السترات الصفراء: عوارض وعوامل تفاقم أزمة الحكم في فرنسا

ألقت البرجوازية الفرنسية نظرة إلى الطريق الذي امتد أمام أعينها فرأته مفتوحًا. مع انتخاب ماكرون، ظنت أنها طردت أخيرًا أشباح الماضي وتخلَّصت من القيود الأيديولوجية، من هؤلاء اليساريين الإصلاحيين واليمينيين المحافظين الذين تداولوا السلطة منذ السبعينيات ولم يتمكَّنوا من فرض ما يكفيها من النيوليبرالية. وبينما كانت البرجوازية مشغولة بقياس الأرباح الآتية والذي وعدها بها ماكرون، اقتحمت اطياف البارحة الواجهة السياسية فجأة مرتدية سترة صفراء ومعها حساب الثلاثين سنة الأخيرة.
“إن ماكرون هو من دون شك أضعف الرؤساء الفرنسيين منذ ولادة نظام الجمهورية الخامسة سنة 1958” (1).
“إن صعود ماكرون المذهل لا يكفي لإخفاء الأزمة السياسية العميقة التي تعيشها الطبقة الحاكمة الفرنسية” (2).
هذا ما كتبه بعض الماركسيين والماركسيات بعيد انتخاب ماكرون رئيسًا سنة 2017 وفوزه الكاسح في الانتخابات البرلمانية. مع ذلك لن نحاول هنا إقناع القراء أن أيًّا من الماركسيين في فرنسا قد تنبَّأ بظاهرة السترات الصفر، لأنها فاجأت الجميع ولا سيما المشاركين والمشاركات أنفسهم. غير أن أقوالنا عن ضعف ماكرون استندت إلى رؤية جدية لتناقضات حقيقية تراكمت طيلة العقود الأخيرة والتي نلخصها كالتالي: إن الطبقة الحاكمة الفرنسية بأمس الحاجة للمزيد من الإصلاحات النيوليبرالية -وهذه مهمة ماكرون التاريخية- نظرًا لتراجع تنافسية الاقتصاد أمام نظيره الألماني. في الوقت نفسه، قد تسببت إصلاحات العقود الأخيرة ومقاومة الطبقة العاملة في تآكل رصيد أحزاب السلطة التقليدية التي انهارت بشكل غير مسبوق سنة 2017 فاتحة المجال أمام ماكرون كي يحاول تحقيق إصلاحات عنيفة وسط ساحة سياسية تزيد يوميًا من استقطابها بين أقصى اليسار وأقصى اليمين.
بمعنى آخر، تتحضر الطبقة الحاكمة لخوض هجوم كبير على الطبقات العاملة والشعبية، لكن دون أدواتها السياسية التقليدية التي اضطرت للتضحية بها في معارك سابقة. ألا يشكل هذا وحده مشروع أزمة؟
فيما يلي عرض تاريخي قد يكون مفصل بعض الشيء لتجربة فرنسا مع النيوليبرالية قبل أن نتكلم عن الحراك الحالي وآفاقه السياسية والإستراتيجية. وأخيرًا علينا أن نذكر أن الأطروحة التي ندافع عنها هنا هي نتيجة سنين من النقاشات بين مناضلين ومناضلات يسعون دومًا إلى توحيد النظرية والممارسة السياسية على الأرض. هذا المقال هو إذن وضمنيًا عمل جماعي، وإن كان الكاتب وحده يتحمل مسؤولية أي خطأ قد تتضمَّنه الأسطر التالية.
الأزمة الاقتصادية و”الحل” النيوليبرالي
بعد نحو ثلاثين عامًا من الازدهار والنمو السريع الذي عُرِفَ بالعصر الذهبي، دخلت اقتصادات البلدان الصناعية المتقدمة في أزمة عنيفة تسبَّبت في ركودٍ عالمي من 1973 حتى 1975. بحسب المناضل الاشتراكي الثوري البريطاني الراحل كريس هارمان، “فقد كان تراجع النمو قد ضرب جميع الاقتصادات الكبرى على نحو متزامن بطريقة لم تحدث في ربع قرن” (3).
كانت أزمة السبعينيات، على حدِّ التعبير الماركسي، أزمة ربحية كلاسيكية. على صعيد الوحدة الرأسمالية، نسبة الربحية تمثل مجموع الأرباح نسبةً لمجموع التكاليف (أجر اليد العاملة، المواد الخام، استهلاك المعدات، الضرائب، إلخ)، والربحية هي في آخر المطاف الحافز الأساسي للاستثمار الرأسمالي. هكذا يصبح واضحًا كيف أن فترة طويلة من تدني معدلات الربح الصافي على صعيد الاقتصادات المتقدمة منذ منتصف الستينيات تسببت في تدني الاستثمار ومهدت الطريق أمام تراجع النمو كما وصفه هارمان أعلاه.
هناك طريقتان رئيسيتان لرفع الربحية: الأولى هي زيادة إنتاجية العمل (أي معدل القيمة التي تنتجها العاملة خلال ساعة عمل واحدة) دون زيادة موازية للأجور، وتتطلب زيادة الإنتاجية الاستثمار في الآليات والتكنولوجيا، والثانية هي خفض الأجر الذي يُدفَع لليد العاملة في جزئيه المباشر كما غير المباشر (مثلًا الخدمات العامة التي تمولها الضرائب على الشركات)، أي ما يسميه الرأسماليون “تكلفة العمل”.
تمكَّنَت البلدان المتقدمة بالفعل أن تضع حدًّا لانهيار الربحية في نهاية السبعينيات، بل أن تزيدها من جديد في مطلع الثمانينيات لكن دون أن تعود أبدًا إلى مستويات العقود السابقة. هذا النجاح الجزئي في الرد على أزمة السبعينيات تحقق إلى حدٍّ كبير بمساعدة الإصلاحات النيوليبرالية التي سمحت بتخفيض الأجور والإنفاق على الخدمات العامة، وفتحت مجالات جديدة أمام التراكم الرأسمالي من خلال الخصخصة وتحرير القطاع المالي. أما الوسيلة الثانية لإنعاش الربحية وهي زيادة الإنتاجية من خلال الاستثمار، فلم تكن هي المحرك الأساسي للخروج من الأزمة.
وبقي الاقتصاد العالمي منذ تلك الفترة وخصوصًا في البلدان المتقدمة، يتميز بمستوى متدني نسبيًا من الاستثمار المنتج، وإنتاجية كسولة، بينما تعافت الربحية نسبيًا على ظهر الطبقة العاملة التي كسبت أجور أدنى نسبةً لأرباح الرأسماليين.
أما الأموال الباهظة التي كسبها الرأسماليين كأرباح، والتي لم يُعاد استثمارها في الشركات (بسبب نسبة الربحية المتدنية)، فتدفقت نحو الاستثمار غير المنتج بل المضارب في الأسواق العقارية والمالية التي نمت بوتيرةٍ هائلة في الفترة النيوليبرالية وكأنها تحرَّرَت أخيرًا من قيود وقوانين الاقتصاد الحقيقي.
حول موازين القوى الطبقية
الإصلاحات الاقتصادية النيوليبرالية تهدف إذن إلى إعادة تنشيط الرأسمالية من خلال تحرير الربحية من القيود المتمثلة بأجور الطبقة العاملة والضرائب التي تمول الخدمات العامة التي تستفيد منها تلك الطبقة. بمعنى آخر، يقدم الرأسماليون فاتورة تدني ربحيتهم إلى الطبقة العاملة ويصرخون بوجهها: أنتِ تدفعين!
