حول الواقع السياسي الراهن في المملكة.. حوار مع كاتب سعودي

في ظل تعقد المشهد الإقليمي الحالي إثر الدور البارز الذي لعبته السعودية مؤخرًا، أصبحت الحاجة لتحليل وتفسير مجريات الأمور هي جزء من فهم خريطة التحالفات الدولية وتأثيرها على صعود القوى بالمنطقة العربية. في هذا الإطار، أجرت “بوابة الاشتراكي” حوارًا مع الكاتب الاشتراكي السعودي نضال فرح.
ابتداءً، وكمقدمة لهذا الحوار، نود أن نستعرض بشكل سريع التحولات والأحداث التي تعيشها المملكة في المرحلة السياسية الراهنة، ومن ضمنها حقبة الملك سلمان مقارنة بالملوك السابقين. فما هي رؤيتك في كل هذا؟
لكي نجيب على هذا السؤال، يجب أن نعود إلى التاريخ الذي من خلاله تطوّرت الأحداث الأخيرة. هناك نقاط مهمة ساهمت في تأسيس فهم واضح للواقع السياسي الراهن:
أولًا: إن جميع الملوك السابقين لم يعيشوا بمعزل عن النظام الرأسمالي العالمي بينما يعتبر الملك الحالي بداية للقطيعة عن كل ما هو قبله؛ فهو الرأسمالي الوحيد الذي يملك شركات تهيمن على قطاع الإعلام واستثمارات رأسمالية متنوعة. هذا بعكس الملوك السابقين الذين اعتمدوا على سرقة الأراضي والمخصصات المالية والاستقطاعات المباشرة من أرباح النفط. من هنا يصبح الملك الحالي هو رمز البرجوازية الوطنية.
لقد كان هدف الملك فهد بن عبد العزيز الحصول على المخصصات، بينما هدف الملك سلمان هو توظيف تلك المخصصات في الاستثمارات المالية وربطها بالاقتصاد الرأسمالي. إن العهد السابق كان عهد استهلاك وليس استثمار، وهذا هو الفارق النوعي الذي شكّل بداية القطيعة عبر حقبة الملك سلمان الحالية. تلك القطيعة لم تأتِ من فراغ، بل نشأت عبر تطور مركب ولا متكافئ خرجت من أحشاءه طبقة متعطّشة لرأس المال والتنافسية والمزاحمة أشد من تعطشها لانتظار حصصها السنوية.
هذا التطور المركب اللا متكافئ يمكن تتبعه من خلال تحليل تاريخ صعود البرجوازية المحلية، من أفراد يعتاشون على المحاصصة المباشرة مع الأمراء في الكسب الغير شرعي وآخرين يشكلون نموذجًا برجوازيًا يتضارب مع الأساليب التقليدية في تحقيق المكاسب والأرباح.
إن شريحة الأمراء التي تسيدت واعتاشت على الحصص وانتزعت الأراضي وكسبت المال بالطرق التقليدية تتحول الآن إلى شريحة أمراء يحملون أهدافًا أكبر من مجرد الحصول على مخصصات ومكاسب عائلية، أمراء يشكلون نواة الدولة البرجوازية المتسيدة، ويُعد ولي العهد السعودي على رأس زعامتهم. تلك الفئات لا تحمل في داخلها نقائض فيما بينها شريطة وجود المال للجميع. إنما الأزمة الاقتصادية تجمعهم كنقائض في مرحلة انخفاض هامش الربح والتباطؤ في النمو وإفلاس الشركات.
