بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

ترامب: خطر داهم لابد من التصدي له

يُقلِّل البعض من شأن ما يفعله ويقوله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فيعتبرون سياساته وأفكاره خروجًا مؤقتًا عن النص الليبرالي الغربي التقليدي، وأن المؤسسات الحاكمة في أمريكا ستتمكَّن من الحفاظ على الاستقرار في الرأسمالية العالمية دون انفجاراتٍ كبرى حتى تنتهي فترة (أو فترتيّ) رئاسته. ولكن الخطورة الحقيقية لترامب ليست في شخصيته، بل في ما يمثِّله من تغيُّرٍ جوهري على المستوى الأيديولوجي والسياسي منذ الأزمة الاقتصادية في 2008 والركود الكبير الذي تسبَّبت فيه.

فعلى مدار ثلاثين عامًا من السياسات الليبرالية الجديدة منذ عهد رونالد ريجان في ثمانينيات القرن الماضي، أدت تلك السياسات إلى انخفاضٍ في الأجور، وزيادةٍ في البطالة لقطاعاتٍ واسعة من الطبقة العاملة، وتراكمٍ غير مسبوق لثروات كبار الرأسماليين (تُقدَّر ثروة مؤسس شركة أمازون بمائة وخمسين مليار دولار). تزامن ذلك مع ثورةٍ صناعية في الصين حوَّلتها من دولةٍ فقيرة من العالم الثالث إلى منافسٍ خطير للرأسمالية الأمريكية. ثم جاءت أزمة 2008 لتُدشِّن فترةً من البطالة والإفقار والسياسات التقشفية الاستثنائية مع زيادة جديدة في الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

السياسة الحالية لدونالد ترامب يجب أن تُفهَم في سياق هذا التاريخ. فهي تُمثِّل ردَّ الفعل اليميني المُتطرِّف لحقبة الليبرالية الجديدة والعولمة. هذه السياسة تنقسم إلى ثلاث محاور. أولًا الحرب التجارية وهي تمثل عودة للسياسات الحمائية القومية التي تميَّزت بها ثلاثينيات القرن الماضي. الخطورة الحالية لهذه الحرب التجارية، إلى جانب ما تثيره من نزعاتٍ شوفينية وقومية، تتمثَّل في احتمال القضاء على التعافي المحدود الذي شهده الاقتصاد العالمي والعودة إلى ركودٍ لا يقل ضراوة عمَّا حدث في 2008. فما بدأ بتعريفة جمركية تبلغ 25٪ على سلعٍ صينية مستوردة بقيمة 34 مليار دولار سرعان ما وصل بعد الرد الصيني المماثل إلى 50 مليار دولار من السلع المستوردة، ثم إلى 200 مليار دولار (علمًا بأن إجمالي الصادرات الصينية إلى أمريكا يبلغ 550 مليار دولار والصادرات الأمريكية إلى الصين لا يتجاوز 130 مليار دولار).

هذه الحرب التجارية، والتي تشمل أيضًا الاتحاد الأوروبي وكندا وأمريكا الجنوبية والهند واليابان، تُمثِّل زلزالًا اقتصاديًا ربما ينهي مرحلة العولمة التي شهدها النظام الرأسمالي العالمي منذ ثمانينيات القرن الماضي.

أما المحور الثاني، فهو التغيير في التحالفات الدولية الذي يحاول ترامب إحداثه. فقد شاهدنا التوتُّر السياسي الذي أحدثه ترامب بالموقف العدائي الذي أظهره خلال زيارته الأوروبية الأخيرة تجاه ألمانيا والاتحاد الأوروبي من جانب ومن الجانب الآخر التحالف العلني مع روسيا بوتين. لا نعرف إلى أي مدى سيصل هذا التحوُّل في التحالفات الدولية، ولكنه بلا شك أكبر تهديد للمنظومة الدولية التي أسَّسها الأمريكيون أنفسهم بعد الحرب العالمية الثانية.

والمحور الثالث في “غزوة” ترامب الأوروبية هو تحريضه ضد المهاجرين وتأييده لأقصى اليمين مُمَثَّلًا في حكومات المجر وإيطاليا والنمسا والأحزاب العنصرية في ألمانيا وبريطانيا. يُمثِّل هذا التأييد العلني لهذه القوى دفعةً غير مسبوقة للفاشية الأوروبية، بل ولليمين على المستوى العالمي.

أما الليبراليون الذين يريدون حلَّ المشكلة بالعودة لما قبل ترامب (أوباما وهيلاري كلينتون على سبيل المثال) فهم واهمون. فعندما تبنَّت أحزابٌ مثل الحزب الديمقراطي الأمريكي والأحزاب الاشتراكية الديمقراطية سياسات الليبرالية الجديدة والعولمة الرأسمالية فهي بلا شك مهَّدَت لصعود اليمين الشعبوي.

ولكن مثلما يخلق فشل سياسات الليبرلية الجديدة الفرصة الموضوعية لظهور رد الفعل اليميني، مُتمثِّلًا في ترامب، فإنه وبنفس المقدار يخلق الفرصة الموضوعية لظهور رد الفعل اليساري، والذي تواصلت حلقاته من انتفاضة اليونان وحتى الاحتجاجات الاجتماعية الجارية الآن في العراق، مرورًا بالثورات في المنطقة العربية والاحتجاجات واسعة النطاق ضد سياسات الليبرالية الجديدة في أوروبا وأمريكا الجنوبية وأفريقيا وآسيا.

لذا فالخطر الذي يُمثِّله ترامب يجب أن يُواجَه بقوةٍ من اليسار الراديكالي عالميًا. أولًا بالدفاع عن التضامن الأممي بين الطبقات العاملة في مواجهة القومية والعنصرية، وثانيًا بطرح برامج اقتصادية تستبدل العولمة الليبرالية الجديدة ليس بالتنافس القومي والسياسات الحمائية بل بإعادة توزيع الثروة لصالح الطبقات العاملة على المستوى المحلي والعالمي، وثالثًا بالمواجهة المباشرة للقوى الفاشية والدفاع عن الأقليات والمهاجرين. ربما كانت المظاهرات الضخمة في بريطانيا ضد زيارة ترامب وكلِّ ما يُمثِّله بداية الطريق لوقف هذا الخطر الداهم.