بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

نظام سياسي ينهار في انتخابات فرنسا

الاشتراكي الثوري الأمريكي آلان ماس يحلِّل نتائج الجولة الأولى من التصويت في انتخابات فرنسا الرئاسية وتوابع النضالات المقبلة.

تستمر الانتخابات الرئاسية الفرنسية العاصفة لعام 2017 لمدة أسبوعين آخرين بعد اللحظة الفارقة التي صنعها التصويت بالجولة الأولى يوم الأحد الماضي. للمرة الأولى لا يصل مرشحو أحزاب يمين أو يسار الوسط التقليدية، التي حازت السلطة منذ الحرب العالمية الثانية، لمركزيّ القمة المؤهلين للجولة الأخيرة المحددة للرئاسة في السابع من مايو.

جاء في المركزين الأولين كل من إيمانويل ماكرون، وهو مصرفي وزعيم حزب حديث التكوين خدم مؤخرًا في حكومة الضرورة للحزب الاشتراكي التي تمثل سياسات يمين الوسط التقليدية. وإلى جانب ماكرون تأتي ماري لوبان، زعيمة الجبهة الوطنية على أقصى اليمين.

كان المُعلِّقون التقليديون في فرنسا والعالم يهنئون أنفسهم بأن ماكرون منع لوبان من إدعاءِ نصرٍ جديدٍ لشعبويي الجناح اليميني المعادي للأجانب لتتبع به نصر دونالد ترامب في الولايات المتحدة. لكن احتفال هؤلاء المعلقين يتسم بعدم النضج وقصر الرؤية. أولًا، لأن لوبان لم تكن بمنأى عن كسب الجولة الأولى، وأن سياساتها القومية المتعصبة والمعادية للمهاجرين حدَّدَت شروط النقاش طول مدة الحملة، وهذا سيستمر خلال الجولة الثانية، مع الأخذ في الاعتبار أن أثمن ما يرتكز عليه ماركون سياسيا هو صورته الشابة اللامعة التي تخفي التزامًا كاملًا بسياسات الوضع الراهن التقليدية.

تظهر صناديق الاقتراع تحقيق ماكرون انتصارٍ سهل في 7 مايو، لكن محاولة قلب النتائج ليست أمرًا مُستَبعدًا، خصوصًا بعد حملةٍ كشفت صدمات ومفاجآت، إذ وصل حزب اليمين التقليدي إلى تعادل افتراضي على المركز الثالث، و حلَّ مرشح الضرورة لحزب يسار الوسط الاشتراكي في المركز الخامس على نحوٍ مثيرٍ للشفقة بنسبة 6.2% فقط من الأصوات.

وبعد فوزٍ ساحقٍ بالسلطة في الانتخابات منذ خمس سنوات، نجد الحزب الاشتراكي مكروهًا لترأسه بالأساس نفس برنامج التقشف الذي تبنته حكومة يمين الوسط السابقة له، في حين ظلَّ الناس يعانون الركود وتدهور مستويات المعيشة. وهذا ما استغلته لوبان، إذ وعدت باقتصادٍ نشِط بعد الانفصال عن الاتحاد الأوروبي مستخدمةً المهاجرين ككبشِ فداءٍ – خصوصًا المسلمين منهم.

لكن حالة السخط على الوضع الراهن كان من شأنه أن يغذّي صعود جان لوك ميلينشون، الذي أدار حملةً يساريةً مستقلة، كانت هي المفاجأة الحقيقية في الانتخابات. إن ميلينشون، وهو عضوٌ سابق في الحزب الاشتراكي ساهم في تأسيس حزب اليسار عام 2008 بعد خروجه من الحزب الاشتراكي، تمكَّنَ تقريبًا من مضاعفةِ أصواته في هذه الانتخابات مقارنةً بما جنى من أصواتٍ منذ خمس سنوات، ليصل إلى تعادلٍ افتراضي على المركز الثالث بنسبة أقل من 20%. واعتُرِفَ به فائزًا بالمناظرات الرئاسية التي عُرِضَت على قنوات التلفزيون، إذ نجح في إحراج كلٍ من الأحزاب التقليدية ولوبان بخصوص فضائح الفساد. وقد طرح ميلينشون برنامجًا اقتصاديًا يساريًا مع التأكيد على العدالة للجميع، الأمر الذي مَثَّلَ تناقضًا صارخًا في التزام الحزب الاشتراكي بالنيوليبرالية.

