السودان: ثورة على المحك

يحاول المجلس العسكري الحاكم بالسودان إغراق الثورة في الدماء، إذ أسفر القمع الوحشي لاعتصام القيادة العامة في الخرطوم، الأسبوع الماضي، عن سقوط 110 شهيد، ومن المؤكَّد أن يكون العدد أكبر من ذلك بكثير. أُطلِقَ العنان لـ”قوات الدعم السريع” -تلك الوحدات من المُتمرِّسين في القتل على مدار سنواتٍ طوال من المجازر في دارفور- للاعتداء على المتظاهرين وقتلهم واغتصاب عددٍ منهم، علاوة على الفضِّ العنيف للاعتصامات في 13 مدينة أخرى، والأعداد غير المُدرَكة بعد من الضحايا.
هذه نقطة تحوُّلٍ حاسمة في الثورة السودانية؛ فإما أن نشهد انتصارًا للثورة المضادة الضارية، أو أن تتعمَّق الثورة بمزيدٍ من التجذير والدفع نحو تغييرٍ جذري.
جاءت المذبحة بعد ستة أشهر من الاحتجاجات المتنامية التي اندلعت في بادئ الأمر ضد ارتفاع أسعار الخبز في ديسمبر الماضي، ومن ثمَّ تنامَت على نطاقٍ هائل وصارت انتفاضةً سياسيةً بما لا يدع مجالًا للشك، حتى اضطر الجيش لإزاحة الديكتاتور عمر البشير الذي حَكَمَ البلاد لثلاثة عقود. أزاح الجيش السوداني البشير كرئيسٍ، لكنه أبقى على كافة العناصر الأساسية التي مارَسَ حكمه الباطش بها.
والآن يريد المجلس العسكري الانتقالي الذي يدير البلاد ديكتاتورية البشير لكن من دون البشير نفسه، حيث النظام العسكري القائم على سياسة “فرِّق تسُد”. ولقد أثبتت الأيام الصعوبة الشديدة لهذا المسار، إذ شهدت الاعتصامات الجماهيرية مئات الآلاف من المواطنين العاديين يشاركون مباشرةً، على مدار شهرين متواصلَين، في محاولاتٍ مستميتة من أجل الظفر بالحكم المدني.
انتشرت الإضرابات في العديد من الشركات إلى صناعاتٍ بأكملها، ثمَّ تصاعَدَت إلى إضرابٍ عام لمدة يومين، في 28 و29 مايو الماضي. والخوف من هذا الحراك الجماهيري هو ما دَفَعَ الجيش للتحرُّك ضده.
استقطاب
حين يسقط ديكتاتور بمقاومةٍ جماهيرية أو ثورة، تظهر ثلاثة أنواع من ردود الفعل في المجتمع:
الأول يصدر من أولئك المستفيدين من النظام القديم، الذين يشتاقون إلى عودة الأمور إلى نصابها السابق في الحكم. في روسيا عام 1917، أطاحت ثورة فبراير القيصر الحاكم، ومن ثمَّ بدأت قطاعاتٌ من حاشيته، علاوة على أصحاب المصانع ومُلَّاك الأراضي وقادة الجيش، في التطلُّع إلى فرصةٍ من أجل “استعادة النظام”. وفي مصر عام 2011، أطاحت الثورة الديكتاتور حسني مبارك، فبدأت الشبكات التي انتفعت من حكمه، في الدولة وفي الصناعات المختلفة، في العمل بكلِّ ما يملكون من طاقةٍ لاستعادة الأمور إلى سابق عهدها. ولأنهم كان عليهم مواجهة شعبٍ منتفض، لجأ أولئك الذي أرادوا ضرب التغيير الثوري في مقتل إلى أساليب الإرهاب والقتل واسع النطاق، ولطالما استندوا في ذلك إلى دعمٍ من قوى خارجية.
كان قائد المجلس العسكري الانتقالي في السودان، ونائبه، قد زارا مصر والسعودية والإمارات قبيل المجزرة التي ارتكباها. جميع هؤلاء من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، ويرتعدون من فكرة الثورة، لذا فقد أمدوا المجلس العسكري الانتقالي بالأسلحة ومليارات الدولارات.
