن للمؤسسات الفرنسية الحالية، مع استغلال الأخيرين في الوقت ذاته. ومن ناحية أخرى، سيكون من الضروري أن يتبنى اليسارالراديكالى المطالب الراديكالية والديمقراطية المطروحة اليوم. باختصار، الاحتمالات المطروحة الآن هشة بقدر ما هي ضرورية”.

*المقال منشور باللغة الإنجليزية في 12 يونيو 2016، على موقع “الراية الحمراء” – أستراليا