أحدثت إجراءات الاعتقالات الأخيرة التي ضمت أمراء ووزراء وكبار مسئولين اضطرابات نسبية على الساحة السياسية الداخلية للسعودية، فيما بدت بإقصاء أجنحة وتصعيد أجنحة أخرى داخل العائلة المالكة. كيف تقرأون تلك الإجراءات؟ وماذا يمكن فهمه على صعيد تماسك النظام السعودي الحاكم؟
الحقيقة إن مصطلح صراع الأجنحة هو نتاج للإرث السياسي الرث للمعارضة المحلية منذ حقبة الستينيات والذي يتناول صراع الأمراء كحتمية منفصلة عن الواقع السياسي بالمجمل، فيتم تهميش كافة الظروف والمفاعيل السياسية وتناقضاتها ويختزل الأمر في مشاجرات وخصومات فردية. نود أن نؤكد على أن الأفكار التي تتمحور حول صراعات أفراد العائلة المالكة لها تبعات بالغة الخطورة:
أولاً: تكريس الأفكار التي تروجها الطبقة الحاكمة، كفكرة الراعي والرعية، والملك كرمز أبوي، وانتعاش الإشاعات، وكل ذلك لا يساهم في فهم الصراع الحالي.
ثانياً: إلغاء قدرة الجماهير كفاعل جذري في تغيير النظام، والتخيّل الوهمي بأن الطبقة الحاكمة تنقسم وتتفتت من دون قوة جماهيرية صاعدة لتدميرها وتقسيمها بينما الحقيقة هي أن هذه الأوهام لا يمكن من خلالها حتى بناء حركة ثورية.
ثالثاً: يتم تهميش الفعل الجماهيري ولا يصبح هو البوصلة، بل البوصلة في نظرهم (أصحاب هذه الرؤية) هي ترويج الإشاعات التي تصب في مصلحة الأنظمة المعادية لكنها لا تمثل مصلحة للجماهير المضطهدة.
هنا لا نلغي المزاحمة والتنافسية الوحشية بين مختلف أطياف الطبقة الحاكمة. لكن النظام الرأسمالي في السعودية اليوم يبدو متماسكًا يوجد به تنافس ومركزية في القرار أكثر من أي وقت مضى. في المقابل، توجد أزمة اقتصادية حادة وتراكم لعجز الدولة وبنفس الوقت يوجد مشروع نيوليبرالي بالغ الخطورة سنرى نتائجه على المدى الطويل كما رأيناها تتجلى في انتفاضات الربيع العربي.
حتمًا إن كل تلك الأحداث ليست جوهرية من منظور رؤية صراع الأجنحة!
بالنسبة للشق الأخير من السؤال عن حملة الاعتقالات الأخيرة، يوجد عدة عوامل أدت إلى تلك الاعتقالات ويوجد علاقة بين مبادرة الأمير محمد بن سلمان ومشروع 2030 وبين الأحداث الأخيرة.
لقد كان العُرف السياسي السائد في التاريخ السعودي هو انتقال الحُكم من دون المساس بالملكية الخاصة للأثرياء والأمراء “وجدت عبارات صريحة لحماية الأملاك في النظام الأساسي للحكم ” كانت السلطة تنتقل بسلاسة عبر نظام وراثي لا يعطي اعتبار لأي تجاوزات تجاه المال العام من قبل أي أمير في أي حقبة سابقة.
لم يتجاوز التحوّل السياسي عادة تغيير الأشخاص، انتقال الطاقم القديم إلى الطاقم الحديث، وتبقى أملاك الأمراء والأثرياء كما هي، وقد تتغيّر النُخب المستفيدة أحيانًا، لكن ما حدث حاليًا هو أن ولي العهد وجد نفسه متسيدًا على دولة أصولها شحيحة بعد أن تراكمت التجاوزات في نهب وسرقة المال العام. لقد أصبحت الدولة تتحمّل قطاعات التكلفة من دون وجود أصول وأملاك عقارية، ونتيجة لذلك واجهت عدة كوارث من ضمنها البطالة والإسكان حيث كشفت الأخيرة الغطاء عن حجم الاستيلاء على الأراضي، أو بمعنى آخر أصبحت الدولة بحاجة لإعادة تدوير للسرقة والنهب.