إذن ورغم هلوسات الليبراليين، فإن هذه الإصلاحات ليست مجرد تعديلات لماكينة محايدة اسمها “الاقتصاد” يستفيد من “تحسينها” جميع الأفراد على حدٍّ سواء. فما يسمى الاقتصاد ليس سوى مجموع قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج في مجتمعٍ معين، والعلاقات الطاغية في المجتمع الرأسمالي هي ما بين الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية.
من هنا فإن النيوليبرالية لا تتجلى إلا من خلال التأثير في موازين قوى علاقات الإنتاج، هي بمعنى آخر صراعٌ طبقي. وسنرى كيف أن الإصلاحات النيوليبرالية، التي تبدو على الورق وفي أذهان أمثال البرادعي في مصر كلائحةٍ متجانسة من السياسات العقلانية التي لا بد من تطبيقها للحصول على شهادات “good governance – الحوكمة الرشيدة”، هي في حقيقتها وللأسف خاضعة كل الخضوع لقوانين ساحة المعركة السياسية.
لسنا بحاجة هنا إلى تذكير كيف أن تطبيق النيوليبرالية في بلدان العالم الثالث استلزم فرض ديكتاتوريات عسكرية، من أمريكا اللاتينية إلى إفريقيا مرورًا بالبلاد العربية. فلننظر إلى رواد النيوليبرالية في البلدان الثرية الديمقراطية ولا سيما بريطانيا مع رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر والولايات المتحدة مع الرئيس رونالد ريجان اللذين وصلا إلى الحكم مع مطلع الثمانينيات. فرضت تاتشر وريجان أولى الإصلاحات النيوليبرالية من خلال قلب موازين القوى الطبقية لصالح الرأسماليين، فكسرا ظهر أكثر النقابات العمالية كفاحا لا سيما عمال تحكم المرور الجوي في الولايات المتحدة وعمال مناجم الفحم الحجري في بريطانيا، الذين تكبدوا هزائم تاريخية “أدَّبَت” باقي النقابات وسمحت للحكام بتصفية جيب المقاومة بمنهجيةٍ باردة. إذن فقد مهَّدَ ريجان وتاتشر الحقل السياسي لكبرى الإصلاحات الاقتصادية التي أتت في التسعينيات مع “الإصلاحيين اليساريين” بيل كلينتون من الحزب الديمقراطي وطوني بلير من حزب العمل، اللذين استفادا من هزائم الطبقة العاملة على يد أسلافهما من أجل فرض المزيد من الخصخصة والتخفيضات في الخدمات العامة ونقل العبء الضريبي من الشركات والمصارف إلى العمال والفقراء. هكذا ولد ما اسماه طارق علي “الوسط النيوليبرالي المتطرف”، أي إجماع أحزاب السلطة، في تجلياتها اليمينية المحافظة واليسارية الاصلاحية، على رعاية مصالح الطبقة الراسمالية التي لم تعد تتحمل المساومة مع الطبقة العاملة وصارت تطالب بل تبتز الحكام من أجل المزيد من النيوليبرالية. ونبقي الكلمة الأخيرة لتاتشر نفسها التي عندما سُئِلَت في آخر حياتها “ما هو أعظم إنجازاتك؟”، أجابت: “طوني بلير”.
النيوليبرالية الخجولة في فرنسا
أما في فرنسا، فلم يخلو طريق النيوليبرالية من العقبات السياسية ومن الكمائن التي نصبتها الطبقة العاملة. ولم يخف كبار الرأسماليين ومعهم كبار إداريي الدولة طيلة العقود الأخيرة وإلى يومنا هذا آمالهم بمجيء مسيح نيوليبرالي، “تاتشر فرنسية” تضرب الرمح في قلب التنظيمات العمالية.
فلنعد إلى السياق التاريخي. على عكس بريطانيا والولايات المتحدة، انتخبت فرنسا في مطلع الثمانينيات رئيسا يساريا من الحزب الاشتراكي الإصلاحي، فرانسوا ميتيران. فاز ميتيران في الانتخابات على أساس برنامج إصلاحي صممه بالتحالف مع الحزب الشيوعي الستاليني، وكان جوهره حل الأزمة الاقتصادية ليس من خلال خفض الأجور بل من خلال زيادتها بهدف زيادة الاستهلاك والتصنيع، كما تضمن هذا البرنامج تأميمات لبعض الصناعات الأساسية. وصل ميتران إلى سدة الرئاسة وسط الضجيج الهستيري النابع من صحف الطبقة الحاكمة التي تنبأت بوصول “الدبابات السوفيتية إلى الشانز-ايليزي”.
طبعًا لم يكن ميتران وحليفه “الشيوعي” ثوريين، ولم يكونوا حتى مناهضين للرأسمالية. كان مشروعهم يهدف إلى إنقاذ الرأسمالية من نفسها من خلال العودة إلى سياسات كينزية تتركز على دعم الطلب. عندما عبرت الطبقة الرأسمالية، من خلال تجميد الاستثمارات وتحويل الرساميل إلى خارج البلاد والهجوم على العملة الوطنية، عن عدم رغبتها بهكذا إنقاذ، وجد ميتيران نفسه أمام خيارين: إما التصعيد أمام الرأسماليين من خلال حشد المنظمات العمالية وضبط الرساميل وتأميم المصارف، وإما الخضوع والتراجع عن اصلاحاته. لم يرد ميتيران التطاول على مقدسات البرجوازية فسجد أمامها وأعلن في مارس 1983 عن بدء “منعطف الصرامة”، أي تطبيق الخلطات النيوليبرالية. غير انه لم يضطر إلى المواجهة المفتوحة مع الطبقة العاملة، ووضع النقابات العمالية وقوى اليسار أمام معضلة “إما النيوليبرالية المعتدلة معي وإما النيوليبرالية المتطرفة مع اليمين” وتمكَّن هكذا من الفوز بولاية ثانية، مُحوِّلًا الحزب الاشتراكي إلى النيوليبرالية بينما دخل الحزب الشيوعي في أزمة بشرت بانهياره التاريخي.
تمكَّن ميتيران من إعادة إحياء الربحية في فرنسا بنسبة 20% تقريبًا، لكن هذا لم يكف لإشباع الرأسماليين الفرنسيين الذين كانوا وما زالوا ينظرون بغيرة نحو منافسيهم الأمريكيين والبريطانيين والألمان. وأتت سنة 1995 وبدت كسنة الخلاص للبرجوازية، حيث فاز المحافظ اليميني جاك شيراك بانتخابات الرئاسة وباشرت حكومته بتطبيق إصلاحات نيوليبرالية عنيفة قد تحقق اخيرا احلام الرأسماليين. أثار هذا المشروع خشية الطبقة العاملة، وانتشرت الإضرابات من سكك الحديد إلى البريد ووظائف الدولة والجامعات حتى جائت الضربة الحاسمة مع تعطيل مترو العاصمة باريس في أكبر إضراب جماهيري منذ عام 1968. شلت الطبقة العاملة البلاد تماما واضطرت الحكومة إلى التراجع وتكبد شيراك الذي كان يجسد آمال الطبقة الحاكمة هزيمة حاسمة بعد أقل من عام على توليه الرئاسة. وفي عام 1997 اضطر لتعيين عضو الحزب الاشتراكي ليونيل جوسبان رئيسا للحكومة بعدما خسر اليمين الانتخابات البرلمانية. وحتى بعد فوزه بولاية ثانية عام 2002، لم ينس شيراك درس 1995 وبقيت سياساته ضمن حدود “النيوليبرالية الخجولة”.
