بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

عربي ودولي

حوار مع مناضل اشتراكي تركي:

الضربات التركية في عفرين ورهانات المصالح والتورط

لا تزال الساحة السورية تعاني تكالب القوى الإقليمية والدولية في فتح صراعات ومصالح دولية يدفع ثمنها الشعب السوري.

ففي التاسع عشر من يناير الماضي، شنَّت تركيا هجماتها الجوية على المناطق الكردية شمالي سوريا بعد تراجع القوات الروسية وفتح المجال الجوي، في أول تدخُّل عسكري علني للأتراك وسط تهديداتٍ بالوصول نحو العمق في إدلب. أسفرت التدخلات البرية عن مقتل المئات من العسكريين والمدنيين، فيما يواجه الأكراد، كبقية السوريين، صفقاتٍ دولية تُقتَسَم غنائمها بالمفاوضات والمعارضة المرتهنة.

في هذا السياق، أجرت بوابة الاشتراكي حوارًا مع المناضل الاشتراكي التركي (أُ.)، لفهم مجريات الأمور ولمزيد من التحليل السياسي حول الأهداف السياسية والعسكرية للعمليات التركية، وكيفية فهم التحالفات الدولية على الساحة السورية اليوم.

حاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال السنوات الماضية تقديم نظامه كقوةٍ معاديةٍ لنظام بشار الأسد، لكنه اليوم يُمنَح الضوء الأخضر للقضاء على وحدات حماية الشعب الكردية عن طريق اتفاق سري مع الأسد بوساطةٍ روسية. كيف ترى التحالفات التركية على أرض سوريا في ضوء عملية عفرين؟

لقد تغيَّر الموقف الرسمي لتركيا تجاه سوريا خلال سنوات الثورة. من عام 2011 إلى عام 2015، كان الموقف بالأساس هو دعم القوات التي كانت تحاول إسقاط النظام الديكتاتوري لأسرة الأسد. ولكن، منذ النصف الثاني من عام 2015، أصبح الأمر مُتعلِّقًا بالأساس بمنع الأكراد من التمتُّع بأي نوعٍ من الاستقلالية أو السيطرة على أي أراضٍ في شمالي سوريا. هذه هي الديناميكية الرئيسية التي تُشكِّل السياسة الإقليمية لتركيا في الوقت الحالي، ليس فقط في سوريا بل أيضًا في العراق، حيث عارضت أنقرة استفتاء الاستقلال الذي أجرته حكومة برزاني. كما تعلمون، هذه الحكومة ليست حزب العمال الكردستاني، ولكنها حركةٌ وطنيةٌ كردية أخرى كانت في الواقع متحالفةً مع حزب أردوغان (العدالة والتنمية) خلال السنوات العشر الماضية. على أية حال، فإن الدولة التركية – بحكومتها وبيروقراطيتها وفصائل عدة من البرجوازية، والحزب الفاشي وغيرهم – كلهم ​​متحدون حول “دوام تركيا” كما يطلقون عليه. إنهم يخشون من أن اكتساب الأكراد بعض الحقوق في أي مكان في الشرق الأوسط سيكون من شأنه أن يدعم المناطق الكردية في تركيا.

خلال الأسابيع القليلة الماضية، ظهرت تعليقاتٌ متناقضة من مسؤولي حزب العدالة والتنمية حول الأسد. فبينما وصفه أردوغان مرتين بالإرهابي، قال مُمَثِّلون رسميون آخرون للحزب أنهم يتبعون “سياسةً حقيقية” ويقبلون إجراء الاتفاقات مع “كل القوى الموجودة على الأرض”. وحاليًا، تتحرَّك تركيا رسميًا بتوجيهٍ من روسيا، وهي الداعم الرئيسي للأسد.

بعدما فقدت الولايات المتحدة مستوى نفوذها الواسع في المنطقة خلال العقد الأخير بعد غزو العراق، أصبح لدى كل القوى الاستعمارية الأصغر درجةً أكبر من الاستقلالية للمناورة من أجل مصالحهم الخاصة. وقد استخدم أردوغان هذه الاستقلالية جيدًا في الانحياز لجانبِ روسيا ضد دعم الولايات المتحدة لوحدات حماية الشعب. ولكن الأمور تتحرَّك بسرعةٍ كبيرة وتركيا ليست قادرةً على مواجهة لا روسيا ولا الولايات المتحدة الأمريكية على الأرض، وبالتالي ستقتصر مناوراتها على صبر هذه القوى.

روَّجَ أردوغان للعملية العسكرية في المناطق الكردية على أنها حمايةٌ للحدود من “التهديد الإرهابي”، ولكن بعد عشرة أيام من بدء العملية هدَّد بتوسيع التدخل التركي ليصل إلى إدلب. كيف نفهم الأهداف الأساسية للعمليات العسكرية التركية؟ وعلام تراهن تركيا بعد دخول المستنقع السوري؟

دفعت تركيا بهذه العملية لتُبيِّن أنه لا يمكن تهميشها في المفاوضات حول مستقبل سوريا. والواقع أن تركيا لها وجودٌ في إدلب فقط بفضل مفاوضات أستانا التي تسيطر عليها روسيا وإيران في الحقيقة.

