بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

انتفاضة البصرة: نظرة من الداخل

من مظاهرةٍ محدودة نظَّمها العشرات، مطلع يوليو الماضي، أمام إحدى الشركات النفطية شماليّ البصرة، للمطالبة بالتعيين، تفجَّرَت انتفاضةٌ جماهيريةٌ عبر المحافظة بعدما اعتدت قوات الأمن على المحتجين لتودي بحياة أحدهم وتصيب 4 آخرين. انتفاضةٌ يواجه فيها الآلاف من الشباب عنف قوات الأمن بصدورٍ مفتوحة وإصرارٍ صلب.

ما يبدو أنه احتجاجاتٌ على انقطاع الكهرباء وتلوُّث المياه، إنما في الواقع ينطوي على سخطٍ هائل على نظام الطائفية والمحاصصة المُنصاع أيضًا للاستثمارات الكبرى وإملاءات المؤسسات المالية الدولية.

تصوَّرَت حكومة حيدر العبادي أن إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش سوف يُكسِبها شعبيةً تُجنِّبها غضبًا جماهيريًا من الفقر وتجريف الخدمات ونهب ثروات العراقيين. لابد أن الحكومة تصوَّرَت أيضًا أن التقسيم الطائفي للعراقيين سوف يقف حجر عثرةً أمام احتجاجهم الجماعي ضد ما يتعرَّضون له من مظالم. إن اندلاع انتفاضة جماهيرية كالتي نشهدها اليوم في البصرة له دلالاتٌ هامة في الداخل العراقي، كما له إشاراتٌ أيضًا تتجاوز حدود العراق، في حقبةٍ رسَّخَت فيها الثورات المضادة والأنظمة الاستبدادية أوطاد حكمها عبر منطقة الشرق الأوسط.

أزمات مزمنة

المشكلات التي اندلعت انتفاضة البصرة على خلفيتها ليست مشكلات “بصرية”. العراق كله يواجه نفس المشكلات، لكنها تبرز ربما بصورةٍ أعنف وأكثر تكثيفًا في البصرة.

تعاني البصرة، التي يزيد سكانها على الـ4 مليون نسمة، بصورةٍ خاصة ربما أكثر من أيٍّ من محافظات العراق، من تدهورٍ شديدٍ في الخدمات (إمدادات الكهرباء والمياه على وجه الخصوص). تنقطع الكهرباء بصورةٍ مُتكرِّرة، في ظلِّ درجة حرارة تتجاوز الـ50 في قيظ أيام الصيف. وهناك شحٌّ شديد في المياه الصالحة للشرب التي لا تخضع في الغالب لعملياتِ تعقيم، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة الملوحة بها، مما أدى إلى إصابة 18 ألف شخص بالتسمُّم، بحسب توثيق مفوضية حقوق الإنسان بالعراق.

يتفشى مرض السرطان في الكثير من محافظات العراق، لكن بمعدلاتٍ أكبر كثيرًا في البصرة، التي تقع مدافن المُخلَّفات الحربية المُلوَّثة باليورانيوم من الحروب السابقة في مناطق قريبة من أحيائها السكنية (أكثر من 200 كيلومتر مربع من الأراضي جنوبي البصرة تحتوي على مُخلَّفات حرب مُلوَّثة). تُسجِّل البصرة من 130 إلى 140 إصابة لطفل بمرض السرطان سنويًا، وفي الإجمالي 13 ألف مواطن بصري مصاب بالسرطان (المرصد العراقي لحقوق الإنسان). وتكمن المشكلة الأكبر في الافتقار إلى الأدوية اللازمة وضعف تمويل الرعاية الصحية (ألفيّ طفل مُشخَّصون بالسرطان لا يتلقون أيَّ علاج).

أما البطالة، التي تُعد سببًا رئيسيًا في انفجار المظاهرات الجماهيرية، فتصل إلى 10.8% في كلِّ العراق، في حين تبلغ في البصرة تحديدًا 40% من مجموع تعداد سكانها. وبالوضع في الاعتبار أن الشباب مِمَّن هم دون الـ24 عامًا يُشكِّلون 60% من السكان، فإن معدلات البطالة أعلى مرتين بينهم. ويصل مُعدَّل الفقر إلى 35%، وهو الأعلى منذ 100 عام، حسب الإحصاءات الحكومية -ما يطرح أن النسب المذكورة من المُرجَّح أن تكون أعلى من ذلك. المفارقة أن محافظة البصرة، التي تُعد من أفقر محافظات العراق، تنتج وحدها 95% من إنتاج النفط الخام في بلدٍ هو ثاني أكبر مُصدِّر للنفط في منظمة أوبك.

