بوش الأب: عندما انتهت الحرب الباردة وبدأت الحرب على الشعوب

عن عمرٍ يقترب من القرن، مات الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب، وربما تحتاج معالجة ما خلَّفَته سياساته في العالم وفي الشرق الأوسط خاصةً أكثر من قرن لتخفيف آثارها الكارثية على الشعوب.
ستفضِّل وسائل الإعلام الرسمية بالتأكيد تقديم بوش الأب كرئيسٍ أميركي يُمثِّل نهاية الحرب الباردة وانهيار سور برلين وسقوط الستار الحديدي الذي عزل شعوب الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفييتي عن “العالم الحر”، ونهاية الحكم الشمولي وانطلاق الديمقراطية البرتقالية في شرق أوروبا. ولكن حقيقة ما انطلق مع رئاسة بوش الأب لأميركا ليس فقط نهاية الحرب الباردة ولكن الأهم هو انطلاق حرب ضد الشعوب لم تكن باردة بالمرة.
فبينما كانت الحرب الباردة تنتهي بانهيار جدار برلين في 1989، وانهيار الاتحاد السوفييتي في 1991، كان بوش الأب يبدأ حرب عاصفة الصحراء تحت زعم تحرير الكويت من الغزو العراقي الذي قام به صدام حسين، حليف أميركا السابق.
كانت تلك الحرب تعني في حقيقة الأمر التدمير الكامل للعراق بكل قدراته المدنية قبل العسكرية، وبنيته التحتية، وإعادته عقود إلى الخلف، و كانت تعني كذلك بمنتهى الوضوح احتلال أمريكي مباشر للخليج عبر بناء قواعد عسكرية تفوق قدرات دول الخليج مجتمعة، وتمثل مركز سيطرة على المنطقة، وهي القواعد التي لا تزال موجودة إلى الآن.
الحرب التي خاضها بوش الأب في 1991 كانت بمثابة معرض مفتوح وحيّ للسلاح الأمريكي. أحدث الأسلحة الأمريكية ذهبت من المصانع مباشرة إلى الخليج لتُجرَّب للمرة الأولى في الشعب العراقي، وتنقل عمليات التدمير والقتل الجماعي على الهواء مباشرة عبر الأقمار الصناعية، منظومات صواريخ كروز وباتريوت وطائرات الشبح، والصواريخ الخارقة للتحصينات التي استُخدِمَت لتدمير مخبأ العامية الذي لاذ به المدنيون من القصف، الذي استمر 45 يوم متصلة مُحقِّقًا أرقامًا قياسية في الطلعات الجوية والقصف الصاروخي وحجم الدمار والقتل. انطلقت منافسةٌ فاضحة بين الأسلحة الأمريكية والفرنسية والبريطانية وغيرها لتترجم المنافسة إلى صفقات سلاح سخية من دول الخليج. الحرب التي انتهت إلي تدمير العراق امتدت إلى أكثر عمليات الحصار إجرامًا في التاريخ، إذ استمر تساقط ضحايا نقص العلاج والغذاء وألبان الأطفال في العراق تحت حصار استمر من نهاية الحرب وحتى غزو العراق.
حرب بوش الأب لم تكن عسكرية فقط، بل امتدت إلى حربٍ اقتصادية ضد الشعوب تسلَّح فيها بوش الأب وحلفاؤه في أوروبا والعالم الثالث بوصايا صندوق النقد الدولي، وكان الشعب المصري أحد أوائل ضحاياها. في عام 1991 نفسه، وكمكافأة لنظام مبارك على مشاركته في الحرب، أُسقِطَ جانبٌ من الديون عن مصر ضمن اتفاقية مع صندوق النقد الدولي انطلق بموجبها برنامج التكيُّف الهيكلي للاقتصاد المصري، والذي تضمَّن برنامج الخصخصة الذي منح رجال الأعمال المصريين والعرب والأجانب المشاريع الإنتاجية المملوكة للدولة عبر صفقاتٍ فاسدة، وبأسعارٍ زهيدة لم تصل حتى لقيمة الأراضي المقامة عليها.
البرنامج نفسه واكبه تدميرٌ للأوضاع المستقرة للعمال في القطاع العام وتغيير البنية التشريعية لتسمح بالفصل وتسريح العمال. وفي الريف، جرى تدمير أوضاع الفلاحين المستقرة بموجب نفس السياسات المُطبَّقة بشروط صندوق النقد الدولي، وبدأ تحرير العلاقة بين المالك والمستأجر في السكن ليصبح سكن الأسر المصرية عبئًأ لا يُحتَمَل. وفضلًا عن ذلك، تدنَّى على نحوٍ متصل مستوى الخدمات التي تُقدِّمها الدولة في الصحة والتعليم، تحت شعار تحرير الاقتصاد المصري.
القضية الفلسطينية كانت الخاسر الأكبر من الحرب التي شنَّها بوش الأب مع حلفائها في سواء في أوروبا أو وسط الأنظمة العربية نفسها، فمع انتهاء حرب عاصفة الصحراء بدأ التحضير لعقد مؤتمر مدريد “للسلام”، الذي أفضى لاتفاقية أوسلو، التي أوصلت إلى تهميش القضية الفلسطينية وحولتها من قضية تحرُّر ومقاومة إلى قضية لاجئين.
كانت مظاهرات الجامعات المصرية ضد الحرب وقتها هي الأكثر فهمًا وتبصُّرًا لما ستفضي إليه تلك السياسة عندما هتفت “جورج بوش سفاح العصر.. بقى بيحط سياسة مصر”. المظاهرات التي رفضت مشاركة مصر في الحرب تحت القيادة الأمريكية ورفضت الوجود الأمريكي الاستعماري في المنطقة كانت في حقيقتها تكشف دور بوش الأب كسفاحٍ لعصر ما بعد الحرب الباردة، وكانت متبصرة بأن بوش جاء لوضع سياسة جديدة لمصر وللمنطقة وللعالم، سياسة العولمة الرأسمالية التي حولت العالم لسوق لكبار الرأسماليين من كل البلاد، والتي دفعت ثمنها الطبقة العاملة عبر العالم والفقراء والمهمشين الذي أخرجوا من عملية الإنتاج والتوزيع الرأسمالي.
مات صباح اليوم سفاح العصر الذي هتف الطلاب في مصر ضده قبل أكثر من ربع قرن. ولكن السياسات التي أسَّسها لا تزال تصنع نفس المعاناة. فسياسات الليبرالية الجديدة التي فرضها صندوق النقد الدولي عادت من جديد لتطبق على نحو أسوأ. والقواعد الأمريكية التي أنشأها في الخليج اتسعت وتمددت، حتى أن ترامب أصبح يتفاخر بأنه من يحمي حكام الخليج وأنهم بدونه سيسقطون في أسابيع. والسلام الصهيوني الذي دفعه السفاح في مدريد أصبح اليوم تطبيعًا لا يحاول أحد إخفاءه وحصارًا للمقاومة لا ينكره أحد.
مات اليوم سفاح العصر، وخلَّف وراءه عصابات السفاحين في المنطقة وخارجها، وترك حربًا ليست بباردة تخوضها أنظمة الاستبداد والاستغلال والقمع ضد الفقراء والكادحين، وحدهم القادرون على وقف تلك الحرب، فقط بأن ينتصروا فيها.