السودان: الأمر لمن؟

“الدم قصاد الدم، ما بنقبل الدية” هتاف يعم شوارع السودان منذ اندلاع الثورة، تعبيرًا عن رفض قسم كبير من الجماهير لأي تسوية مع من قتل الثوار وقهر الشعب السوداني على مدى عقود. إلا أن قوى إعلان الحرية والتغيير (ق.ح.ت) “قبلت الدية” في شكل الاتفاق الذي توصلت إليه مع مجلس عسكري ملطخ بدماء شهداء اعتصام القيادة وغيرها من المذابح بحق الشعب السوداني، لا سيما أهالي دارفور الذين بنى “حميدتي” عرشه على عظامهم وأنقاض بيوتهم.
لسنا هنا بصدد إصدار حكم أخلاقي بحق قيادات ق.ح.ت، فالثورة ليست مجال الآداب والصفاء بل هي معركة لإسقاط سلطة وتأسيس سلطة بديلة. من هنا، علينا الحكم على هذه المساومة كما نحكم على أي مراوغة أو مهادنة حربية قد تمهد للنصر النهائي، فيصبح السؤال بلغة الثورة: هل يزيد هذا الإتفاق من ثقة الجماهير الثورية بقوتها وقدرتها على التنظيم الذاتي – وهي الضمانات الوحيدة لتحقيق أهداف الثورة – وهل يُضعف قوى الثورة المضادة وقدرتها على القمع؟
لو تبين في المستقبل، كما يكتب جلبير أشقر في مقال مليء بالإعجاب بشطارة ق.ح.ت، أن هذا الإتفاق يمكّن “القيادة الثورية السودانية من الإمساك بالسلطة الفعلية من خلال حشد الطاقات الشعبية، ومن تغيير أحوال البلاد بما يعيد وضعها على سكة التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي والثقافي، لضمنت نجاح الثورة السودانية” بالفعل. ولكن في الحقيقة هذه الفرضية، مثلها مثل حسابات قيادة ق.ح.ت، تعكس درجة مذهلة من السذاجة!
الاتفاق لم ينبذ الخطر الأول على الثوار وعلى الشعب السوداني ككل وهو آلة القتل التي يترأسها جنرالات البشير، والتي ذاقت طعم الدم في مذبحة القيادة وباتت تخطط وتنتظر الفرصة الملائمة لإلقاء ضربة قاضية تنشر الرعب في قلوب الجماهير وتنهي الحالة الثورية. على العكس، فالاتفاق كما توصلت إليه قيادات ق.ح.ت مع مجلس عسكري يحتل حميدتي منصب نائب رئيسه، قد ألقى صبغة الشرعية السياسية الثورية على هذا الأخير وكرس اندماج الجنجاويد، ميليشيات الإبادة الجماعية في دارفور، في ترسانة الدولة القمعية تحت مسمى “قوات الدعم السريع”.
بعد مفاوضات سرية أجرتها القيادات فوق رؤوس الجماهير، خرج الاتفاق ببنود كارثية. مثلًا، البند المتعلق بإصلاح أجهزة الدولة يتسم بالغموض في جزئه الذي يعني طبيعة ومدى الإصلاحات، لكنه يوضح أن “مهمة إصلاح الأجهزة العسكرية” ستسند “للمؤسسات العسكرية وفق القانون”. الاتفاق يحصن العسكر حتى من إشراف مدني رمزي على أعمالهم، ويوضح أن المجلس العسكري وحده له الحق في تسمية وزيري الداخلية والدفاع في الحكومة الانتقالية.
أما البند الذي يتناول الرعاية الاجتماعية وتأمين الصحة والتعليم والإسكان، فهو يتوقف عند التمنيات المجردة التي لا تلزم احدًا: “القيام بدور فاعل في الرعاية الاجتماعية وتحقيق التنمية الإجتماعية من خلال توفير خدمات الصحة والتعليم والإسكان…”. والبند المتعلق بالسياسة الخارجية يتسم بنفس الغموض ولا يتطرق للدور السوداني في حرب اليمن.
وكذلك البند المتعلق بإنشاء “لجنة مستقلة” للتحقيق في مجزرة، بل في مهرجان من القتل والتعذيب والاغتصاب الجماعي حصل في وضح النهار ووسط العاصمة على أبواب مقر المجلس العسكري نفسه!