إذا ورغم خلافاتهم العميقة من ناحية الأيديولوجيا والنوايا، فإن عهد شيراك كان شبيه عهد ميتيران من حيث الإصلاحات النيوليبرالية الخجولة التي حددتها في آخر المطاف موازين القوى السياسية-الطبقية، تلك التي لم تحسم لصالح الاغنياء مثلما حسمت في بريطانيا والولايات المتحدة. على أي حال، تمكنت نيوليبرالية شيراك وميتيران من إحراز إنجازات على حساب بعض فئات الطبقة العاملة مثل المتقاعدين والعاطلين عن العمل، وتآكل تمويل الخدمات العامة وصولًا إلى خصخصة البعض منها، في ظلِّ نموٍ بطيء ونسبة بطالة عالية، مما زاد من نسب الفقر والتفاوت في الدخل. ولم تكن الرأسمالية الفرنسية في مأزق، فهي كانت ولا تزال في المرتبة الخامسة أو السادسة عالميا من حيث الدخل، لكنها لم تتمكن من اللحاق بماكينة التصدير الألمانية.
وربما الشكل أدناه يلخص أسباب تسمية الرأسماليين الفرنسيين لعهد شيراك بـ”العهد الضائع”؛ فنرى أن فرنسا هي الدولة المتقدمة الوحيدة التي لم تتدنى فيها الأجور نسبة لإجمالي الدخل في قطاع الأعمال من سنة 1990 حتى سنة 2007 (أي نهاية عهد شيراك) بل ارتفعت بنسبة ضئيلة.
حصة الأجور في القطاع الخاص 1990-2007 (4)
ليس هذا الفشل في خفض “كلفة العمل”، التي تبقى الأعلى في أوروبا، سوى جانب من تناقضات المشروع النيوليبرالي الفرنسي التي تضخَّمَت كثيرًا منذ الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 2008. فلم تكسر المقاومة العمالية بعد بالرغم من بعض الهزائم (مثل تمرير قانون إصلاح المعاشات التقاعدية سنة 2010)، ولم تفلح الطبقة الحاكمة في خفض تكلفة العمل إلى المستوى المطلوب، وبالوقت عينه فإن سياسات التقشف زادت من الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وضربت بقوة في صفوف الطبقات المتوسطة والقطاعات غير المنظمة من الطبقة العاملة والفئات المضطهدة كالمرأة والسكان من أصول عربية وإفريقية (5).
تفاقم الأزمة
بعيد حقبة ساركوزي 2007-2012، فاز مرشح الحزب الاشتراكي فرانسوا هولاند بالرئاسة مستعينًا بـ”معضلة ميتيران” (إما أنا أو النيوليبرالية المتطرفة) التي أصبحت من كلاسيكيات الجناح اليساري للوسط النيوليبرالي المتطرف. وعد هولاند بتقليص الدين العام (الذي تضاعف جراء تعويم المصارف من قبل الدولة خلال أزمة 2008) وتشجيع النمو الاقتصادي لكنه فشل بتحقيق هذين الهدفين، وعين مانويل فالس رئيسًا للوزراء سنة 2014 في إعلان شبه صريح عن التوجه نحو السياسات النيوليبرالية الصارمة. بحث هولاند وفالس بقلق عن وسيلة لإرضاء هوس الرأسماليين وهو تكلفة العمل لكن دون إثارة نعرات الطبقة العاملة. لم يتجرأ الثنائي فالس-هولاند، الذي كان آنذاك لا يزال يراعي أوهام بانتصارات انتخابية قادمة، على الهجوم مباشرةً على مكتسبات العمال، فجاءهم بيار غاتاز، وهو رئيس رابطة رؤساء الشركات، بحلٍّ يرضي الجميع: إعانات من الدولة إلى الشركات! هكذا يعوض الرأسماليين عن تكلفة العمل دون التفريط بحقوق العمال، وما زاد الطين بلة أن غاتاز أقام باستعراض إعلامي وعد فيه بخلق مليون وظيفة نتيجة هذه الإعانات التي وصلت سنة 2017 إلى 172 مليار يورو، أي ما يوازي 8% من الدخل القومي الفرنسي ونصف ميزانية الدولة (6). مثل جوقة من اللصوص المهرجين، استفاد هولاند وفالس من التطبيل للمليون وظيفة وموَّلوا الإعانات مباشرة من جيب العمال والفقراء من خلال زيادة الضرائب على السلع الأساسية، وبعد بضعة أعوام اعترفت الحكومة نفسها أن الإعانات خلقت أو انقذت “ما بين العشرة آلاف والمائتيّ ألف وظيفة”، أي بمعنى آخر اعترفت أنها غير قادرة على قياس تأثير الإعانات على التوظيف بدقة، كما لم تغذي الاستثمار ولم تزيد من رواتب الوظائف الموجودة أصلا، بل ذهبت مباشرة إلى جيوب أصحاب الشركات الكبرى (7).
لم يهاجم هولاند جوهر مكاسب الطبقة العاملة، أي قانون العمل، إلا تحت مظلة حالة الطوارئ التي أعلنها بعد هجمات نوفمبر 2015 الإرهابية، إذ حاول هولاند رص الصفوف خلف الطبقة الحاكمة من خلال الدعاية الوطنية ولا سيما بتنظيم “مسيرة الجمهورية ضد الإرهاب” التي جمعت النقابات وجميع الأحزاب الفرنسية ما عدى اليسار الثوري الذي رفض المشاركة في هذا الاستعراض الشوفيني. وكما وصفه هوجو باليتا فقد استثمر هولاند والطبقة الحاكمة صدمة الهجمات الإرهابية من أجل تقوية قدرات الدولة القمعية والتوسيع من نفوذها بهدف منع الحركات الاحتجاجية وقمعها عندما تحصل، باستهداف فئات محددة من المجتمع: المسلمين والمسلمات، ومجتمعات الروما، والمهاجرين، وسكان الضواحي الشعبية والمناضلين اليساريين (النقابيين، والمدافعين عن البيئة، ومناهضي الفاشية، إلخ) (8).
وسط هذه الأجواء البوليسية المليئة بالضجيج الشوفيني والتحريض ضد المسلمين، أطلق هولاند هجومه الكبير على الطبقة العاملة من خلال قانون العمل الجديد. عندها دخل مئات الآلاف من العمال في إضراباتٍ شرسة وتعرَّضوا لقمعٍ بوليسي عنيف وغير مسبوق، لكن القطاعات المتقدمة لم تتمكَّن من كسر هيمنة البيروقراطيات النقابية على باقي الطبقة. وما إن ظهرت أولى علامات تدني الحراك حتى وضعت البيروقراطيات له حدًّا، نظرًا لحرصها على الوحدة الوطنية. في الوقت نفسه، استيقظ بضعة نواب في الحزب الاشتراكي من غيبوبتهم وتمردوا على رئيس الحكومة مانويل فالس الذي هكذا خسر غالبيته في البرلمان، فقرر أن يمرر القانون على شكل مرسوم تنفيذي دون تصويت، مسجلًا إنجاز تاريخي لصالح الطبقة الرأسمالية.
لكنه نصرٌ باهظ الثمن سياسيًا. فشكلت حقبة قانون العمل عملية استشهادية ضحى من أجلها هولاند ليس بما تبقى له من شعبية فحسب، بل بالحزب الاشتراكي نفسه الذي انهار إلى غير رجعة، منهيًا مسيرته التاريخية بطعنةٍ أخيرة في ظهر العمال والفقراء. وعندما نتذكر دور هذا الحزب التاريخي في إلقاء صبغة يسارية على الإصلاحات النيوليبرالية وفي استيعاب الحركات النضالية وتحريفها نحو المستنقعات الإصلاحية، نعي حجم الخسارة بالنسبة للطبقة الحاكمة.