ورغم النتائج المتواضعة لميلينشون، التي لم تبلغ به الجولة الثانية، يمنح العرض القوي الذي قدَّمه الأمل في أن الاختيار في الانتخابات الفرنسية المستقبلية لن يكون مقتصرًا على اليمين وأقصى اليمين.

ماري لوبان والجبهة الوطنية
إن نسبة 21.5% التي حقَّقَتها لوبان في الجولةِ الأولى هي أقل مما حقَّقَته الجبهة الوطنية في انتخابات عام 2014 للبرلمان الأوروبي، والتصويت الوطني في عام 2015 للمجالس المحلية والإقليمية. لكن لا يزال بإمكان الحزب أن يتباهى بما حقَّقَه في الجولةِ النهائية بانتخابات الرئاسة للمرة الثانية عام 2002 في حملة والد ماري المرشح جان ماري لوبان، وترى التغطية الإعلامية التقليدية في الولايات المتحدة ماري لوبان كمرشحةٍ تقليديةٍ وليست مرشحةً على أقصى اليمين المتطرف. وهذه هي أقصى جهودها لتغيير صورة الجبهة الوطنية كحزب أبيها الذي تبنَّى صراحةً أفكارًا فاشية. وقد خطَّطَت لوبان طرد أبيها من الحزب في عام 2015، بعد تكراره لواحدٍ من أكثر تعليقاته سوءًا في سنواته المبكرة وهي أن “الهولوكوست ليس إلا تفصيلة تاريخية”.

تخلَّت الجبهة الوطنية لماري لوبان عن معاداة السامية المُطلقة بل وجذبت أصواتًا يهودية. وحيث أن الإسلاموفوبيا الآن تُعد موضوعًا بارزًا لدى الجبهة الوطنية؛ فإن ذلك يعد مغازلة لأصوات الداعمين بقوة لإسرائيل. وفي الحقيقة، وكما كتب ماثيو ديسان في موقع مجلة جاكوبين الأمريكية، فإن لوبان الصغرى تدافع الآن عن قيم الجمهورية بشكل لا يضعها خارج الأحزاب التقليدية.

لكن الجبهة الوطنية “الجديدة” لا تختلف كثيرًا عن الجبهة القديمة. على سبيل المثال، بينما طردت ماري لوبان والدها من الحزب الذي ساهم في تأسيسه، تلقت حملتها الرئاسية تمويلًا بستة ملايين يورو منه.

وتأتي الصورة الجمهورية الجديدة بالتحديد لكاميرات التلفزيون وليس لقاعدة مؤيدي الحزب. وكما كتب جيم وولفري في موقع مجلة جاكوبين، فإن:

“أكثر من ثمانية بين كل عشرة متعاطفين مع الجبهة الوطنية يصفون أنفسهم بـ”العنصريين”، وثلاثة أرباع منهم لديهم آراء سلبية عن المسلمين، وأكثر من نصفهم يعبرون عن آراءٍ معادية بقوة للسامية، والثلث لا يرى اليهود فرنسيين بالكامل ولا يعارض مصطلح “اليهودي القذر”. وبالطبع، تزايدت معاداة السامية السائد في هذا القلب الصلب لناخبي الجبهة الوطنية تحت قيادة ماري لوبان”.

