بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

العراق: نضالٌ من أجل المستقبل

إن المظاهرات التي اندلعت مؤخرًا في العراق لهي أبلغ ردٍّ من جماهير العراقيين لما ترتَّب على الغزو الأمريكي لبلدهم في العام 2003. إذ خرج الآلاف من المتظاهرين إلى شوارع المدن العراقية، واقتحموا المباني الحكومية، مطالبين بتمويل الخدمات الأساسية، مثل الكهرباء والمياه.

يُعَد نقص الكهرباء مشكلةً كبرى تكاد تكون حياة العراقيين غير مُحتَمَلة معها، خاصةً مع قيظ شمس الصيف في البلاد، إذ أن محافظات جنوبيّ العراق من أكثر المناطق حرارةً على الأرض. وفي هذا الوقت من العام، تصل حرارة محافظة البصرة إلى 50 درجة مئوية. ومع إمدادات الكهرباء المحدودة، أو انقطاعها بصورةٍ مستمرة، لا يتمكَّن حتى أولئك الذين يمتلكون مُكيِّفات هوائية أو ثلاجات من تشغيلها.

بَلَغَ الناس نقطة الانفجار، لكنهم أيضًا يعلمون أنهم حين يقتفون أثر مشكلاتهم إلى الوراء فإنها ستصل بهم إلى الاحتلال والغزو الأمريكي، لذا فإن مطالبهم تضرب بعمقٍ في السياسة. فبعد 15 عامًا من الغزو، لا يزال العراقيون يدفعون ثمنًا باهظًا، إذ خرَّب الاحتلال الأمريكي الاقتصاد العراقي بالكامل، وأسَّسَ نظامًا سياسيًا طائفيًا وفاسدًا.

بالطبع كان هناك فسادٌ في ظلِّ حكم صدَّام حسين، لكن أخذ شكلًا أعمق وأكثر تكثيفًا بعد الغزو. فالنظام الجديد قد أحدَثَ طفرةً في الممارسات الفاسدة التي استفادت منها الشركات الأمريكية. جاء ذلك أيضًا في مصلحة الكثير من رجال الأعمال والساسة العراقيين الذين عقدت معهم الولايات المتحدة صفقاتٍ مشتركة.

رسَّخَت الولايات المتحدة نظامًا سياسيًا طائفيًا لم يشهد له العراق مثيلًا من قبل. فبعد العام 2004، لم تجرِ أيُّ انتخاباتٍ إلا بناءً على أسسٍ طائفية، ذلك لأن هذا هو النظام الذي صمَّمه الأمريكيون للعراق بعد تدمير دولة صدَّام. إذ ميَّزَت الولايات المتحدة بعض الجماعات الإثنية والطائفية –لاسيما النخبة الشيعية- على حساب غيرها.

احتجاجاتٌ متواصلة في مواجهة ظروفٍ خانقة
لكن في الحقيقة، فقد استفادت كلُّ الأحزاب والشبكات السياسية التي شجَّعَت الولايات المتحدة نموها، سواء كانت سنية أو شيعية أو كردية، من نظام الفساد هذا. لذا فإن لهم مصلحةً مشتركة في الحفاظ على هذا النظام وحرمان الجماهير العراقية من موارد البلاد.

والأمر المهم في الاحتجاجات الراهنة، التي تتسع على نطاقٍ واسع، هي أنها تستهدف كلًّا من الفساد والممارسات السياسية الطائفية. في مدينة البصرة بصورةٍ خاصة، يحمل المتظاهرون لافتاتٍ ويصيحون بهتافاتٍ تشير بالأساس إلى أن البصرة تدر عائداتٍ هائلة من النفط، بينما لا يرى المواطنون الغاضبون منها شيئًا سواء في صورة أجور أو خدماتٍ أساسية يحصلون عليها، كالطاقة أو الوقود.