لا يشكل انهيار الحزب الاشتراكي سوى الجانب المأساوي من الأزمة العضوية التي تمر بها الطبقة الحاكمة الفرنسية ككل. الأزمة العضوية، كما وصفها أنطونيو جرامشي، هي أزمة طويلة المدى، تنبع من تناقضات اقتصادية لا تقوى عليها الطبقة الحاكمة، وتتجلى في الحقل السياسي بأزمة هيمنة، حيث يصعب على الطبقة الحاكمة كسب تأييد ورضوخ الطبقات الأخرى كما كان الحال سابقًا. بالفعل، وكما أظهر جرامشي، فإن برجوازية الدول الصناعية المتقدمة لا تعتمد فقط على القمع لبسط سيطرتها على المجتمع، بل تغطي البطش بصبغة “جمهورية” كي يبدو حكمها مساوٍ لحكم جميع أفراد المجتمع: “فالدولة ليست فقط أداة طغيان وإكراه تفرض مصالح الطبقة الحاكمة من أعلى. الآن، وبحلتها المتكاملة، أصبحت الدولة شبكة من العلاقات الاجتماعية لصناعة الطاعة ودمج الطبقات المستضعفة إلى مشروع الطبقة الحاكمة التاريخي” (9). فقلعة البرجوازية ليست فقط محمية من قبل الجنود، بل هي محصنة بأسوار وخنادق معقدة تضلل الغزاة بينما يستمر العمل داخلها كأن شيئًا لم يكن. هذا الدور الاحتوائي يلعبه ما يسميه جرامشي “المجتمع المدني”، أي الأحزاب الإصلاحية، والنقابات العمالية، والمدارس والصحف، إلخ، التي تربي وتثقف الجماهير. ولا ينحصر دورها على الدعاية الأيديولوجية؛ فالنقابات والأحزاب الإصلاحية الجماهيرية تعطي المجال للطبقات الشعبية كي تعبر عن استيائها لكنها تحتوي على الحركات وتحرفها بعيدًا عن هواجس السلطة. هي بهذه الطريقة تلعب دور صمام الأمان الذي يحمي البرجوازية من الانفجارات الجماهيرية غير المُتوقَّعة. أخيرًا، تلعب الخدمات العامة أيضًا دورًا مزدوجًا، فهي من خلال تأمين الصحة والنقل والتعليم، تحسن من مستوى معيشة الطبقات الشعبية (أو بالأحرى تحد من إفقارها) مما يزيد من ثقة هذه الأخيرة بالطبقة الحاكمة. هذا “التسلط الناعم” على الأكثرية من خلال المجتمع المدني يتخلَّله تحريضٌ أيديولوجي وتسلُّطٌ عنيفٌ وقمعي ضد الأقلية الكفاحية والأقليات المضطهدة، مع تأييد أو على الأقل سكوت الأغلبية.
لكن على عكس الأسوار الحجرية، فإن المجتمع المدني هو كائن حي، نسيج من العلاقات الاجتماعية والسياسية المبنية فوق أساسات اقتصادية. والأزمة الاقتصادية المزمنة كما حلها النيوليبرالي، التي تزيد الفقر والبطالة وتقلص الخدمات العامة، تزيد من مآسي الطبقات الشعبية وتفتت رصيد المجتمع المدني وتلغم قدرته على احتواء الاحتجاجات، فتميل الدولة أكثر فأكثر تجاه جناحها القمعي أو بالاحرى تقويه وتوسع دائرة أهدافه مع تزايد منابع الاحتجاج.
إن جميع عوارض الساحة الفرنسية تدل أن الطبقة الحاكمة تمر بأزمة من هذا النوع: فانهار أخيرًا حزبا الطبقة الحاكمة في انتخابات 2017 بعد عقودٍ من الوعود الكاذبة والتدهور المستمر لشعبيتها، وسط امتناع غير مسبوق عن التصويت، بينما القطاعات العمالية الراديكالية، اليسارية والمناهضة للعنصرية تستعيد من عافيتها في مسلسل مستمر من النضالات الجبارة.
وجاء حراك “Nuit debout – واقفو الليل” بالتزامن مع المعركة ضد قانون العمل سنة 2016 واحتل ساحات المدن الكبرى رغم حالة الطوارئ والقمع الوحشي الذي ووجه به من قبل الدولة.
لم يستمر هذا الحراك سوى بضعة أشهر كانت غنية بالدلائل، لا سيما لأنها حشدت فئاتٍ جديدة إلى النضال السياسي: شباب الطبقة المتوسطة. نرى هنا آثار الأزمة الاقتصادية وبطالة الشباب التي لم تتدنَّى عن الـ20% طيلة السنوات العشرة الأخيرة. وغالبًا ما يضطر الشباب الحائز على شهاداتٍ جامعية عالية على العمل خارج القطاع الرسمي مقابل أجور متدنية، بعيدة كل البعد عن توقعاتهم بوظائف آمنة ومرتبات جيدة في القطاع العام، الصحف أو الجامعات. تحوَّلَت ساحات حراك “Nuit debout” إلى مواقع نقاشات مفتوحة وديمقراطية، أظهرت أن فئات لا يستهان بها من الطبقة المتوسطة باتت تشك بالنظام الرأسمالي ودور الدولة في حماية الأغنياء وتغذية العنصرية؛ وتجاهل الحراك نداءات مثقفي الطبقة الحاكمة (ناهيك عن رعاع اليمين المتطرف) الذين طالبوا بإنهاء هذه التجربة الغريبة من أجل “رص الصف الوطني”. ليس من المألوف أن نرى تلك الفئات، التي تشكل تقليديًا من حيث مستوى التعليم والدخل نوع من نخبة ثقافية غالبًا ما تنحاز نحو الطبقة الحاكمة، نراها تعبر عن استياء وصل إلى حدِّ الاغتراب وتلتفت، بالتزامن مع الحراك المناهض لقانون العمل، نحو الطبقة العاملة لتسألها بقلق: وما العمل الآن؟ هذا البحث المفتوح وإن كان مرتبكًا عن حلولٍ أيديولوجية يسارية بديلة عن “القيم الجمهورية”، يشكل دليلًا لا يمكننا تجاهله على أزمة الطبقة الحاكمة.
غير أن عوارض أزمة الهيمنة هذه لا تنحصر تلقائيًا في جانبها الأيسر، الباحث عن حلول تقدمية راديكالية قد تصل إلى مناهضة النظام الرأسمالي ككل. يقابل الاستقطاب نحو اليسار استقطابا نحو اليمين، خصوصًا مع حزب الجبهة الوطنية والمجموعات النيو-نازية الصغيرة، التي تستفيد أيضًا من أزمة الحكم لكنها تطرح بديلًا مُروِّعًا قد ينقذ الرأسمالية من خلال طحن الطبقات الشعبية: البديل الفاشي. فلنلقي نظرة على اليمين المتطرف الفرنسي مع التركيز على تفاعل حزب “الجبهة الوطنية” مع نتائج الإصلاحات النيوليبرالية.
اليمين المتطرف بين الدعاية الشعبوية والتنظيمات الفاشية
في ظل الأزمة الاقتصادية والسياسية المزمنة، بدا الحزب الفاشي الفرنسي “الجبهة الوطنية” للعديد من المحللين وكأنه تمكَّن من التحوُّل إلى حزبٍ يميني شعبوي ذو تأثير واسع. هذه الأطروحة ليست خاطئة تمامًا، إنما تنبع عن قراءةٍ محدودة لتحوُّلات الحزب الفاشي.
لطالما اتخذت المنظمات الفاشية أشكالًا عدة عبر التاريخ، ولا تشكل سيرورة “الجبهة الوطنية” استثناءً لهذا النمط. فمنذ تأسيسه في سبعينيات القرن الماضي، مرتكزًا آنذاك على كوادر منبثقة من العملاء النازيين خلال الاحتلال الألماني لفرنسا، وضباطٍ سابقين في الجيش والمخابرات الفرنسية عملوا عملتهم في الجزائر خلال حقبة الاستعمار، عاش حزب الجبهة الوطنية تطورات وأزمات عدة حوَّلَته شكليًا وضمنيًا ولكن دون تحريفه عن طابعه الفاشي.