ثانيًا، كان التداول السلمي وسياسة غض الطرف عن أملاك الغير لتستمر لولا الأزمة الاقتصادية وتعثّر مشروع الرؤية 2030، حيث بعد رصد ديون الدولة والعجز وتكاليف حرب اليمن وأزمة العوائد بسبب هبوط أسعار النفط، أصبحت الدولة تحتاج إلى بيع ما يعادل 15% من شركة النفط العملاقة “أرامكو السعودية” وليس ال 5% المعلن عنها فقط لتسديد ذلك العجز، ومن المتوقع أن هذه النسبة ستزيد بفعل التراكم في الدين العام وفي استنزاف الاحتياطي (الأصول النقدية الأجنبية).
في ذات الوقت الذي تم فيه تأجيل الموازنة العامة والانتهاء من مرحلة عجز الميزانية، تصرح الدولة بمحاربة الفساد واعتقال الأمراء وكبار المتنفذين ورجال أعمال بهدف الحصول على تسويات مالية تعوض خسائر خزينة الدولة. لقد جمع محمد بن سلمان الآن ما يقارب 100 مليار دولار، وهذا المبلغ المعلن عنه فقط، من المعتقلين عبر التسويات المذكورة!
أُعلِنَ برنامج 2030 في إطار اتفاقات اقتصادية أوسع مع أمريكا شملت صفقات أسلحة هائلة. فيما أكدت كل المؤشرات تبني المملكة اتجاهات أكثر ليبرالية اقتصاديًا وتحت غطاء من الدعم السياسي. كيف نفهم العلاقات السعودية – الأمريكية وتأثيرها على الصعيد الإقليمي والدولي؟
لقد مرت اقتصاديات النفط بتحولات من ضمنها اكتشاف النفط الصخري واستحداث آليات وطرق مغايرة لاستخراجه، ومن ضمنها أيضا قانون جاستا واستراتيجية أوباما في خلق توازن بين كل من إيران والسعودية. كل تلك التحولات خلقت انطباع بفتور سياسي واحتمالات تحول وحديث عن تضارب المصالح بين الحليفين. بينما وبنظرة سريعة على حجم التبادل التجاري بين السعودية وأمريكا نجد تضاعفه 4 مرات في الـ 10 سنوات الأخيرة من 26 مليار دولار إلى 74 مليار دولار، والولايات المتحدة حائزة على أكبر حصة استثمار أجنبي في السوق السعودي بقيمة 13 مليار دولار. في ظل تلك المرحلة حافظت السعودية على علاقتها الاقتصادية مع أمريكا حيث كانت تصدّر 1,186 برميل نفط يوميًا في عام 2011، أما في عامي 2015 و2016 لا تزال تُصدّر أكثر من 1,050 برميل يوميًا، بالمقابل انخفضت صادرات المكسيك على سبيل المثال من 1,100 إلى 680 برميل يوميًا.
انخفض التصدير النفطي لأمريكا من روسيا ونيجيريا إلى أكثر من 80% خلال الخمس سنوات الماضية. فيما حافظت السعودية على حصتها النفطية وتبادلها التجاري مع الولايات المتحدة كشريك استراتيجي في المنطقة.
لقد صرح وزير الخارجية السعودي بكل وضوح: “علاقتنا مع أمريكا غير قابلة للاهتزاز”. إن هذا التصريح يوضح عمق العلاقة بين الدولتين – فإذا كانت أمريكا عازمة على البقاء في المنطقة، فهي بالضرورة بحاجة إلى المملكة السعودية كحليف استراتيجي للحفاظ على المصالح المتبادلة!
من خلال قراءة تقارير الخارجية الأمريكية نرى أن السياسات الأمريكية تتجه نحو تقليص تكاليف الإنفاق على القواعد العسكرية وذلك عبر زيادة تسليح الحلفاء . نجد أنه في 2017 أُبرمت صفقات تاريخية بين السعودية وأمريكا تعادل 400 مليار دولار منها 110 مليار دولار صفقة تسليح، وعبر زيادة أرباح منتجي الأسلحة ودولها. لقد أصبح طموح المملكة هو الهيمنة على دول الجوار، فتوسّع الإنفاق العسكري إلى أن أصبحت ثالث دولة من حيث الإنفاق على التسليح ليصل إلى 70 مليار دولار خلال 5 سنوات، أي فاق كل من تركيا وإيران وإسرائيل مجتمعة.
