سوريا: ثورة وحروب ومفاوضات

يبدو الوضع في سوريا “معقدًا”: ثورة ، وثورات مضادة وحروب إمبريالية..
فقد تحولت هيمنة القوى الجهادية، وبالأخص داعش وجبهة النصرة، التي ساعد في قيامها كل من النظام ودول الخليج في مواجهة الجيش الحر، إلى ذريعة تستخدمها القوى الإمبريالية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا للتدخل المباشر في سوريا. وتشير الكثير من الوقائع إلى توافقهما على تفاهم مشترك لمصالحهما في سوريا: فهاتين القوتين الأكبر تديران بشكل مشترك “الملف السوري” كما يكرر ذلك مسؤوليها مرارا.
بالكاد بعد الإعلان عن نهاية زيارة الجنرال الأمريكي فوتيل قائد القيادة المركزية في الجيش الأمريكي لشمال سوريا (روجافا) ولقائه مسؤولي قوات حماية الشعب الكردية YPG، سارعت الأخيرة إلى إعلان بدء حملة تحرير الرقة وهي عاصمة داعش في سوريا ، وذلك باسم قوات (سوريا الديمقراطية) التي تضم تحالفا لفصائل مسلحة كوردية وعربية وسريانية وتركمانية. تحظى هذه الحملة بتغطية جوية من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة إضافة إلى مشاركة عدة مئات من القوات الخاصة الأمريكية على الأرض. وبالرغم من أن هذه الحملة سمحت بدحر داعش من عدد من القرى والبلدات شمال الرقة إلا أنها ما تزال بعيدة عنها، حتى الآن.
وفي الوقت ذاته يقوم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بتحقيق تقدم لقواته في ريف حلب ودير الزُّور في شرق سوريا. كما أن حربا دامية جرت بين فصيلين رجعيين في الغوطة الشرقية، استغلها النظام لتحقيق بعض الاختراقات فيها والسيطرة على عدة مواقع. بينما في جنوب البلاد فالحرب ما تزال تدور رحاها بين داعش ومجموعات أخرى مناهضة له، وهنالك أيضًا، تتقدم قوات النظام في عدة مناطق، وتتوسع سيطرته الميدانية. وبإيجاز يمكن القول أن هذه المعارك الدائرة في مناطق متعددة من البلاد إنما تستجيب لرغبة الأطراف المتقاتلة (والغالبية العظمى منها قوى مضادة للثورة) لتغيير موازين القوى ميدانيا وتعزيز سيطرتها على الأراضي، ولتحسين وضع وشروط مشاركة بعضها في المفاوضات الجارية في جنيف مع وفد النظام.
“مفاوضات” أم حراك شعبي؟
واحد من أهم أهداف دعم الولايات المتحدة لحملة تحرير الرقة هو تسريع عملية المفاوضات، وتفعل ذلك في الوقت الذي تعلن فيه روسيا بوتين إنها تعطي مهلة محدودة للفصائل “المعتدلة” لأن تفصل نفسها عن جبهة النصرة قبل أن تصبح هدفا لطائراتها، وحددت تاريخ ٢٥ مايو كموعد أخير لتعلن ذلك، لتعود (روسيا) وتعلن بأنها أرجأت هذا التوقيت دون تحديد لتوقيت لاحق لتعطي “وقتا إضافيا للإدارة الأمريكية لإقناع الفصائل المعتدلة بفصل نفسها عن جبهة النصرة”، وفق ما جاء في التصريح الرسمي الروسي. هنالك نوع من التفكيك والغربلة للفصائل المسلحة يجري العمل عليه بين القوتين الإمبرياليتين.
ما يعطي صدقية لذلك هو حادثة الاستقالة “الإكراهية” لمسؤولين من رئاسة الهيئة العليا للمفاوضات (التي تشكلت في الرياض نهاية العام الفائت) هما الزعبي وعلوش المحسوبين على الفصائل الإسلامية المتشددة. وأعلنت الهيئة العليا للمفاوضات موافقتها على استقالتيهما معلنة أنها ستعمل على ضم ممثلين عن المعارضة المحسوبة على موسكو وتلك المحسوبة على القاهرة لوفدها المفاوض. ترافق ذلك مع تسريب لخبر إعداد موسكو لمشروع دستور سوريا القادم نشرته صحيفة الأخبار المقربة من النظام.
مجمل هذه المعطيات تدفع للاعتقاد بأن الدولتين العظميتين ترغبان بفرض “حل” على كافة الأطراف المتصارعة، بل على الشعب السوري نفسه. حل يعيد إنتاج النظام القائم مطعما بأقسام من المعارضة البرجوازية.
وبالرغم من كحالة الواقع، فإن الجيش الحر لم يتبخر بعد والحراك الشعبي، رغم ضعفه، ما يزال حيّا، وهذا الأخير يستعيد شعارات الثورة الشعبية الأصيلة لعام ٢٠١١، ويتمثل ذلك بشكل أخص في المظاهرات شبه اليومية لمعرة النعمان وسلقين وسراقب وكفر نبل، ضد كل من النظام والقوى الرجعية. وأيضًا فيما عبر عنه استعصاء المعتقلين السياسيين في سجن حماة المركزي بمشاركة ٨٠٠ معتقل منذ بداية شهر مايو وسيطرتهم على السجن، مطالبين بحريتهم ووقف الإعدامات الميدانية ورافعين شعارات الثورة الشعبية.
مثلما لم يحصد النظام ثمار الانفجارين الإرهابيين الذين أصابا المدنيين في مدينتي جبلة وطرطوس في ٢٣ مايو، إذ عوضًا عن أن يكسب النظام، وهو ما سعى له، دعم وتماسك القاعدة الاجتماعية التي يستند عليها في ما يسميها “سوريا المفيدة”، فإن العكس هو ما جرى، حيث برز بشكل واضح اتساع نطاق الغضب والنقمة على هذا النظام في أوساطها، وأُدين بشكل صريح بالفساد وأنه نظام لطغمة فاسدة ضيقة يهمها نهم لا يُطاق للسلطة والعنف والمال. لن نتفاجيء بانفجار قريب للجماهير الشعبية ضد هذا النظام الفاجر في المناطق التي يعتبرها قلعته مهما كان فجوره وعنف عصاباته.
الجماهير السورية اليوم ترغب، عموما، بالسلام، ووقف الدمار والقصف وآلة الموت، لكنها لا ترغب ذلك ، ولا سيما بعد كل ما قدمته من تضحيات هائلة، على حساب حرياتها وكرامتها. وهي، بشكل مُلفت، تتبنى أكثر فأكثر أفكار الديمقراطية والعلمانية ومعاداة الإمبريالية، وهو ما نلمسه، في تزايد أعداد التجمعات السياسية والاجتماعية والثقافية الجديدة التي تبنيها والتي تتبنى هذه الأفكار، كما نلحظه في الشعارات التي ترفعها في مظاهراتها، من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية. إن القيام بكل ما يلزم لدعمها ومشاركتها في نضالها هذا، ومساعدتها على تنظيم نفسها، هو واجبنا ومهمتنا في هذه اللحظة من الصراع.
* المقال منشور بجريدة “الخط الأمامي” العدد 37 – الصادرة عن تيار اليسار الثوري السوري