الرأسمالية وكارثة التغير المناخي

شهد الشهر الماضي عددًا من الظواهر المناخية التي أدت إلى كوارث على المستوى البشري. ففي لاوس، شرقي آسيا رأينا فيضانات غير مسبوقة بسبب غزارة الأمطار التي أدت إلى انهيار السدود وغرق العشرات وتشريد الآلاف. وفي اليابان وأوروبا الغربية تجاوزت درجة الحرارة ٤٠ درجة مئوية لأول مرة منذ عقود مسببة أيضاً وفاة عشرات من المسنين. ولكن الحدث الأكثر مأساوية كان الحرائق الضخمة في اليونان والتي راح ضحيتها ما يقارب المئة شخص، بعضهم حرقًا وبعضهم غرقًا بعد أن حاولوا النجاة بالنزول إلى البحر.
وللوهلة الأولى تبدو هذه الأحداث نتيجة لتطورات طبيعية، أو قضاء وقدر أو غضب من الله بالنسبة للمتدينين. ولكنه ليس كذلك على الإطلاق، لا في التغيرات المناخية المسببة لمثل هذه الكوارث ولا في القدرة البشرية على مواجهتها.
يتفق أغلب العلماء أن الكوكب يشهد تغيرًا مناخيًا وزيادةً طويلة المدى لدرجات الحرارة بسبب النشاط الصناعي والاستهلاكي للبشر. فقد دخلنا ما يسميه العلماء عصر الأنثروبوسين؛ أي عصر يتغيَّر فيه المناخ والبيئة على كوكب الأرض نتيجةً للفعل الإنساني.
والمشكلة ليست في الصناعة والاستهلاك في حد ذاتهما، بل في نمط الانتاج الرأسمالي الذي يحدد طبيعة واتجاه وسرعة تغيُّر تلك العوامل.
فالرأسمالية قائمة على التنافس بين الشركات والدول بحثًا عن الأرباح، وليس على التعاون الصناعي والزراعي لإنتاج الاحتياجات البشرية. هذا النظام التنافسي يعتمد على معدلات نمو دائمة ومتصاعدة. فأي توقف أو انكماش للنمو يعني الكساد والانهيار. هذا النمو التنافسي يعني كل عام المزيد من المصانع ومشاريع البنية التحتية والسلع بتنوُّعها من السلاح إلى السيارات ومن الألعاب إلى وسائل الاتصال. كل ذلك يعني بالضرورة زيادات متسارعة لإنتاج واستهلاك الطاقة (البترول ومشتقاته خلال القرنين الماضيين) واستخراج المعادن وبناء السدود الضخمة على الأنهار. يؤدي كل ذلك إلى ارتفاع درجات الحرارة ومختلف عناصر التغير المناخي الأخرى.
إن ما نشهده اليوم من حرائق في الغابات وفيضانات في الأنهار هو مجرد مؤشر بسيط لما سنشهده في الأعوام المقبلة إذا ما استمر النظام العالمي الرأسمالي كما هو. فمجرد ارتفاع درجتين في متوسط حرارة الأرض سيعني ذوبان ثلوج القطبين الشمالي والجنوبي وغرق أغلب المدن والمناطق الساحلية (بما فيها الإسكندرية والدلتا في مصر). ولا يبدو أن كبرى حكومات وشركات العالم تهتم بمثل تلك الأشياء. فحتى الاتفاقات المحدودة بين الحكومات للعمل على مواجهة التغيُّرات المناخية تُخرَق بسبب التنافس، بل أن الحكومة الأمريكية انسحبت من آخر تلك الاتفاقيات (اتفاقية باريس) العام الماضي.
وهناك جانبٌ آخر من الكوارث المناخية الحالية لا يقل إجرامًا عن الاستمرار في سياساتٍ تتسبَّب في التغير المناخي. فعلى سبيل المثال، تُطبِّق حكومة اليونان برنامجًا اقتصاديًا نيوليبرالي بإشرافٍ من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي. يقوم هذا البرنامج على مزيج من التقشُّف والخصخصة وتخفيض النفقات الحكومية. وقد شملت تلك التخفيضات تقليص عدد رجال ونساء الإطفاء وتقليص عدد سيارات الإطفاء وطائرات الطوارئ والإسعاف. وقد لعبت تلك السياسات دوراً مباشراً في ارتفاع عدد الضحايا والمصابين. ولا تبدو مصر بعيدة عن تلك السياسات مع تزايد معدل الحرائق على نحو ملحوظ، وسط إهمال إجراءات الأمن والوقاية والحماية من الحرائق والحوادث.
رأينا فقراء اليونان يخسرون وظائفهم وأجورهم ومساكنهم بفعل سياسات التقشُّف الرأسمالية، ثم يموتون في الحرائق لأن نفس تلك السياسات قد “وفرت” في ميزانيات الإطفاء والإسعاف.
إذن فالرأسمالية لا تتسبَّب فقط في التغيُّر المناخي والكوارث الناجمة عنه، بل تحرمنا أيضًا من الوسائل الضرورية لمواجهة تلك الكوارث والنجاة منها.
قضية التغيُّر المناخي قضية حياة أو موت بالنسبة لمستقبل البشرية. ولا توجد وسيلة لوقف هذه العملية في ظل النظام الرأسمالي العالمي. لعل هذه من أكثر الحقائق المحفزة للعمل على تجاوز الرأسمالية وبناء بديل اشتراكي يحافظ على الحياة على كوكب الأرض.