تأتي 95% من إيرادات الدولة العراقية من النفط. ويرى الناس أن الحكومة تستفيد من عائدات النفط الهائلة –وهو ما يجعل الحكومة مستمرةً حتى الآن ويمنح استدامةً للنظام القائم على الامتيازات الطائفية. في حين أن الناس في المناطق الغنية بحقول النفط يكافحون من أجل العيش.

ويردُّ المواطنون العراقيون العاديون على ذلك بأكثر الصور جلاءً؛ إذ يقفون ضد الفساد، ويريدون أن تُوزَّع موارد البلاد بطريقةٍ تلبي احتياجات الشعب. وكذلك يريدون التخلُّص من النظام الطائفي. يتساءلون أين كل تلك الأموال؟ ويدركون أنها في أيدي الساسة الفاسدين. النظام برمته مُتعفِّن.

تتواصل الاحتجاجات إزاء هذه القضايا منذ 2011، العام الذي اندلعت فيه ثورات الربيع العربي، وتتسع أكثر فأكثر كل عام. وفي عاميّ 2015 و2016 احتلَّ المتظاهرون المنطقة الخضراء في قلب العاصمة العراقية بغداد، حيث كانوا يحتجون ضد نفس المظالم التي يتظاهرون ضدها اليوم. هذه المنطقة هي قلبٌ مُحصَّن في المدينة أنشأه الأمريكيون بعد الغزو. هذه هي المنطقة التي كان الاحتلال يُدار منها، بين الأسوار الخرسانية وتحت حماية المركبات المُدرَّعة، وصارت لاحقًا مقرًا للحكومة العراقية.

جاءت الاحتجاجات صادمةً للغاية بالنسبة للنظام، فالقصة التي نسجتها الولايات المتحدة بعد انسحاب قواتها هي أن الأزمة العراقية قد ولَّت، وأنهم قد أسَّسوا نظامًا ديمقراطيًا جديدًا، وأن رخاءً كان مُقبِلًا على البلاد. لكن في عاميّ 2015 و2016 واجهت الحكومة تحديًا كبيرًا من قِبَلِ جماهير المتظاهرين الذي رفعوا شعاراتٍ مُحدَّدة برفض الفساد ومن أجل تأسيس دولة مدنية.

قُمِعَت المظاهرات، جزئيًا تحت حجة الحكومة بأن العراقيين لابد أن يتوحَّدوا ضد تنظيم داعش. وكانت تلك هي الفترة التي كان فيها داعش يستولي على أجزاءٍ من غربيّ وشماليّ العراق، وقد سيطر بالفعل وقتذاك على مدينة الموصل. كان الخط الذي انتهجته الحكومة هو أن الاحتجاجات تُشتِّت الدعوة من أجل وحدة العراقيين الوطنية ضد داعش. أما الآن، فقد رحل داعش، والحكومة العراقية تحتفي بنجاحها في طرد التنظيم، لكن لم يعد بإمكانها بعد الآن استخدام حجة داعش.

ومع بطلان دعوات الوحدة الآن، يشعر العراقيون بمزيدٍ من الثقة في العودة إلى القضايا الأساسية. وقد نفد صبر المواطنين، وعادت المظاهرات على نطاقٍ أوسع وأشمل بحيث يشارك فيها كل أطياف الشعب. لكنها، مع ذلك، تُمثِّل بالأساس تحرُّكاتٍ للطبقة العاملة –وأعدادٌ كبيرة من المشاركين هم من الشباب.

قبل عامين، أصدرت منظمةٌ بحثية موثوقة، هي “مجموعة الأزمات الدولية”، تقريرًا بحثيًا حول ما أطلقوا عليه “جيل الألفية”. تمحورت الدراسة حول العراقيين الذين ترعرعوا في سنوات شبابهم المُبكِّر بعد الغزو، وواجهوا آثار وعواقب الاحتلال. ما هو موقف هؤلاء الشباب في ظلِّ أزمةٍ اقتصاديةٍ متناميةٍ من جانب، ونظامٍ سياسي طائفي كان يرعى التطهير العرقي بواسطة الميليشيات المُتنافِسة؟ وفقًا للتقرير، واجهت هذه الفئة من الشباب العراقي خيارين؛ إما المشاركة في القتال المُسلَّح في الداخل أو الفرار إلى الخارج.

