بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الإضراب العام حياة أو موت: الثورة السودانية في مفترق الطرق

وصلت الثورة السودانية العظيمة لمفترق الطرق الذي يواجه أي ثورة اندلعت في العالم في العصر الحديث: هل تكتفي الجماهير بإزاحة رأس النظام أم تقتلع النظام من جذوره؟ وما العمل مع المؤسسة العسكرية؟

لقد خاض الشعب السوداني معركة بطولية منذ ديسمبر الماضي، وقدم عشرات الشهداء في مواجهات شوارع مع ميليشيات الديكتاتور المخلوع عمر البشير، ونظم ثواره مسيرات (مواكب) حاشدة، وإضرابات واعتصام جماهيري لا زال مستمرًا للحظة أمام مقر القيادة العامة للجيش السوداني وأمام ثكنات الجيش في ولايات أخرى. وفور سقوط عمر البشير في 11 أبريل الجاري، هبَّ الشعب السوداني مرة أخرى لإسقاط رئيس المجلس العسكري السوداني عوض ابن عوف اليوم التالي.

ومنذ استلام الفريق عبد الفتاح برهان رئاسة المجلس مع نائبه (الأخطر والأكثر إجرامًا “حميدتي” رئيس مليشيات الدعم السريع المتورطة في جرائم ضد الدارفوريين وضد المعارضة)، يحاول جنرالات البشير الالتفاف على الثورة السودانية وتفريغها من مضمونها بالمراوغات وشراء الوقت ومحاولة امتصاص الضربة الأولى التي وجهها الثوار للنظام. ولم يضيع الجنرالات وقتًا، فهم على تواصل على مدار الساعة مع رعاة الثورة المضادة في القاهرة والرياض وأبوظبي والمنامة، وبدأت أموال الخليج تتدفق لدعم المجلس العسكري، ويعمل السيسي جاهدًا لدعم المجلس العسكري دبلوماسيًا واستخباراتيًا.

وبالتوازي “يلمِّع” الإعلام الخليجي حميدتي على شاشاته إذ طمأنهم فورًا بأن الجيش السوداني مستمر في المشاركة في العدوان على اليمن.

ولكن في الشارع مشهداً آخر، إذ نظم الثوار السودانيون مسيرتين للسفارة المصرية للتنديد بتدخل السيسي والمخابرات المصرية في الشؤون السودانية، وانتشرت لافتات ضده وضد أنظمة الخليج و”معوناتها”، وتتعالى مطالبات السودانيين بسحب قواتهم من تلك الحرب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

ولكن ماذا عن تجمع المهنيين السودانيين وقوى إعلان الحرية والتغيير رأس حربة الحراك؟

قررت قيادات المعارضة السودانية الاستجابة لدعوة المجلس العسكري السوداني للـ”تفاوض” بعد إسقاط البشير وابن عوف، ووسط ترقب الشعب السوداني تجيء أخبار متضاربة وتسريبات عن خلافات مع المجلس ثم تصعيد في الاعتصام واتهامات للقيادات العسكرية بالمراوغة ومحاولة الاحتفاظ بالسلطات السيادية، ثم عودة مرة أخرى لطاولة المفاوضات، لتنكشف أول أمس الأحد تفاصيل الخلاف بين المعارضة والمجلس العسكري:

بينما يطالب المعارضون بمجلس “سيادي مدني” يضم جميع أعضاء المجلس العسكري (7 جنرالات) مع 8 شخصيات مدنية، يرفض المجلس العسكري ويطالب بمجلس سيادي مدني يضم أيضًا جميع أعضاء المجلس العسكري (7 أعضاء) مع ثلاثة مدنيين فقط.

وفي كلتا الحالتين، غير مطروح سوى رئاسة عسكري للمجلس السيادي المدني المقترح.

هذا السقف المنخفض في مطالب قيادات المعارضة فجَّر غضب قطاع واسع من الثوار السودانيين، الذين يشعرون بخيبة أمل من أداء المفاوضين. وظهر جدل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي على سبيل مثال حول ما إذا كان السبب في هذا الانبطاح هو ضعف المفاوضين.

ولكن المشكلة لا تتعلق بشخصيات المتفاوضين بقدر تعلُّقها بإستراتيجية المعارضة. بقبولها التفاوض مع جنرالات البشير وبمشاركتهم في الفترة الانتقالية، يحاول قادة المعارضة التوفيق بين مطالب الشارع الثورية من جهة وجنرالات الثورة المضادة قلب النظام القديم وخط دفاعه الأخير والغارقين حتى آذانهم في جرائم النظام من جهة أخرى، وهو انتحار للثورة، ومهما تغير المفاوضين سيخيب أمل الثوار في الاتفاقات القادمة.

أين المخرج؟
اعتصامات الميادين وحدها لا تسقط الأنظمة، ولم يستخدم تجمع المهنيين سلاح الإضراب العام بجدية بعد سقوط البشير. وبالتالي تستمر عجلة الاستغلال والمصالح المهمة في العمل ويتجمع الثوار بعد نهاية أعمالهم بالميدان، في ظل استمرار المسيرات (المواكب). ولكن الإضراب العام ضروري للغاية لمواجهة العسكر والتمسك بسلمية الحراك المطلوبة في الوقت الآني. فلا يؤذي الأنظمة الرأسمالية (عسكرية كانت أم مدنية) أكثر من الإضرابات. وفي عدة مواقع وبدون انتظار دعوات الإضرابات من تجمع المهنيين، تحرك عمال وموظفو السودان في مصانع وشركات ومصالح حكومية للمطالبة بالتثبيت ونقابات مستقلة وتطهير أماكن العمل من القيادات الإدارية الموالية للنظام.. مشاهد ألفناها في مصر في 2011 وهاجمها آنذاك الإسلاميون والليبراليون تحت دعوى إنها “إضرابات فئوية لا وقت لها الآن”. ولكن تلك الإضرابات هي قلب الثورة النابض، وضرورة تصعيدها لإضراب عام مسألة حياة أو موت للثورة.

وبالتوازي مع الإضراب العام، يأتي التحدي الأكبر: مع أي عسكريين تتفاوض؟ أي عسكريين تسمح لهم بالتواجد والمشاركة في الفترة الانتقالية؟ جنرالات البشير؟ أم صغار الضباط والجنود الذين تمردوا على قياداتهم وقرروا عصيان الأوامر بل وتآخوا في الميادين مع الثوار وحموهم في مواجهات شرسة مع الميليشيات في أكثر من موقف؟

لقد كان تمرد الرتب الصغيرة والجنود من أهم أسباب هرولة المجلس العسكري لتنحية البشير خشية انهيار الجيش والنظام، وليس خافيًا على المراقبين أن إعادة السيطرة وفرض التراتبية في الجيش مرة أخرى يتصدر اهتمام وجهود الجنرالات حاليًا. هؤلاء هم العسكريون الذي يجب على الثوار السودانيين التحالف معهم والتفاوض والمشاركة.

قد يفزع البعض ويتهم الثوار بمحاولة جر البلاد لبحور الدماء، ولكن بحور الدماء الحقيقية هي التي ستحدث بإنقلاب الجنرالات الحتمي على الثورة سواء بالهجوم المباشر بعد مراوغات تستنزف الزخم الثوري أو بإحداث تغيير شكلي يضمن استمرار الجنرالات وسياسات النظام القديمة بوجه جديد. والحفاظ على سلمية الثورة يستدعي التحرك سريعا للإضراب العام الجماهيري والتوجه لتلك الشريحة من المؤسسة العسكرية للانضمام إلى الإضراب.