في ظل التوسع والهيمنة والمنافسة الإقليمية، أصبح من الضروري جدًا التحول من استيراد الأسلحة إلى تصنيعها محليًا وكل ذلك لدعم الحروب الإقليمية وتأمينها بالإمدادات والذخيرة من دون اللجوء إلى صفقات استيراد طويلة الأمد خصوصًا وأن الجيش السعودي يخوض حربًا وحشية ومليئة بالانتهاكات في اليمن.
شهدت المنطقة رسميًا تعاظم قوتين طالما جمعتهما المواجهات الخلفية. واليوم، وبعد إطلاق الحوثيين صاروخًا باتجاه الرياض وتعقد الوضع داخل اليمن، تبنى بن سلمان خطابًا تصعيديًا وصفه المحللون بنذير حرب. من رأيك، كيف ستتشكل المواجهات السعودية – الإيرانية على الصعيدين اللبناني والفلسطيني؟ وما تأثير ذلك على القضية والمقاومة الفلسطينية، في ظل التقارب الملحوظ وزيارات ولي العهد لإسرائيل؟
خرج محمد بن سلمان في أكثر من لقاء مُصرِّحًا: ” كيف نتفاهم مع نظام عقيدته هي المهدي المنتظر؟”، في إشارة إلى إيران. في الحقيقة الموضوع مضحك للغاية لأن “الإمام المهدي” الموجود لدى العقيدة الشيعية موجود أيضًا لدى العقيدة السنية وبمباركة هيئة الإفتاء السعودي!
إلا إنه من الواضح أن الطبقة الحاكمة في السعودية لا تسعى لجدل فقهي طائفي بقدر ما هي تهدف إلى تكريس الطائفية محليًا، عدا عن كون الطائفية هي انعكاس للصراع الإمبريالي في المنطقة وحلفائها.
لقد صرح ولي العهد السعودي مؤخرًا أيضًا بوصف قيادة إيران بأنها كـ”هتلر النازي”. في الحقيقة كل تلك المناورات لا تكشف عن نذير حرب بقدر ما تكشف عن أن المناورات السياسية الأخيرة لها أهداف ليست حديثة العهد بالنظام السعودي كنزع سلاح حزب الله ومنظمة حماس، والتطبيع مع الكيان الصهيوني، والمحاولة للهيمنة الإقليمية على دول المنطقة.
نشرت ويكيليكس وثائق قبل 8 سنوات تشير إلى لقاءات بين ممثلين للنظام السعودي وممثلين للكيان الصهيوني تم فيها مناقشة نزع سلاح حماس في مقابل ضخ استثمارات بمليار دولار في غزة، كما أن الملك عبدا لله والملك فهد كلاهما أعلنا عن مبادرات سلام للمحاولة للتقرّب من الكيان الصهيوني، أما وزير الخارجية الراحل فلقد عقد عدة مؤتمرات صافح فيها وزير الخارجية الإسرائيلي.
في ضمن ذلك السياق التاريخي أصبحت هناك ضغوط كبرى على السعودية بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية في بداية الألفية إلى نزع الحظر عن أحد أعضاء المنظمة، وفي مقدمتهم الكيان الصهيوني بالطبع. إن تحقيق تلك الأهداف لا يتطلب حرب مباشرة ضد إيران، أو ضرب لمواقع عسكرية لحزب الله، وإن كان هذا الهدف ليس مستبعدًا بقدر ما يتطلب إجراءات اقتصادية عنيفة وإجراءات سياسية كتشكيل تحالفات مع القوى الإمبريالية لتحييد تلك المنظمات. أما على المدى البعيد فإن القوى الإقليمية بزعامة إيران والسعودية متجهة نحو إشعال المزيد من الحروب والقمع والتنكيل لشعوب المنطقة.