مشكلات العراق لا حلَّ لها في إطار الحكومة الحالية ونظامها القائم، بل ومن الصعب على الحكومة العراقية من الأصل تقديم تنازلات ذات شأنٍ نظرًا للسياسات التي تتبعها. هناك عاملان رئيسيان يُفاقمان من هذه المشكلات على مدار 5 حكومات متعاقبة منذ الغزو الأمريكي في 2003. أولهما الفساد، الذي تسبَّبَ في إهدار 320 مليار دولار خلال السنوات الـ15 الماضية، وحلَّ بالعراق في العام الماضي في المركز الـ169 من بين 180 دولة على مؤشر مُدرَكات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية.

ثانيًا، ارتباط الحكومة العراقية بالاستثمارات الأجنبية والمؤسسات المالية الدولية التي تقرضها بالمليارات مقابل شروط صارمة تتعلَّق بخفض الإنفاق. على سبيل المثال في مشكلة البطالة، وافقت الحكومة العراقية على شرط البنك الدولي بغلق باب التوظيف الحكومي على مدار العامين المقبلين، مقابل الحصول على قرضٍ لسدِّ العجز المالي. وهذا ما يكشف كذب وعود الحكومة بتوفير 10 آلاف وظيفة لأبناء البصرة في قطاع النفط.

هذا مجرد مثالٍ على سياسات الحكومة التي تلقي بالأعباء الاقتصادية، الآخذة في التضخُّم بسبب الفساد، على عاتق المواطنين. وكذلك هو مثالٌ على استخدام الحكومة تكتيك الجزرة، إلى جانب عصا الأمن، لمحاولة استيعاب الغضب بوعودٍ هي لا تنوي أن تفي بها.

تطوُّرات ومعضلات

لم تَسِر الحركة الشعبية في البصرة في خطٍ مستقيم منذ اندلعت في 8 يوليو الماضي، بل شهدت الكثير من التحوُّلات، صعودًا وهبوطًا، وتغيَّرَت السمات الغالبة عليها بما سَمَحَ بتطويرها من جانب وطَرَحَ تحدياتٍ ليست هيِّنة أمامها من جانبٍ آخر.

أولًا، انتقلت المظاهرات من الميادين والساحات الكبرى في وسط البصرة إلى الأحياء السكنية في مختلف أرجائها. فمنذ بدايتها الأولى في يوليو الماضي، ظلَّت المظاهرات تتركَّز في وسط البصرة، وكان ذلك سيُعرِّضها للانعزال عن جماهير المحافظة حال انحسارها بعيدًا عنهم. لكن انتقال المظاهرات إلى الأحياء السكنية مَنَحَ الموجة الاحتجاجية دفعةً كبرى بضخِّ آلاف آخرين إليها.

ما كان من الممكن لحركة المظاهرات أن تتحوَّل إلى انتفاضةٍ شعبية بالمحافظة إذا كانت قد انحسرت فقط في الميادين الكبرى. تزامَنَ ذلك أيضًا مع توسُّع المشاركة في المظاهرات من البصرة إلى الكثير من محافظات جنوبيّ ووسط العراق، مثل ذي قار، وميسان، وبابل، والديوانية (المحافظة الأفقر في العراق)، والسليمانية، وغيرهم.

ثانيًا، تنوَّعَت وِجهات التظاهر من المباني الحكومية ومقرات الأحزاب المدعومة من جانب إيران (وعلى رأسهم حزب الدعوة الإسلامية بقيادة رئيس الوزراء حيدر العبادي)، إلى المنافذ الحدودية وآبار النفط، وحتى السيطرة على ميناء “أم قصر” جنوبي البصرة يوم الأربعاء الماضي، ومنطقة الكرمة شماليّ المحافظة يوم الثلاثاء، ومن شأن ذلك أن يمنح الحركة على الأرض قدرةً أكبر على الضغط.

لكن تطوُّر انتفاضة البصرة ومناوراتها التكتيكية المُتنوِّعة (مظاهرات الشارع، ومحاصرة مباني الحكومة، ونقل الاحتجاجات إلى مواقع حيوية مثل الميناء) لا يزال يواجه تحدياتٍ جسيمة قد تُهدِّد الحركة الجماهيرية.

أولًا، انحسار الحركة الجماهيرية ضمن حدود البصرة، دون توسُّعها وانتعاشها في غيرها من المحافظات، قد يخنق الحركة نفسها. كانت الحركة الاحتجاجية قد توسَّعت بالفعل في محافظات الجنوب كما أشرنا من قبل، لكنها هدأت في تلك المحافظات إلى أن تفجَّرت مرةً أخرى في البصرة، يوم الثلاثاء 4 سبتمبر، جرَّاء مقتل متظاهر وإصابة 14 على يد قوات الأمن (سقط 19 شهيدًا من 4 إلى 9 سبتمبر ليصل إجمالي الشهداء إلى 33 منذ 8 يوليو).

