محاولة لفهم الإرهاب الأبيض وصعود العنصرية والاستعلاء العرقي
ما هو أبعد من الإرهاب في هجوم نيوزيلندا

فى هجوم إرهابى أثار موجة كبيرة من الغضب والجدل حول طبيعته وتفسيره، قام يميني أسترالي مدجج بالسلاح، أول أمس 15 مارس، بمهاجمة مسجدين في نيوزيلندا، وقَتَل فيهما 49 شخصًا من المصلين وأصاب العشرات.
أدانت رئيسة وزراء نيوزيلندا الهجوم واعتبرته إرهابيًا. وتوالت خلال اليومين الماضيين بيانات الإدانة الدولية وبرقيات التعازي من الدوائر الرسمية، وأطلقت أحزاب ومجموعات يسارية دعوات لمظاهرات داعمة للأقليات ومناهضة للعنصرية في استراليا ونيوزيلندا وعدّة عواصم ومدن أوروبية.
في مصر تنوعت التفسيرات وردود الفعل سياسيًا؛ إذ أدانت التيارات الإسلامية الهجوم ضمن ما اعتبرته حربًا على الإسلام، مشيرة إلى نموٍ مطردٍ لتيارات يمينية متطرفة مناهضة للوجود الإسلامي في المجتمعات الغربية، وتصاعد للإسلاموفوبيا. وانبرت بعض رموز الليبرالية و”التنويريين” لمهاجمة التطرف الإسلامي وتبرير الهجوم باعتباره مجرد رد فعل غربي متطرف على تكرار الهجمات الإرهابية التي يقوم بها جهاديون إسلاميون في أوروبا.
ولكن لفهم ما حدث في نيوزيلندا يلزمنا النظر بعمق في جذور الصراع وتفكيك آليات المجتمع الغربى وقوانين الرأسمالية، التى خلقت تفاوتات هائلة في توزيع الثروات على المستوى العالمي.
كان لنمو الاقتصاد الرأسمالي الغربي المتواصل منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى منتصف السبعينيات، أثره الكبير في تزايد أعداد المهاجرين واتساع طلب القوة العاملة. قامت المجتمعات الغربية حينها باحتضان الهجرة البشرية من دول العالم الثالث باعتبارها ضرورية للنمو الاقتصادى.
ولكن حين دخل النظام الرأسمالى في دورة ركود إبان أزمة السبعينيات، بدأ تدهور ما يعرف بدولة الرفاه الاجتماعي، وتوغلت سياسات الليبرالية الجديدة التى عملت على تزايد تركيز رؤوس الأموال في عدد قليل من الشركات المتعددة الجنسيات، كما تم فرض سياسات التقشف على الدول النامية ضمن برامج صندوق النقد الدولي، كان لهذا النمو المتفاوت أثره المباشر في تعميق الأزمة الاجتماعية على المستوى العالمي.
ثم أدت الأزمة المالية العالمية في 2008 إلى تشكيل جديد في الجغرافيا السياسية للنظام الرأسمالي، ففى دول أوروبا يتم التنازل بشكل منظم عن مكتسبات دول الرفاه، مما يرفع من مستوى البطالة ويخفض مستويات المعيشة، وقد رأينا اشتداد تلك الأزمة في اليونان وإسبانيا والبرتغال، وأخيرًا في فرنسا حيث اشتعلت مظاهرات السترات الصفراء المناوئة لقرارات ماكرون بخفض الدعم عن الطاقة وزيادة الضرائب وغيرها من إجراءات التقشف.
أما في دول الشرق الأوسط، فقد تعمَّقَت الأزمة نتيجة توحش سياسات الليبرالية الجديدة والديكتاتوريات الحاكمة، وفشلت الدول في تلبية الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية، مما ساهم بشكل رئيسي في توليد موجة من الانتفاضات فيما عرف بثورات الربيع العربي.
وفى خضم ما شهدته المنطقة من ثورات مضادة وتصفية لتلك الحراكات الشعبية الضخمة، والآثار الممتدّة للاحتلال الأميركي للعراق، وانفجار الحرب في سوريا نتيجة توحش نظام بشار الأسد، تشكلت داعش في مناخ شديد التعقيد، وقامت بتبنّي العديد من الهجمات الإرهابية التي وقعت في أوروبا خلال الأعوام القليلة الماضية.
فى إطار هذا الصراع المتشابك، تتداخل العوامل لصنع ما يعرف بالإسلاموفوبيا، وهى تعبير يختزل بشدة ذلك الصراع المعقد والعميق الذى خلقته آليات النظام الرأسمالي وما سببته من تفاوتات طبقية واجتماعية هائلة كانت السبب الرئيسى لتشكل كل هذه الظواهر. الإسلاموفوبيا يمكن اعتبارها شكلًا من أشكال الخطاب الثقافي الذي يغلف طبيعة الأزمة، فواقع الأمر أن عداء اليمين لا يقتصر على الإسلام والمسلمين، بل جاء نمو التطرف اليميني الغربى على خلفية ما تشهده المجتمعات الغربية من أزمة اقتصادية واجتماعية تزيد من مستويات البطالة وانخفاض مستويات المعيشة، مما شكّل تيارات اجتماعية وحزبية شعبوية مناهضة للمهاجرين عمومًا وبشكل أخص الأقليات الإسلامية والعربية.
وبالتالي فمن الخطأ حصر ما يحدث في نطاق ما يعرف بالحرب الثقافية، واختزال الصراع في بُعدٍ ديني مُجرَّد لا يشكل إلا خطابُا وهميًا يقوم بتغليف الأزمة وإعطائها أبعادًا زائفة. الصراع الحقيقى هنا يتمثل في ازدياد حدة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي تساهم في خلق كل كوارثنا العالمية من اضطهاد عرقي وعنصرية وإفقار وحروب ومعاناة إنسانية لمئات الملايين من البشر الذين تقوم سياسات النظام الرأسمالي بسحقهم وتدمير وجودهم الإنساني.
الرأسمالية لها تاريخ طويل ومخزٍ في تقديم المهاجرين والأقليات كباش فداء لها حين تشتد أزماتها، والساسة اليمينيون بمختلف أطيافهم وعلى اتساع العالم يلعبون دورًا دنيئًا في خلق بيئة شديدة العداء للأقليات ولكنها آمنة على الرأسمالية، وذلك عبر تجنيبها تحمل مسؤولية وآثار الأزمات التي تخلقها باستمرار، وعبر حرف الغضب الاجتماعي من فشل النظام الرأسمالي في تلبية احتياجات الشعوب باتجاه العداء للمهاجرين والأقليات.
ويُفاقم هذا المناخ المسموم وصول عدد من رموز اليمين الشعبوي للسلطة في الولايات المتحدة والمجر والبرازيل، إضافة إلى اكتسابه شعبية في عدد غير قليل من الدول الغربية، وهو ما يوفر للإرهاب والفاشية والاستعلاء العرقي منابرَ وأبواقًا سياسية تبث الدعاية وتسن التشريعات والسياسات ضد المهاجرين والأقليات ليل نهار.
إن سياسات تقييد الهجرة ورفض استقبال اللاجئين وحائط ترامب على حدود المكسيك وغيرها من سياسات اليمين تهيئ الأوضاع عالميًا لما هو أشدّ خطرًا من هجوم نيوزيلندا الإرهابي إن لم تُواجَه شعبيًا بكل حسم.