يمكننا اعتبار أن آخر هذه التحوُّلات النوعية والذي أعطى الحزب شكله الحالي بدأ مع تولي مارين لوبان رئاسة الحزب خلفا لأبيها جان ماري لوبان خلال العقد الماضي.
سعت لوبان الابنة لتوسيع جاذبية الحزب ونفوذه الانتخابي من خلال تبني خطاب عنصري شعبوي، يتركَّز على كره المسلمين، دون التفريط بالجوهر التاريخي للحزب وهو قلبه الفاشي المعادي للسامية (أي الكاره لليهود -هذا لا يمنع، بطبيعة الحال، لوبان وباقي الأحزاب الفاشية الغربية الكارهة لليهود من دعم إسرائيل، كما لا تمنعها كراهيتها للمسلمين من دعم الأنظمة الديكتاتورية في البلاد ذي الغالبية المسلمة). الجدير بالذكر أن شعبوية لوبان التي أوسعت من نفوذ حزبها، استندت بشكلٍ أساسي على العنصرية المتزايدة النابعة من أحزاب السلطة (اليمينية و”اليسارية” منها) وجوقتها من إعلاميين، مثقفين وبروفيسارات لقوا في كراهية المسلمين وفي تنكيل المدافعين عنهم من اليساريين الأرض الخصبة لإنجاح أعمالهم. من جهة أخرى تستفيد لوبان من الأزمة الاقتصادية والبطالة والتفاوت المتزايد في مستويات المعيشة -أي نتائج الإصلاحات النيوليبرالية- من أجل حصد بعض أصوات الفئات الشعبية، ملقية اللوم ليس على الرأسمالية أو على الأثرياء بل على المهاجرين والفرنسيين من أصل أجنبي. وقد حقَّقَت لوبان نجاحات انتخابية حقيقية في هذا المجال، خصوصا في الفئات الدنيا من الطبقة العاملة والفقراء من المتقاعدين والعاطلين عن الأمل الذين سئموا من وعود أحزاب السلطة اليسارية واليمينية التي لم تحصد لهم سوى المزيد من الإفقار.
مع ذلك، علينا التذكير أن لوبان لا تحظى على تأييد غالبية الفئات الشعبية المذكورة أعلاه لأن هذه الفئات وفي غالبيتها قد هجرت صناديق الاقتراع ولا تصوِّت أصلًا. ثانية، لا تزال البرجوازية الصغيرة (الرأسماليين الصغار والمتوسطين، المحامين المحترمين وغيرهم من أصحاب الشؤون في المدن الصغرى والقرى) تشكِّل حجر الأساس الطبقي لحزب الجبهة الوطنية، وهذا له تأثيرٌ كما سنرى على تعاطي لوبان مع حراك السترات الصفر -فهي كرَّرَت رفضها، على سبيل المثال، لأيِّ زيادةٍ في الحد الأدنى للأجر فاضحة انحيازها الطبقي الرأسمالي المناهض للطبقة العاملة.
إذن، لم يفرط حزب لوبان في طابعه الفاشي، بل حاول استغلال الأزمات الاقتصادية كما تأقلم مع انحراف الحقل السياسي الفرنسي نحو اليمين واستغل التطبيع مع الإسلاموفوبيا.
رغم جديتها وخطورتها، أن نجاحات لوبان الانتخابية (وهي حصلت على رقم قياسي لحزبها في آخر انتخابات الرئاسة، أي ما يزيد عن ١٠ مليون صوت) لا تكفي حتى الآن للوصول إلى السلطة، مما يتسبَّب بتوترات وتناقضات بين القلب الفاشي للحزب ودائرته الواسعة. لذا تجبر لوبان، من حين إلى آخر، إلى إعادة استنباط “كلاسيكيات” الفاشية الفرنسية ولا سيما كراهية اليهود كما رأينا خلال الحملة الانتخابية الاخيرة. ومن ناحية أخرى يحافظ حزب الجبهة الوطنية على علاقات وثيقة وعملية -وإن لم تكن علنية- مع المجموعات النيو نازية الفرنسية التي تتبنى هجمات عنصرية على اللاجئين والمسلمين. على حدِّ تعبير فانينا يوديتشيلي، فإن “الخلاف داخل حزب الجبهة الوطنية يقع بين من يظن أن الوقت قد حان لمحاولة الاستيلاء على السلطة وآخرون (وهم الأقرب إلى تقاليد الحزب) يرون أنهم بحاجة إلى حراك جماهيري -فالتأثير داخل مؤسسات الدولة لا يكفي (أكثر من نصف الشرطيين والعسكريين يصوِّتون لصالح لوبان) وتطبيق مشروعهم السياسي يستلزم حراك شعبي يفرضه عبر الشارع” (10).
تلك هي، باختصار شديد، خارطة اليمين المتطرف في فرنسا.
صعود ماكرون
تخرج إيمانويل ماكرون عام 2004 من مدرسة النخبة الفرنسية ENA (“المدرسة الإدارية الوطنية”) التي تدرب معظم خدام الطبقة الحاكمة، من مسؤولي أحزاب “الوسط النيوليبرالي المتطرف” إلى كبار موظفي الدولة الفرنسية، فانضم ماكرون إلى هؤلاء مع حصوله على وظيفة في وزارة المالية فور تخرُّجه. من ثم انتقل إلى القطاع الخاص وتولى مسئوليات في مصرف استثماري، قبل أن يظهر أخيرًا على الرادار السياسي الفرنسي مع توليه وزارة الاقتصاد في حكومة مانويل فالس سنة 2014.
تمكَّن ماكرون من بناء مصداقيته ورصيده في أوساط الحكم، من رابطة رؤساء الشركات إلى الصحفيين بالاضافة إلى علاقاته في الدوائر المالية، وحوَّط نفسه بمجموعة من المستشارين الإعلاميين، وأسَّسَ حراك “الجمهورية إلى الأمام” بهدف تسويق ماركة “المرشح ماكرون” للانتخابات الرئاسية. أعلن ترشحه سنة 2016 بعد استقالته من منصبه كوزير، عندما أصبح واضحًا أن هولاند وفالس قد أحرقا رصيدهما الشعبي نصرتا لقانون العمل كما ذكرنا أعلاه.
في الوقت نفسه، اختار مؤيدو حزب اليمين المحافظ “حزب الجمهوريين” وبصورة مفاجئة رئيس الحكومة الأسبق فرانسوا فيون مرشحًا للحزب للانتخابات الرئاسية. فيون هو كاثوليكي تقليدي محافظ وله مواقف شديدة الرجعية تجاه المثليين والمسلمين، عاكسا ركيزة مؤيديه وهي البرجوازية التقليدية في المحافظات. بطبيعة الحال، لم يشكِّل كل هذا هاجسًا بالنسبة للبرجوازية الكبيرة وأوساط الأعمال، خصوصًا وأن فيون توعد في خطابٍ ألقاه أمام رابطة أصحاب الشركات بحرب خاطفة (على حد تعبيره) من الإصلاحات النيوليبرالية خلال أول مئة يوم من عهده. غير أن حملة فيون الانتخابية تزعزعت بسبب فضيحةٍ كبيرة حيث تبيَّن أن هذا المحافظ الذي يدَّعي الأخلاقية قد دفع ما يوازي مليون يورو لزوجته من المال العام خلال حقبته كنائب.