هناك إذن تناقضٌ بين توسُّع الحركة في أرجاء البصرة وتقلُّصها في المحافظات المجاورة. بناءً عليه، تزيد احتمالية تشديد الحكومة القمع على متظاهري البصرة إن لم تمتد الحركة مرةً أخرى إلى غيرها من المحافظات. كانت الحكومة قد أرسلت بالفعل، منتصف يوليو الماضي، 9 كتائب إضافية من قوات الأمن العراقية (منهم 3 كتائب مُخصَّصة لـ”مكافحة الإرهاب”) لسحق الحركة، التي لا تزال صامدةً حتى اليوم.

الأمر الثاني الذي قد يُهدِّد استمرارية الانتفاضة هو اقتصارها على آليات التظاهر والاعتصام، دون أن تمتد حتى الآن لاستخدام سلاح الإضراب عن العمل، لاسيما في صناعاتٍ حيوية مثل قطاع النفط، كأداةٍ رئيسية لليّ ذراع السلطة. ستنتقل الانتفاضة إلى طورٍ مختلفٍ تمامًا من حيث قوته حال تدخُّل الإضرابات العمالية فيها.

ثالثًا، تسود المظاهرات الراهنة حالةً من النفور من السياسة. بالطبع هذه حالةٌ لها أسبابها التي تكمن في ما شهدته الجماهير على مدار الأعوام الطويلة الماضية من انتهازية كثيرٍ من القوى السياسية (معظمها مبني على أساسٍ طائفي)، وما تتلقاه من دعمٍ من دولٍ خارجية، وتكالُبها على توسيع حصصها في السلطة. مُلَخَّص هذه الحالة هو أن “القوى السياسية كانت تُفرِّقنا بطائفيتها وصراعاتها من أجل مصالحها. والآن، حان وقت وحدة الجماهير، إذن لنبتعد عن السياسة برمتها”!

ليست هذه الفكرة جديدة على الثورات والانتفاضات والحركات الجماهيرية الكبرى، لكنها تظل خاطئة. هدفها الظاهري هو توحيد الجماهير في تظاهراتٍ واعتصاماتٍ حاشدة (وهي أفعال سياسية في المقام الأول)، لكنها إجمالًا لا تؤدي إلا إلى بعثرة الطاقات الجماهيرية كالبخار في الهواء؛ من دون رؤية أو وجهة سياسية مُحدَّدة. البرجوازية في العراق نظَّمَت نفسها في أحزابٍ وميليشيات تابعة لها، بمرجعياتٍ طائفية وقومية، وهي مستعدة بكامل عدَّتها -إن اقتضى الأمر- لحربٍ مفتوحة على الفقراء. يبقى على الفقراء أن يُنظِّموا أنفسهم هم أيضًا “سياسيًا” لمجابهة العدو الطبقي.

المقاومة لا تزال ممكنة

قد يبدو أن اندلاع انتفاضة البصرة يرجع إلى أسبابٍ خاصة بالمحافظة في إطار المشكلات العامة التي تعيشها العراق، والتي لا يبدو أن حكومة العبادي قادرةٌ على التوصُّل لحلولٍ لها، اللهم إلا بتغيير انحيازاتها الطبقية وتغيير تحالفاتها الخارجية وهدم نظام المحاصصة والفساد الذي تقوم عليه.

لكن هذه الانتفاضة تأتي في سياقٍ أوسع من المقاومة الاجتماعية التي لم تذهب ريحها بعد من المنطقة العربية. فبعد سنواتٍ من الهزائم والتراجعات في منطقة الشرق الأوسط على يد سلطات الثورة المضادة وأنظمة الرجعية والقمع، وبعد اصطفاف القوى الإقليمية في تحالفاتٍ متحاربة تسحق أمامها حركات جماهيرية عريضة، ورغم مليارات الدولارات التي تُنفَق في سبيل إرساء استقرار اجتماعي في المنطقة بقوة السلاح والقمع (تدعيم سلطة السيسي في مصر وتمويل وتدريب قوات القمع في العراق مثالان على ذلك)، تُذكِّرنا انتفاضة البصرة، ومن قبلها المظاهرات الحاشدة ضد إجراءات التقشُّف في الأردن، والإضرابات والمظاهرات في إيران، أن فرص المقاومة الاجتماعية لا تزال ممكنة، وأن الجماهير قادرة على اقتحام المشهد لتحدي سلطات الاستبداد والإفقار والقمع -حتى وإن طال الأمد- طالما ظلَّت ظروف قهرهم ومعاناتهم قائمة.