القسم الثاني من ردود الفعل على الثورة عادةً ما يقبل بانقضاء النظام القديم، أو حتى يسعد بذلك. لكنه يريد عرقلة أيِّ تطوُّراتٍ أبعد من ذلك، ومن ثمَّ يبدأ في التعامل مع عناصر النظام السابق ويُضيِّق الخناق على أيِّ تكتيكاتٍ ثورية. في النموذج الروسي، شكَّلَ هذا القسم فئةً كبيرةً للغاية التفَّت حول الحكومة الانتقالية التي حلَّت محلَّ القيصر في الحكم. وفي النموذج المصري، أراد الإخوان المسلمون، بعد انتخابهم في أعقاب سقوط مبارك، إدخال بعض “الإصلاحات”، وليس إعادة هيكلة المجتمع سياسيًا واقتصاديًا.
أما في السودان، يتمثَّل هذا القسم في بعضٍ من المشاركين في الاحتجاجات أنفسهم. يريدون أن يتنحَّى الجيش، لكن يريدون أن يجري ذلك بسلاسةٍ من خلال التفاوض والمساومات.
نَظَرَ هذا القسم إلى الإضرابات والاعتصامات باعتبارها ورقةً للمساومة من أجل توطيد موضعهم في المحادثات. أما الجيش، فقد تماشى مع ذلك، واستغرق وقته لشحذ قواه بعد الصدمة الأوَّلية لإسقاط البشير، ثم تحوَّلَ إلى الهجوم.
وأما القسم الثالث، فيظلُّ دائمًا أقليةً في مطلع العملية الثورية، ويريد أكثر من مجرد وجوهٍ جديدة على قمة المجتمع، ويهدف إلى الإطاحة بالنخبة الحاكمة برمتها. يتطلَّع هؤلاء إلى ثورةٍ تُحطِّم الدولة القديمة وتؤسِّس شكلًا جديدًا من السلطة الديمقراطية.
بالعودة إلى النموذج الروسي، نجد البلاشفة هم من اضطلعوا بهذا الدور، وقد جنوا شعبيةً أكبر مع تعلُّم الجماهير من خلال التجربة الصعبة دور المُساوِمين الليبراليين. لم يكن هؤلاء الليبراليون يهدفون آنذاك لإنهاء الحرب العالمية الأولى أو مَنح الأراضي للفلاحين أو المصانع للعمال.
خلال فترات الأزمات الاجتماعية العميقة، تتنافَس هذه الأقسام الثلاثة على النفوذ والسلطة.
التنظيم العمالي
إن التحوُّل من الانتفاضة إلى الثورة يستلزم قوةً يمكنها تنظيم الحركة من أجل إلحاق الهزيمة بالجيش وإدارة المجتمع بطريقةٍ جديدة. وهنا تظهر الحاجة إلى مجالس عمالية من مُمَثِّلين مُنتَخَبين من مواقع العمل وقابلين للمحاسبة الفورية.
يمكن لمثل هذه المجالس أن تكون محورًا لتجمُّع فئاتٍ أخرى برزت في الثورة. ويتضمَّن هذا على سبيل المثال التنظيمات النسوية وحركات المطالبة بالحقوق والمساواة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.
لا تنشأ التنظيمات العمالية ببساطة من الأمنيات والخطب الجهورة، بل تنبثق من واقع الإضرابات الجماهيرية والحاجة إلى السيطرة على الإنتاج والتوزيع. على سبيل المثال، حين يُضرِب عمال المخابز عن العمل، من أين يحصل العمال إذن على طعامهم؟ لابد هنا من تنظيمٍ يضم العمال والفقراء لاتخاذ القرارات بصورةٍ ديمقراطية إزاء إدارة المخابز وتوزيع الخبز. الأمر نفسه ينطبق على محطات توليد الطاقة، والمستشفيات، وكافة قطاعات المجتمع السوداني.
لم تكن الاعتصامات تنظِّمها مجالس عمالية، لكنها تضمَّنَت لجانًا ثورية نظَّمَت إجراءات الأمن وتوزيع الأطعمة والاتصالات بصورةٍ أوَّلية. وهذه الخبرة الناشئة من الاعتصامات يمكن أن تكون حافزًا لتطوير مجالس عمالية في مواقع العمل. وبالفعل هناك بعض الإشارات الباعثة على الأمل في هذا الصدد، إذ اندلعت الإضرابات على الفور بعد مذبحة اعتصام القيادة العامة في الخرطوم في ستة مواقع لحقول النفط في غرب كردفان، علاوة على إضرابات المُعلِّمين، والعاملين بالمستشفيات، وبعض العاملين بالمطارات، وعمال ميناء بورتسودان الحيوي.