حاول كوادر حزبه الضغط عليه للانسحاب من السباق الرئاسي لمصلحة مرشحٍ آخر من الحزب، لكنه رفض وتركَّزت حملته أكثر فأكثر على مؤيديه الرجعيين، مما تسبَّب في هروب قسم كبير من ناخبيه نحو ماكرون.
انبهرت وسائل الإعلام بصعود ماكرون رغم أنها لعبت هي نفسها دورًا أساسيًا في تسويقه، والتفتت نحو دكاترة المقاهي الباريسية وفلاسفة الصالونات البرجوازية ليبحثوا سويًا، وبعنادٍ، عن سر نجاح هذا الشاب في شخصيته ومميزاته الخاصة (11).
الا أنه قد يصعب علينا أن نجد شخصيةً سياسيةً تجسِّد إلى هذا الحد قوى تاريخية غير شخصية، فلم يصنع ماكرون التاريخ بل صنعته عوامل تاريخية هي أكبر منه بكثير، لعب هو فيها دورًا ثانويًا.
فاستشهاد الحزب الاشتراكي فداء الرأسمالية، وأزمة الحزب اليميني المحافظ التي لم تلعب فيها فضيحة فيون إلا دور المسرع، صعود لوبان الذي أرعب الكثير من اليساريين ففضَّلوا اللجوء إلى المرشح الذي لديه فرصة حقيقية للفوز، إن جميع عوارض أزمة الحكم الفرنسي تحوَّلَت في الفترة الانتخابية إلى أنهر صبَّت كلها في مستنقع “المرشح ماكرون”؛ هكذا تمكن انتهازي ماكر محاط بالمعجبين التافهين من الوصول إلى سدة الرئاسة في دولة إمبريالية عظمى.
بادر ماكرون فور وصوله إلى السلطة إلى استكمال “إصلاحات” ولاية هولاند، فمن جهة زاد من قدرات الدولة القمعية لا سيما ضد اللاجئين وأقر سلسلة من الإصلاحات الضريبية الداعمة للرأسماليين وأخيرًا أطلق هجومًا جديدًا على أحد معاقل الطبقة العاملة المنظمة مع مشروع تقسيم وخصخصة شركة السكك الحديد. أعلن دوي صفارات إنذار قطارات المحطات الكبرى عن بدء إضراب عمال السكة الحديد ومعه انطلقت حقبة شبيهة بحقبة قانون العمل في 2016؛ إضراب كبير يحتل صادرات الصحف، نضالات في الجامعات والمدارس وفي أوساط تنظيمات المهاجرين، كلها تلتقي في الشارع في مظاهرات حاشدة وشديدة الراديكالية في أفكارها وممارساتها بمواجهة قمع بوليسي عنيف. وكما حصل سنة 2016، لعبت القيادات النقابية دورها المألوف وتمكَّنَت من ضبط حركة الإضراب وتسجيل انتصار للحكومة.
غير أن الهزيمة لم تشكِّل ضربةً قاضية. فمن جهة، خلقت هذه الحقبة من الإضرابات تنسيقيات عمالية جديدة وإن كانت صغيرة، تجمع عمال راديكاليين من سكك الحديد والبريد وبعض المصانع تحت قيادة عمال ثوريين. وتركِّز هذه التنسيقيات نشاطاتها على هامش التنظيمات النقابية التقليدية، مُحاوِلةً طرح بدائل لإستراتيجية البيروقراطيات التي تعتمد على المهادنة. أما القطاعات الطلابية وتنظيمات المهاجرين وتنظيمات مناهضة العنصرية، قد استعادت عافيتها أواخر سنة 2018 ونظَّمَت نضالاتها ساعيةً لنشر أفكارها وخبراتها النضالية داخل حراك السترات الصفر الذي داهم الحقل السياسي بطريقة مفاجئة.
من هي “السترات الصفر”؟
تتمحور المنظمات العمالية التقليدية حول أماكن العمل وعادةً ما تركِّز دعايتها ونضالها على ظروف العمل والأجور وحماية الوظائف، وتنبع قوتها التفاوضية في آخر المطاف من قدرتها على وقف عجلة الإنتاج الرأسمالية من خلال الإضراب. هذا لا يمنع النقابات من التنسيق والتنظيم جغرافيًا على الصعيد القومي، لكن القلب النابض للنقابة يبقى مكان الإنتاج، فنقابة تعوم في الهواء دون ركيزةٍ في أماكن العمل لا تبقى نقابة لوقتٍ طويل.
أما السترات الصفراء فتتميَّز بالتنظيم خارج أماكن العمل رغم طغيان العمال في صفوفها من حيث العدد. فهؤلاء العمال والعاملات قد يكونوا عاطلين عن العمل، متقاعدين، أمهات عازبات تعانين بين وظائف متعددة، قد يكونوا مشتتين في أماكن عمل صغيرة دون خبرة نقابية؛ كل أولئك النساء والرجال ينظمون أنفسهم حسب الجغرافيا ويركِّزون احتجاجهم ومطالبهم على إلغاء الاعفاءات الضريبية للأغنياء، محاربة التهرب الضريبي، تخفيض الضرائب على المتقاعدين والسلع الأساسية ورفع الحد الأدنى القانوني للأجور، أي جانب النيوليبرالية المعلق بسياسات الدولة نفسها. رأى البعض خلف هذا التركيز على الضرائب تأثير البرجوازية الصغيرة، لا سيما أصحاب الشركات الصغيرة، لكن تطور الحراك يميل بوضوح تجاه الطبقة العاملة. فمن بين عشرات المطالب التي نبعت من جميع أنحاء البلاد، نكاد لا نجد مطلبًا اقتصاديًا مُخصَّصًا للبرجوازية الصغيرة، بينما نجد العديد من المطالب المخصصة لفئات محددة من الطبقة العاملة مثل المتقاعدين، النساء والعاطلين عن العمل.
رغم الطابع العمالي الغالب، أن السترات الصفراء لا تجيش حتى الآن تحت شعار “طبقي” محض، أي الطبقة العاملة ضد البرجوازية. هذا له أسبابٌ عديدة، منها غياب أو على الاقل عدم طغيان التقاليد السياسية اليسارية والنقابية على هذه الفئات من الطبقة العاملة، ناهيك عن أن حتى الأحزاب اليسارية الإصلاحية تكاد لا تتكلم عن الطبقات. نرى في حراك السترات الصفراء تلك الظاهرة الكلاسيكية حيث يستعين المتمردون بخطاب حكامهم ومفاهيمهم الأيديولوجية ويقلبونها ضدهم. فكما ثار أتباع لوثر على الكنيسة الكاثوليكية باسم المسيحية، يتمرد قسمٌ كبيرٌ من الفرنسيين مستعيرين خطاب الطبقة الحاكمة التاريخي “حرية، إخاء، مساواة” ليسألوا الحكام أين الحرية من الشرطة المتوحشة، وأين المساواة ونحن نعد القروش لإطعام أولادنا بينما الحكومة تلغي الضرائب على الأغنياء؟ لا ينتظرون جواب الحكام فيعلنون أنفسهم أولياء “فرنسا الحقيقية”، فرنسا الحرية والإخاء والمساواة. من هنا الاستعانة برموز قومية غريبة عن تقاليد اليسار الفرنسي، مثل العلم والنشيد الوطنيين، ما شجَّع اليمين المتطرف إلى محاولة الانخراط بالحراك وشكَّلَ هاجسًا لبعض اليساريين والنقابيين. لكنه من الواضح أن حراك السترات الصفر لا يشكِّل بأيِّ طريقةٍ ذاك الحراك الجماهيري الفاشي الذي يحلم به حزب الجبهة الوطنية. لكن هذا لا يعني أن الحراك خال من العنصرية، من معاداة المثليين، من التمييز ضد المرأة وغيرها من الأفكار الرجعية العفنة التي سوَّقتها الصحف ومختلف الأحزاب على مدى عقود، فمن يحلم بطبقة عاملة “صافية” لا تنعكس فيها لعنات المجتمع الرأسمالي لن يجدها أبدًا.