كان من الصعب إيجاد وظيفةٍ لائقة، أو أحيانًا بالأحرى أي وظيفةٍ على الإطلاق. كان الشباب يُستَحثون على الدوام للانضمام إلى الميليشيات الطائفية وفقًا للمناطق التي يعيشون فيها، أو على أساس هويتهم العرقية. الخيار الآخر هو الرحيل عن البلاد، ومنذ الغزو كان هناك تدفُّقًا مستمرًا من العراقيين الذين يغادرون البلاد. وحتى قبيل شنِّ الثورة المضادة والحرب الأهلية في سوريا، ظلَّ العراق مصدرًا للعدد الأكبر من اللاجئين أكثر من أيِّ بلدٍ آخر في العالم.

الشباب العراقي بالأخص كانوا يغادرون بلادهم. كانوا يهاجرون إلى المدن الأكبر في المنطقة العربية، مثل بيروت ودمشق والقاهرة، أو خارجها ربما إلى تركيا مثلًا، ثم يشقون طريقهم إلى شبكات الهجرة الدولية، حتى وصل كثيرٌ منهم إلى أوروبا. لم يكن فعليًا ثمة مستقبل أمامهم. لكن ما يحدث الآن هو أن خيارًا آخر يتولَّد لهم، حيث النضال الجماعي والاحتجاج الجماعي.

“سائرون”.. تحالف الصدر والشيوعيين
لهذا السبب، فإن الكثير من المتظاهرين هم من الشباب، وهم مرتبطون سياسيًا بمنظمتين: الأولى شبكةٌ سياسية متمحورة حول مقتدى الصدر، الذي يأتي من عائلةٍ شيعية شهيرة ويقود ميليشيا قاتلت في الكثير من المراحل ضد القوات الأمريكية بعد الغزو. لكنه قد تحوَّلَ منذ سنواتٍ مضت إلى ضربٍ من الشعبوية، إذ يحاول أن يضع نفسه في صدارة الحركة الغاضبة إزاء الفساد والطائفية، من خلال أن يصير زعيمًا يبدو راديكاليًا. لذا، أيَّدَ الصدر مظاهرات 2015 و2016، وعارَضَ القادة الشيعة الذين تربطهم علاقاتٌ مع إيران.

التنظيم السياسي الآخر هو الحزب الشيوعي، الذي أعاد إحياء نفسه في السنوات الأخيرة وصار يجذب الكثير من الشباب الداعم له. وفي الانتخابات البرلمانية الأخيرة في مايو الماضي، انضمَّ التيار الصدري والحزب الشيوعي سويًا لتأسيس “تحالف سائرون”.

شهدت الانتخابات إقبالًا ضعيفًا، ما عَكَسَ شكوكًا عامة حول النظام السياسي برمته، لكنها تمخَّضَت عن نجاحٍ حقَّقه التحالف المنخرط الآن في الاحتجاجات، إذ جنى “سائرون” العدد الأكبر من المقاعد، الأمر الذي يُمثِّل رعبًا لكلٍّ من الولايات المتحدة وإيران، اللذين بالطبع لهما أحزابٌ سياسية يُفضِّلان فوزها.

أولئك الذين صوَّتوا لتحالف سائرون هم من النشطاء الرئيسيين في الشوارع اليوم. وصحيحٌ أن كثيرًا من مظاهرات موجة الاحتجاج الراهنة عفويةٌ، إذ نجمت عن أزمة الكهرباء التي تُعذِّب الناس في ظلِّ قيظ الصيف، لكن على مدار السنوات القليلة الماضية تشكَّلَت شبكاتٌ من النشطاء وخرجت إلى الوجود، وهذه الشبكات ستكون ذات دورٍ حاسم في تحفيز الاحتجاجات وتوسيع نطاقها.

* هذا المقال مترجم عن صحيفة العامل الاشتراكي البريطانية.