لقد اجتذبوا تركيا لصفِّهم كمُمَثِّلةٍ عن “المعارضة السورية الرسمية”، ولكن ما يريدونه من تركيا هو خلق “مساحات تخفيف التصعيد” بالتعاون مع مجموعات المعارضة. وتهدف روسيا وإيران إلى “القضاء على المجموعات الإرهابية” وإعادة إدلب إلى نظام الأسد. وأظهرت تصرُّفات تركيا أنها لن توافق على هذا الدور إلا إذا سُمِحَ لها بكنس قوات حماية الشعب من عفرين. لا أظن أن هناك اتفاقياتٍ متماسكة في الوقت الحالي، ولا تزال الأمور محلَّ نزاع. في خضم الحرب والقتال، اتخذت تركيا زمام المبادرة بمد أيديها، ولكن عواقب ذلك لا يمكن التنبؤ بها من اليوم.

تتنبَّأ الأرقام بمزيدٍ من التوغل للعمليات العسكرية التركية بعد السيطرة على عمق 5 كيلومتر داخل الأراضي السورية في اليوم الثاني من العملية، في حين أن الطبيعة الجغرافية والكثافة السكانية لعفرين تجعل القوات التركية يستقر خيارها على ارتكاب مجازر مُروِّعة لفرض السيطرة الكاملة. كيف ترى مدى التدخل العسكري والسياسي التركي في عفرين؟

أعلن الجيش التركي أنه سيحتاج ثلاثة أشهر على الأقل للوصول إلى وسط عفرين. لقد مضى أكثر من أسبوعين الآن، ولم تقطع القوات التركية إلا 10-15٪ من المسافة الإجمالية. ستكون الأمور صعبةً للغاية في وسط المدينة لأنها ليست مثل مكافحة داعش. القوات التي تقاتلها تركيا هنا تحظى بدعمٍ حقيقي من شعبها. كانت هناك بعض المظاهرات ضد التدخُّل التركي وقد جذبت عشرات الآلاف من الناس. ستبحث تركيا إما عن مفاوضات دبلوماسية مع قوى أخرى لإجبار وحدات حماية الشعب على الخروج من المدينة، أو أنها ستقاتل وحدات حماية الشعب لعدة أشهر مع احتمال ارتكاب مذابح ضد المدنيين، وسيكون هذا قراراً صعباً للغاية بالنسبة لهم، وخلال الأحداث، لا يوجد ما يُؤكِّد أن الروس والأمريكيين سيسمحون لتركيا بالمضي قُدُمًا في ذلك.

وصف أردوغان المنظمات الكردية بأنها إرهابية، ونفى في كلِّ مرةٍ استهداف المدنيين الأكراد على الرغم من مقتل المئات وتشريد الآلاف. كيف يمكن تفسير الخطاب الحكومي بالتوازي مع قمع واحتجاز المعارضين للحرب داخل تركيا؟

الخطاب الكلاسيكي للحكومة التركية هو أنها ليست ضد “الأكراد” لكنها ضد “الإرهابيين”. غير أن إبراهيم كالن، أحد المُتحدِّثين باسم أردوغان، سُئِلَ على شاشة التلفزيون عمَّا سيفعلونه إذا أعلن حزبٌ كردي مدني آخر الحكم الذاتي في عفرين بعد أن تقضي تركيا على “وحدات حماية الشعب” الإرهابية، بحسب قولهم. لم يستطع القبول بذلك. ولدينا أيضًا مثال الأكراد العراقيين، وهم ليسوا مؤيدين لوحدات حماية الشعب أو لحزب العمال الكردستاني، لكن أنقرة لا تزال تعارض حقهم في إعلان الاستقلال عن طريق الاستفتاء.

أما داخل تركيا، فمستوى القمع مخيف. لقد اعتُقِلَ 449 شخصًا بسبب منشوراتهم المناهضة للحرب على مواقع التواصل الاجتماعي، كما أُلقِيَ القبض على 124 شخصًا لحضورهم احتجاجاتٍ ضد الحرب، ولا يزال العشرات منهم مُحتَجَزين حتى الآن. وقد أدلت نقابة الأطباء ببيانٍ ضد الحرب، فأُلقِيَ القبض على جميع أعضاء مجلسها المركزي ولم يُطلَق سراحهم إلا بعد أسبوع. والتقى رئيس الوزراء بجميع مُمَثِّلي القنوات التلفزيونية والصحف ليُملي عليهم القواعد التي ينبغي أن يتبعوها بشأن الكتابة عن العملية العسكرية: عدم إعادة إنتاج الدعاية الإرهابية، وعدم نسخ الأخبار التي تنشرها “المصادر الأجنبية”، وما إلى ذلك.

الحكومة التركية لا تقبل بوجود أيِّ صوتٍ ضد العملية العسكرية.