من هنا، ما العمل؟ أولًا، أن ندرك أن هذه الأفكار الرجعية ليست طاغيةً على الحراك، وهي تعني أقليةً من المشاركين فيه؛ من هنا فإن المحرك الحقيقي ليس الأفكار الرجعية (كما هو الحال مع الحركات الفاشية) بل أفكار طبقية ضمنيًا. هذا يعني أن الحراك يشكل ساحة معركة على اليسار أن يقتحمها بأفكاره، بسياسته، وبهدف تضخيم وتوسيع الحراك من جهة ومحاربة النزعات الرجعية داخله وعلنيًا من جهةٍ أخرى. هذه الأزمة هي بيئة ملائمة للأفكار الطبقية الثورية، فكما قال لينين “إن الانقسام الطبقي هو، في آخر المطاف، القاعدة الأعمق للانقسام السياسي، لكن “آخر المطاف” هذا لا يحدِّده إلا الصراع السياسي” (12). تعميق النضال وتضخيم أزمة الحكام من خلال انخراط الملايين في هذا الحراك، من خلال دخول الطبقة العاملة المنظمة بثقلها على خط الإضرابات، هكذا فقط سيظهر الطابع الطبقي الصريح لهذا الحراك الذي، من مناهضة “الأغنياء” قد ينتقل نوعيًا إلى مناهضة النظام الرأسمالي ككل.
تتشابك المطالب الاقتصادية بمطالب سياسية قد تبدو مجردة وغير متجانسة، فهنا نطالب بـ”جمعية تأسيسية دستورية”، وهناك نطالب ب”استفتاء المبادرة المدنية”، أو بإمكانية إجراء استفتاء لسحب الشرعية من أي شخص منتخب قبل نهاية ولايته إذا فرط في تعهُّداته تجاه ناخبيه. قد لا يعلم ذلك معظم السترات الصفراء، لكن المطلب الأخير نُفِّذَ لأول مرة خلال كوميونة باريس سنة 1871. خلف الواجهة المشوشة لهذه المطالب ينبض قلبٌ ديمقراطي، ونرى عطشًا رهيبًا للديمقراطية الحقيقية المباشرة وعشرات بل مئات الآلاف من الناس يدخلون في سجالاتٍ طويلة تعكس بحثًا ملتهبًا عن وسيلةٍ ما لاستعادة جماعية لبعض من السيطرة على حياتهم ومصيرهم.
كما ذكرنا سابقًا، فإن هذا الحراك هو بنفسه نتيجة ودليل على انحطاط أحزاب ومؤسسات “صمام الأمان” أي المجتمع المدني، فينبذ غالبية المشاركين المؤسسات والانتخابات الرسمية كما الاحزاب الإصلاحية، وينوون انتزاع ديمقراطية أعمق تأتي من الأسفل، لم تتحدد اطرها بعد لكنهم يأملون أن تمثل مصالحهم -أي مصالح الطبقات الشعبية.
من هنا تأتي أزمة ماكرون: فهو يبحث بقلقل ومنذ بداية الأزمة على وسيط ما يلعب دور احتوائي، لكنه لم يفلح حتى الآن، فيلعب ورقته الوحيدة وهي ورقة الصرامة والقمع، وهو ورغم الإعلان عن بعض التنازلات الرمزية قد جدد تعهده النيوليبرالي، ونعت السترات الصفراء بـ”بعض الفرنسيين الذين لا يقبلون أن جانب حقوقهم عليهم واجبات”. كلمات ماكرون المتغطرسة تغذي الحراك ضده، أما وزراؤه فباتوا يشبهون نظراءهم العرب في 2011، فها هو وزير الداخلية يعلن أن كل المتظاهرين هم شركاء في “أعمال العنف” بفعل مشاركتهم في أي مظاهرة، وها هي وزيرة المساواة بين الرجل والمرأة تريد أسامي كل المتضامنين مع ضحايا بطش الشرطة وتتساءل علنًا عن دور “دولة أجنبية” في تمويل السترات الصفراء. أما نواب ماكرون فلا يتجرأون على الظهور علنا في المناطق الذين يمثلونها كنواب! بالفعل فإن جوقة الانتهازيين التي انضمت إلى ماكرون في فترة صعوده من أجل الحصول على مقعد نيابي لن تتمكن من خدمته في هذه المعركة التي تفضح ضعفه على الأرض وحصرية ركيزته الاجتماعية والشعبية. أخيرًا، دعا الوزير السابق و”الفيلسوف” لوك فيري الشرطة إلى استعمال “كل أسلحتها” ضد المتظاهرين وتمنى تدخل الجيش لفض الاحتجاجات، عاكسًا شعور الهيستيريا الذي يسود في أوساط طبقة حاكمة باتت عاجزةً عن فهم الشعب الذي تحكمه، فرياح الانتفاضة ترجح ستار الثقافة والفلسفة والأخلاق ليظهر الحقد الطبقي ضد هؤلاء الفقراء الذين تجرأوا على التحرك.
تطوُّر الحراك نحو المدن يغذي إمكانيات الإحتكاك مع الطبقة العاملة المنظمة، فمن جهة تلتقي مسيرات النقابات بمسيرات السترات الصفراء في المظاهرات، كما أن تنظيمات السترات الصفراء التي خلقت في المدن باتت تضم عمال منظمين وناشطين يساريين. في بعض الأماكن رأينا تضامن من قبل السترات الصفراء مع وقفات احتجاجية وإضرابات عمالية، لكن نقطة التلاقي قد تكون الخدمات العامة. فالعمال هم في الخط الأمامي للتصدي لتدهور الخدمات العامة الذي يصيب الطبقة العاملة بطريقة مزدوجة من حيث المستخدمين والعمال. أما سياسيًا فالأعين تتجه نحو القيادات النقابية من أجل الدخول في إضرابات ضخمة قد تفاقم الأزمة دراماتيكيًا.
رأينا أن فئات من اليمين المتطرف تحلم بـ حراك جماهيري يقويها ويحملها لعروش السلطة؛ من الواضح أن حراك السترات الصفراء لا يشكل تحقيق هذا الحلم. فلوبان مثلًا ساندت رسميا الحراك في بدايته، لكنها انتهزت جريمة ستراسبورغ الارهابية للانضمام إلى ماكرون في طلبها لوقف الحراك والعودة إلى الهدوء كما كررت دعمها للشرطة ورفضها أي زيادة في الأجور، تزامنًا مع انحراف الحراك نحو موقف مناهض لقمع الشرطة، وتجلي طبيعته الطبقية مع زيادة التركيز على المطالب المتعلقة بالاجور. أما المجموعات النيو نازية الصغيرة فتحاول التغلغل في الحراك تحت غطاء قومي، ويعمل اليسار على عزلها وترحيلها من خلال المواجهة العنيفة عندما يستلزم الأمر، لكن دون نسيان دور التحريض وكسب تأييد غالبية الحراك، فالإنتصار السياسي الحقيقي سيأتي عندما السترات الصفراء تنبذ من طلقاء نفسها الفاشيين واليمين المتطرف.