انطلقت المظاهرات الجماهيرية ضد الجيش في العديد من المدن، وبشجاعةٍ منقطعة النظير أغلقت مجموعاتٌ من الشباب في الخرطوم الشوارع بالمتاريس لقطع الطرق على قوات الدعم السريع.
الدفاع عن الثورة
هذا الصمود البطولي للثورة يثير توتُّر الجيش، وها هو رئيس المجلس العسكري الحاكم، عبد الفتاح البرهان، قد أعلن مرتين منذ المذبحة استعداده لاستئناف المفاوضات مع المعارضة دون شرطٍ مُسبَّق. أما الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد قوات الدعم السريع الإجرامية، فقد أعلن تحقيقًا “مستقلًا ومُنصِفًا” في عمليات القتل في الاعتصام.
لابد أن تُبذَل المحاولات لكسب جنود القوات المسلحة إلى الثورة، وهناك بالفعل إشاراتٌ إلى إمكانيةٍ لتحقيق ذلك. أجرت القناة الرابعة السودانية حوارًا مع عضوٍ بوكالة الاستخبارات كان قد انشقَّ عنها لينضم إلى الثورة، وقال إن الجنود النظاميين كانوا قد جُرِّدوا من أسلحتهم ونُقِلوا من مواقعهم بالقرب من الاعتصام قبل المذبحة وحلَّت محلَّهم عناصر من قوات الدعم السريع. بعبارةٍ أخرى؛ لم يكن الجنرالات واثقين تمامًا من ولاء قطاعاتٍ من الجنود، الذين ربما يعصون أوامر قتل المتظاهرين.
قد تقدر حركةٌ ثوريةٌ قوية على إقناع على الأقل أقسامٍ من الجيش -المُجنَّدين بشكلٍ أساسي- على الانضمام للثورة، وأن تُحيِّد أقسامًا أخرى. وهذا يعني توفير الوسيلة التي يمكن بها الدفاع عن الثورة في مواجهة قوات الدعم السريع. إضافةً إلى ضرورة إنهاء المفاوضات والتعاملات مع الجيش.
لقد اخترقت الديكتاتورية التي امتدَّت لثلاثة عقود كلَّ مجالٍ في حياة المجتمع السوداني، وخلقت شبكاتٍ من الامتيازات والسيطرة. وهكذا لابد من تطهيرٍ شامل من عناصر الجيش في المجتمع السوداني، وهناك توقٌ هائلٌ -وفرصةٌ مطروحةٌ أيضًا- لذلك.
حينما أضرَبَ العاملون بشركة توزيع الكهرباء في الخرطوم الشهر الماضي، كان أحد مطالبهم هو طرد المدير العام للشركة ونائبه. وأفاد المُعلِّمون المضربون عن العمل منذ أسابيع في غرب دارفور إنهم يريدون “إقصاء رموز النظام السابق عن عملية اتخاذ القرار، وحلَّ النقابات التي أنشأها النظام السابق”.
لكن تحويل الفرصة إلى واقع حقيقي يتطلَّب قيادةً سياسية. وفي مثل هذه اللحظات بالذات، تكون هناك ضرورةٌ لحزبٍ ثوري، يتمركز في القلب من القطاعات المُستَغَلَّة والمُضطَهَدة، ليرسم الطريق للأمام ويُلحِق الهزيمة بسياسات أولئك الذين يريدون إيقاف الثورة في منتصف طريقها.
استشهادًا مرةً أخرى بالثورة الروسية، بعد المحاولة الفاشلة التي دشَّنها الجنرال القيصري كورنيلوف للقضاء على الثورة، كَتَبَ القيادي الثوري ليون تروتسكي: “قد تحتاج الثورة سَوط الثورة المضادة من آنٍ لآخر”. كان يعني بذلك أن الثورة تجذَّرَت بعد أن شَهَدَ الناس الوجه الحقيقي للطبقة الحاكمة من خلال انقلاب كورنيلوف الذي مُنِيَ بالفشل.
كلُّ التضامن مع المناضلين لنصرة الثورة في السودان.
– هذا المقال مترجم عن صحيفة “العامل الاشتراكي” البريطانية.