في رأيك، كيف ستنعكس العمليات العسكرية على أكراد داخل تركيا على وجه الخصوص وعلى المناخ السياسي في العموم؟

أضافت العمليات العسكرية المزيد من الحجارة إلى جدار الخوف الذي بنته الحكومة التركية طوال العام والنصف الماضيين. لقد أنتجت حالة الطوارئ العديد من المراسيم الحكومية التي مَهَّدَت الطريق لتسريح عشرات الآلاف من العاملين في القطاع العام والأكاديميين في الجامعات، ولا يُسمَح بالاحتجاج على معظم الأشياء، كما تُحظَر الإضرابات في جميع الأوقات.

هناك علاماتٌ عديدة على أن الحكومة تفقد دعم مؤيديها وسط الأكراد باستمرار، ولم يبدأ ذلك مع عفرين. لقد تحالَفَ أردوغان رسميًا مع حزب الحركة القومية الفاشي منذ محاولة الانقلاب العسكري في 2016، وعادت قوة جميع الكوادر العسكرية-القومية داخل بيروقراطية الدولة بفضل اضطهاد حزب العدالة والتنمية لمؤيدي فتح الله كولن، الذين استُبدِلوا داخل صفوف الجيش والشرطة بالبيروقراطيين الكماليين القدامى والفاشيين، وهؤلاء يحملون عداءً شديدًا لأي تواجدٍ كردي.

أعلن أردوغان أن العمليات التركية سوف تتلقَّى الدعم من مقاتلي المعارضة السورية. كيف ترى العلاقة بين تركيا والمعارضة المُسلَّحة وأثرها على المشهد العسكري والسياسي في سوريا؟

دشَّنَت القوات المسلحة التركية تدخُّلها العسكري بالتعاون مع بعض جماعات المعارضة. وقد دعمت تركيا منذ فترةٍ طويلة العديد من الجماعات المسلحة داخل سوريا، والتي توحَّدَت تحت اسم “الجيش الوطني السوري” منذ بضعة أسابيع. ومع ذلك، فبعد بدء عملية عفرين غيَّرَت الحكومة التركية خطابها لتعود إلى تسميتهم بـ “الجيش السوري الحر” مرة أخرى.

اندلعت الثورة السورية في عام 2011، ورد نظام الأسد عليها بإرهاب وحشي وبدأ في قتل المئات من المتظاهرين السلميين. بعد بضعة أشهر رأينا انشقاقاتٍ داخل الجيش، وقد تحالَفَ المنشقون مع مبادرات محلية ليُشكِّلوا جماعاتٍ مُسلَّحة. هكذا عُسكِرَت الثورة. وزادت جميع القوى الأجنبية من تدخُّلها في الثورة خلال هذه العسكرة. ونظرًا لعدم قدرتهم على الإطاحة بنظام الأسد الذي تدعمه روسيا وإيران، شرعت جميع قوى المعارضة في البحث عن مساعدةٍ خارجية هي الأخرى. وواجهت الكثير من المجموعات – والتي شُكِّلَت في البداية بتطلُّعاتٍ ثورية – خيارًا صعبًا: إما أن تحل نفسها بسبب ضعفها، أو أن تتحالف مع قوةٍ خارجية. كان ذلك بالطبع مدخلًا للفساد على جميع المستويات، والنشطاء الثوريون السوريون ينتقدون بشدة هذه العملية برمتها.

هناك العديد من مجموعات الجيش السوري الحر داخل قوات سوريا الديمقراطية، والتي تقودها وحدات حماية الشعب الكردية، وهذه المجموعات تشارك في السيطرة على عفرين. وهناك جماعاتٌ أخرى تابعة للجيش السوري الحر خارج قوات سوريا الديمقراطية وتعارض أيضا التدخُّل التركي. إن الأمور على أرض الواقع مُعقَّدةً للغاية، ولا يُعتَبَر الجيش السوري الحر بأيِّ حالٍ من الأحوال هيئةً مركزية من القوات المسلحة.

تحالَفَت تركيا مع أكثر القوى طائفيةً وبؤسًا والتي لا تُمثِّل الثورة السورية على الإطلاق. كان هناك مقطعٌ فيديو انتشر قبل عملية عفرين بوقتٍ قليل، سجَّله من يدعون كونهم “مُتمرِّدين” وهم يتبعون تركيا. كانوا يتغنون بهتافاتٍ عنصرية ضد الأكراد ويُفضِّلون أيضًا الشعارات التي تُمجِّد صدام حسين. لم تعد لهذه الجماعات أي علاقةٍ بالثورة بعد الآن.

الثورات هي عمليات يتَّحِد فيها رجال ونساء الطبقة العاملة من مختلف الخلفيات القومية والعرقية والدينية مع بعضهم البعض ضد الطبقات الحاكمة. في سوريا هذا هو مصير المُضطَهَدين أيضًا: عندما اندلعت الثورة، اكتسب الشعب الكردي أيضًا فرصةً لنيل حقوقه. الآن الثورة المضادة آخذةٌ في الصعود، والأكراد يتعرَّضون أيضًا للهجوم. تكمن مصالح العمال العرب والأكراد والسنة والشيعة والمسيحيين في نضالهم الموحد.