إن سبب نجاح ماري لوبان في انتخابات 2017 ليس العلاقات العامة الأفضل، لكن السبب هو السخط الجماهيري على النظام السياسي الفرنسي. وكما هو الحال في الولايات المتحدة، تتوق الجماهير إلى بديلٍ للوضع الاقتصادي والسياسي الراهن، والجبهة الوطنية تملأ الفراغ بقوميتها وتقديمها كبشِ فداءٍ بشكلٍ عنصري. وقد مُهِّدَ لهذه المرحلة بالحكم الكارثي للحزب الاشتراكي منذ انتصار فرانسوا هولاند في الانتخابات الرئاسية الأخيرة منذ خمس سنوات. فبدلًا من اتخاذ إجراءٍ حيال وعودهم الغامضة بمواجهة اللامساواة، استمر هولاند ورئيس الوزراء مانويل فالز في التقشف النيوليبرالي، بل وزادوا منه. وأصبح الحزب الاشتراكي هو المتحكم في التزايد العنيف لقمع الدولة، خصوصًا بعد الهجمات الإرهابية في باريس عام 2015.

في هذا المناخ السياسي الاستبداي، مدَّدَت حكومة هولاند حالة الطوارئ لأكثرِ من عام ونصف العام حتى الآن، وبالتالي كان من السهل على لوبان أن تضع شروط المناظرة الانتخابية.

حملة ماكرون
أكدت حملة ماكرون الانتخابية على أنه قادمٌ من خارج النظام السياسي، إذ لم يتقلَّد منصبًا مُنتَخَبًا ولم يخدم في حكومة الحزب الاشتراكي إلا لمدةٍ قصيرة. لكن، من الناحية السياسية، يقف ماكرون على مسافةٍ متساويةٍ من أحزاب المؤسسة. وفي الحقيقة، فقد ارتبط ماكرون سابقًا بإصلاحاتٍ في صالح عالم الأعمال، تتضمَّن تغييراتٍ في قوانين العمل الفرنسية والتي كانت دافعًا للعديد من المظاهرات الجماهيرية المندلعة حديثة.

بعد انتهاء الجولة الأخيرة من الانتخابات الرئاسية تأتي انتخابات الجمعية الوطنية في يونيو. وعادةً يمكن للفائز بالرئاسة الاعتماد على هذا المكسبِ لتحقيق مكسبٍ لحزبه في هذه الانتخابات ليضمن أغلبية تشريعية. لكن في هذه الحالة، سيتنافس ماكرون على مقاعد الجمعية الوطنية مع حركة سياسية حديثة التأسيس (حركة “إلى الأمام”) والتي من المحتمل أن تؤدي أداءً جيدًا بالأخذ في الاعتبار الضيق من الأحزاب التقليدية، لكن أغلبية المقاعد بعيدة الاحتمال، وهذا يعني أن الحكومة المقبلة ستعتمد على تحالفٍ يمكنه أن يعيد الحزب الاشتراكي مرةً أخرى للحكومة إلى جانب حزب يمين الوسط التقليدي.

يعتمد قادة الحزب الاشتراكي على ذلك، فرئيس الوزراء الذي خاض انتخابات الحزب للترشح للرئاسة وخسرها، تخلى عن مرشح الحزب بينوت هامون ودعم ماكرون في حملته الانتخابية. وبعد تصويت الأحد، ناشد هامون وباقي الحزب الاشتراكي داعميهم للتصويت لماكرون، وكذلك فعل فرانسوا فالون، مرشح جمهوريي يمين الوسط. فجميعهم يتصور نفسه ذا دورٍ في الحكومة المقبلة. وهذا يفسر لماذا يُعتَبَر الاحتفال الإعلامي السابق لأوانه بخسارة لوبان ضيِّق الأفق.

إذا أصبح ماكرون رئيسًا، سيحاول تطبيق سياسات مطابقة لسياسات تلك الأحزاب التقليدية فاقدة المصداقية. وإذا لم تحظ حركة “إلى الأمام” بأغلبيةٍ غير مسبوقة، فستمتلئ حكومة ماكرون بخليطٍ من الحزب الاشتراكي والمتدخلين الجمهوريين الذين لم يجنوا إلا كراهية الناخبين أثناء حكمهم في آخر حكومتين. عندها ستتلاشى صورة ماركون “القادم من خارج النظام”، وانتصاره سيمهد الطريق للوبان ليسمعها المزيد من الناخبين في الانتخابات المقبلة.