من ناحية أخرى، قد يتوهم الأشقر وغيره ان قيادات ق.ح.ت ستتمكن من لعب ورقة الحشد الجماهيري كلما تعثرت المفاوضات، بهدف الضغط على العسكر والعودة بهم الى الطريق “التقدمي”، وذلك تكرارًا ومرارًا حتى تحقيق أهداف الثورة وانتقال السلطة الفعلية إلى المدنيين. لكن البند الموضوعي الأهم في منطق التفاوض والمحاصصة مع العسكر خلف أبواب مغلقة هو تحول ق.ح.ت إلى لعب دور احتوائي في الحراك الجماهيري، فستتعرض بالفعل لضغوطات هائلة بهذا الاتجاه، من داخل السودان وكذلك من قبل الجهات الخارجية “الضامنة”، باسم مراعاة “الشريك” العسكري وصيانة “الاستقرار والوحدة الوطنية” وغيرها من الأكاذيب، بهدف عزل الجناح الجذري عن باقي الثوار سياسيًا.
الإصلاحيون والجماهير في الثورة
اذا الإتفاق مع العسكر لا يشكل انتصارًا للثورة، ولا حتى مراوغة تكتيكية ماكرة قد تفسح المجال أمام انتصارات قادمة. قد يكون الإصلاحيون صادقون في سعيهم لتحقيق العدالة الاجتماعية (كما يرونها) والديموقراطية والحريات، أي اهداف الثورة المعلنة، لكنهم لا يتجرأون حتى في خيالهم على تحقيق هذه المطالب البسيطة من غير اتفاق مع رؤوس الدولة يحظى برضى الطبقة الحاكمة.
هكذا يصبح المد الجماهيري، بنظر هؤلاء، مجرد سلم قد يعلو بهم إلى المفاوضات مع رؤوس الدولة. لذا رأينا ق.ح.ت تدعو إلى تحركات جماهيرية من إضرابات و مسيرات ومواكب تحت شعار “إسقاط المجلس العسكري”، قبل ان تتراجع أمام حجم المد نفسه وتهرع بمزيج من الحماسة والهلع نحو المجلس العسكري معلنة التوبة عن بلاغتها الثورجية ومطالبة بالتفاوض تحت سقف تزيد خساسته كلما زادت عظمة المد الجماهيري.
ان تلك الممارسات السياسية تنبع في آخر المطاف من القناعة بأن النظام ومعه الرأسمالية السودانية معطلان لا ينتظران سوى شمس الحرية و”دولة القانون” ليزدهران ويعطيان ثمار التقدمية – يرى الإصلاحيون في تحقيق هذا الهدف مهمتهم التاريخية. غير أن الرأسمالية السودانية كما هي على ارض الواقع مبنية وتعمل لأجل الطبقة الحاكمة، لأجل ملاك السودان، في اجراءاتها النيوليبرالية ومصارفها الإسلامية والاستثمارات الخليجية الضارة وغيرها من الميزات التي تعني إفقار العمال والطبقات المتوسطة والفلاحين، دون أن ننسى التزامات الحكام الدولية، من صندوق النقد الدولي إلى المشاركة في الحرب على اليمن مرورًا باصطياد المهاجرين نيابة عن الاتحاد الأوروبي. لن يسجد ابدًا المجلس العسكري و”المجتمع الدولي” أمام صنم الدستورية وحكم القانون بينما تقوم القيادة المدنية بتفكيك إملائات صندوق النقد الدولي وإعادة توزيع الثروات. فالمعضلة ليست فقط في تواضع مطالب ق.ح.ت نسبة للآفاق التاريخية التي مسحتها الثورة، بل هي في أن حتى تحقيق هذه الأهداف البسيطة يتطلب انتشال النظام من جذوره وتفكيك آلة القمع في مواجهة مفتوحة مع الطبقة الحاكمة.
بالتالي تصبح مهمة الفئات المتقدمة في الحراك، من عمال ولجان أحياء وتنسيقيات، أن تنظم نفسها ليس بمعزلة عن باقي الجماهير ولكن باستقلالية سياسية واضحة وتامة عن التزامات قيادة ق.ح.ت تجاه المجلس العسكري و”الرعاة” الدوليين. كما كتبت موزان، “كان إضراب مايو بيان قدرة الشعب السوداني الثائر على تفعيل إرادته الجماعية و كان بيان الوزن الحقيقي لقرار الشعب”. إن تجذير تلك الخبرات ونشرها واستخلاص العبر السياسية والتنظيمية منها يعني التحضير للمعارك السياسية الآتية لا محال.