مستقبل الأزمة: الأمر لمن؟
لا يمكننا الكلام عن “حالة ثورية” في فرنسا اليوم؛ لكن عمق أزمة الطبقة الحاكمة وصمود الحراك بل تضخمه بوجه القمع يفرض علينا النظر إلى إمكانيات تطور الأحداث نحو حالة ثورية في المستقبل المنظور. هنا قد تصلح “الشروط الثلاثة” التي حسب لينين تصف الحالة الثورية:
1- الاستحالة بالنسبة للطبقات الحاكمة من الاستمرار على سيطرتهم بالشكل المعتاد؛ أزمة في القمة، أزمة سياسية للطبقات الحاكمة؛ أن القاعدة لا تريد والقمة لا تقدر على العيش كما كانت تعيش سابقًا
2- تفاقم غير معتاد لافقار ومأساة الطبقات الشعبية
3- تضخم في الحراك الجماهيري
بالطبع تحتك هذه العوامل ببعضها بطريقةٍ ديالكتيكية، فمن جهة الإفقار المتزايد قد يشجِّع الحراك الجماهيري الذي بدوره يضخم من أزمة الطبقة الحاكمة، أما رد الطبقة الحاكمة (القمع أو المهادنة) قد يحتوي الحراك أو قد يقويه، إلخ. “الشروط الثلاثة” ليست عقيدةً دينية بل دليلًا يساعدنا على التحليل الملموس لوضعٍ معين.
حسبما وصفنا سابقًا، فإن بذور هذه العوامل الثلاثة موجودة فعلا في الحالة الفرنسية. ويبقى السؤال الأساسي يدور حول العامل الثالث وهو الحراك الجماهيري. اليوم يتحرَّك مئات الآلاف في فرنسا، مع تأييد الملايين، خصوصًا أيام السبت، فكما تساءل القيادي اليساري الإصلاحي ميلانشون، “كيف يمكن أن تُحكَم دولة عظمى لستة أيام بانتظار انتفاضة أسبوعية؟” لا نعلم ما هو الجواب الذي يبحث عنه ميلانشون، لكن بالنسبة إلى الثوريين فعلى حالة الانتفاضة هذه أن تنتشر إلى كل أيام الأسبوع وتتضخَّم مع دخول مئات الآلاف من العمال المنظمين على خط الإضراب. حتى الآن، ورغم الاحتكاكات هنا وهناك، وضغط بعض الفئات العمالية على بيروقراطية النقابات، لا تزال هذه الأخيرة تتحرَّك ضمن منطق المهادنة.
أما السؤال الثاني، فهل تتمكَّن الطبقة الحاكمة من احتواء الحراك؟ أن إعادة بناء “مجتمع مدني” يتطلَّب خيارات سياسية جريئة. تمكَّنَت الطبقة الحاكمة الفرنسية من إنقاذ نفسها سنة 1968 من أكبر إضراب جماهيري في تاريخ البلاد، عبر الاستناد إلى الحزب الشيوعي والاتحاد العمالي العام (CGT)، اللذين استغلا نفوذهما الكبير في صفوف الطبقة العاملة من أجل المهادنة والتفاوض مع ممثلي الطبقة الحاكمة على العودة إلى العمل. ولم تأت المهادنة ببلاش، فحصلت الطبقة العاملة على مكاسب بارزة لا سيما زيادة الحد الأدنى للأجور بنسبة 35%. هنا قرَّرَت قيادة الطبقة الحاكمة أن تضحي بمصالحها الاقتصادية المباشرة من أجل إبعاد خطر الثورة.
عند الكتابة، لم يصل بعد حراك 2018-2019 إلى مستويات 1968 من حيث التجييش الجماهري وخصوصًا الإضرابات العمالية. لكن هذا لا يمنعنا من طرح السؤال، هل الطبقة الحاكمة مستعدة بل قادرة على التضحية كما ضحت سنة 1968؟ التضحية هذه وبلغة اليوم تعني لا أكثر ولا أقل من التخلي عن النيوليبرالية والعودة عن إصلاحات السنين الأخيرة، هكذا فقط قد تنتشل الجذور الاجتماعية العميقة التي ولدت الحراك الحالي. لكن برجوازية 2019 ليست برجوازية 1968 المرتوية المرتاحة بعد عقدين من النمو غير المسبوق ورأسمالية 2019 هي رأسمالية الأزمة، والبرجوازية الفرنسية تنظر إلى المستقبل بقلق لأنها تعي تمامًا أنها تراجعت في السنين الأخيرة، لا سيما بالنسبة للمنافس الألماني. فزادت ربحية الاقتصاد الألماني بنسبة 21% منذ عام 1999 بينما انخفضت في فرنسا بنسبة 27%. أما الاستثمارات فزادت بنسبة 9% في ألمانيا منذ أزمة 2007 بينما انخفضت بنسبة 2% في فرنسا (13). الدراسات الأخيرة (14) تدل أن الاقتصاد الفرنسي يعاني من ضعف هيكلي في الإنتاجية، حيث أن كمية كبيرة من رأس المال تغوظ في شركات غير منتجة، ذو ربحية ضئيلة لكنها تبقى على قيد الحياة (بسبب الفوائد المتدنية على القرود وربما بمساعدة إعانات الدولة المذكورة أعلاه) وهكذا تحتل الأسواق وتمنع عنها الشركات الأكثر إنتاجية وديناميكية التي لا تستطيع النمو. بمعنى آخر أن أزمة 2007 لم تستطع أن تقوم بدورها وهو “التدمير البنَّاء”، حيث تعلن الشركات الضعيفة إفلاسها وتنتقل رساميلها وسلعها إلى الشركات الأكثر إنتاجية بكسرة من قيمتها الحقيقية. هكذا يعاد تنظيم الاقتصاد حول الشركات القوية التي تستفيد من البطالة العالية من أجل كسر الأجور والتمهيد لدورة جديدة من التراكم الرأسمالي.
إذن البرجوازية الفرنسية لديها مشاكلها الخاصة وهي بطبيعة الحال لن تستسهل التضحية بالنيوليبرالية؛ وحتى لو قرَّرَت التضحية، فأي تنازل أمام الاحتجاجات هو سيف ذو حدين: إما يرضي المحتجين فيتوقف الحراك، وإما يزيد من ثقتهم بنفسهم وعندها الله أعلم أين ينتهي.
هوامش ومراجع:
(1) http://isj.org.uk/interview-the-meaning-of-macron/
(2) http://socialistreview.org.uk/424/how-did-france-get-here
(3) كريس هارمان، “رأسمالية الأزمة” ص228، دار المرايا 2018
(4) https://www.oecd.org/g20/topics/employment-and-social-policy/The-Labour-Share-in-G20-Economies
(5) انظري هنا للعلاقة بين العنصرية والنيوليبرالية وأزمة الطبقة الحاكمة الفرنسية:
https://al-manshour.org/node/7437
(6) https://www.cgt.fr/fiche-economique-largent-des-contribuables-dans-les-poches-des-actionnaires
(7) www.lefigaro.fr/flash-eco/2018/05/14/97002-20180514FILWWW00008-la-france-championne-des-distributions-de-dividendes.php
(8) https://www.contretemps.eu/autoritarisme-democratie-palheta
(9) Peter Thomas, The Gramscian Moment p.143 (Haymarket 2009)
(10) http://isj.org.uk/interview-the-meaning-of-macron/
(11) من جهة أخرى حاول بعض الأغبياء تصوير فوز ماكرون كتحقيق لمؤامرة يهودية (لأنه عمل في مصرف “روتشيلد”)، لن نتطرق هنا لهذه الخرافات العنصرية.
(12) https://www.marxists.org/archive/bensaid/2002/07/leaps.htm
(13) https://thenextrecession.wordpress.com/2017/02/01/france-penned-in/
(14) Cette, G., Corde, S. & Lecat, R. (2017). Stagnation of productivity in France: A legacy of the crisis or a structural slowdown? Economie et Statistique / Economics and Statistics, 494-495-496, 11-36. DOI: 10.24187/ecostat.2017.494t.1916