ميلينشون والبديل اليساري
لكن لوبان والجبهة الوطنية ليست النتيجة الوحيدة للسخط على الوضع الراهن، فأداء ميلينشون القوي في الجولة الأولى يُظهِر إمكانيةً لبديلٍ يساري. ففي الربيع الماضي، وفي ظل حالة الطوارئ المستمرة، والمناخ المُحبِط المعادي للمهاجرين والمعادي للمسلمين، اندلعت مظاهرة جماهيرية ضد تصميم الحكومة للدفع في اتجاه تعديل قانون العمل الفرنسي – تمامًا مثل “الإصلاح” الذي يدافع عنه ماكرون. هذا الصعود أعطى دفعةً لحركة “طول الليل”، التي تنظم مظاهرات ليلية في ميدان الجمهورية في باريس، والتي تبعها حراكٌ في أماكنِ العمل وإضرابٌ عامٌ في نهاية مايو الماضي.

إن تدفق المقاومة الطبقية عند أعلى نقاطها من اتحاد عمال النقابات، مع العاملين بأجورٍ منخفضة من الشباب والطلاب والعاطلين، قد أظهرت بشكل واضح بديلًا لسياسات اليأس والكراهية للجبهة الوطنية. اعتمد ميلينشون على هذه الروح المختلفة من المعارضة في الانتخابات، إذ أظهر طرحه الطموح لإصلاح النظام السياسي لتقليل سلطات الرئاسة تباينًا واضحًا مع الاستبدادية المتزايدة التي يؤيدها كل حزبٍ في الطيف السياسي من الحزب الاشتراكي حتى لوبان.

ظهرت بعض نقاط ضعف ميلينشون السياسية خلال الحملة. بالنسبة للانتخابات، اختار أن يبدأ تكوينًا سياسيًا جديدًا تمامًا واسمه “فرنسا المتمردة”، بدلًا من أن يكون مرشحًا من تحالف جبهوي يساري كان قد ترأسه في 2012، فكانت النتيجة أن صار غير معبرٍ عن باقي قوى اليسار.

وعلاوة على ذلك، يُعد ميلينشون ضعيفًا في إحدى أهم القضايا السياسية في فرنسا، وهي الإسلاموفوبيا، ففي اللحظة التي تُستخدم الدعاية المعادية للمسلمين للدفع باتجاه فرضِ قيودٍ وحشية على الديمقراطية، فإن ميلينشون دعم منعًا لارتداء “الرموز الدينية الظاهرة” في المدارس والمُوجَّه خصيصًا لحجاب المرأة المسلمة. وهذه هي إحدى القضايا التي تمكَّنت لوبان من إحراز نقاط فيها ضد ميلينشون في مناظرات الرئاسة، وذلك عندما حاول ميلينشون نقدها لدعمها حظر ارتداء الحجاب في الأماكن العامة، فأشارت لوبان إلى أن الجمهوريين اليساريين مثل ميلينشون دعموا هذا الحظر في المدارس.

ما كان ميلينشون قادرًا على فعله أثناء الانتخابات كان تجسيدًا للبديل اليساري الواضح لنيوليبرالية حكومة الحزب الاشتراكي. ويمكن الحماس للحملة أن يكون حافزًا مستقبليًا لحركة “طول الليل”. لكن في الوقت نفسه، يجب على الحركات اليسارية والاجتماعية أن تنهض لتتحدى وتناضل من أجل حقوق ومطالب مَن يُقدَّمون ككبشِ فداءٍ وكذلك المُضطهَدين من جانب اليمين المتطرف وأمثال التيار السياسي التقليدي.

إن اليسار الذي يمكنه توجيه دفة المد الجماهيري في فرنسا يجب أن يكون بكل الطرق بديلًا لخوفِ وكراهيةِ ويأسِ لوبان والجبهة الوطنية.

المقال منشور بالإنجليزية على موقع العامل الاشتراكي الأمريكي، للاطلاع على النص الأصلي، اضغط هنا.