رؤيتنا (تقرير سياسي دوري تصدره حركة الاشتراكيين الثوريين) 6 سبتمبر 2019
ثورة في هونج كونج؟

دخلت المظاهرات الأسبوعية في مدينة هونج كونج أسبوعها الثالث عشر وأصبح غالبية المعلقين يصفونها ببدايات ثورة وليس مجرد حركة ديمقراطية محدودة المطالب. بل أن المشاركين في الحركة أنفسهم أصبحوا يصفون حركتهم بثورة المياه. والسبب هو أن غالبية التشبيهات التي يستخدمها ثوار هونج كونج ترتبط بالمياه سواء في أدبياتهم أو في رسائلهم على وسائل التواصل الاجتماعي. فهم يدعون الثوار لأن يكونوا بصلابة الجليد على المتاريس، وبتدفق البحار في المظاهرات، وأن يختفوا سريعاً كالضباب والندى لتجنب الاعتقال.
يبدو أن عام 2019 يشهد بداية لموجة جديدة من الثورات وحركات التغيير عالميًا، وقد بدأت بالسودان ثم الجزائر والآن تشتعل في هونج كونج، أحد أهم المراكز المالية والتجارية في العالم والجزء الذي لا يتجزأ من الصين.
ولكن لثورة هونج كونج أهمية خاصة بحكم اندلاعها على أطراف الدولة الصينية، أكبر بلاد العالم من حيث السكان (1.3 مليار نسمة) وثاني أكبر اقتصاد في العالم (حوالي 20% من إجمالي الناتج العالمي) وقاطرة الصناعة الرأسمالية العالمية (250 مليون عامل صناعي).
ولهونج كونج وضعٌ خاص في الصين، فقد ظلَّت تحت حكم بريطانيا حتى عام 1997، حين سُلِّمَت للصين. ولكن انتقال المدينة من الحكم البريطاني إلى الحكم الصيني جاء من خلال اتفاق يحافظ على حقوق وحريات وقوانين ودرجة من استقلال القضاء، تختلف نوعيًا عن محافظات الصين الأخرى، ولذا سُمِيَ الاتفاق بنظام دولة واحدة ذات نظامين. ولكن منذ ذلك الحين والسلطات الصينية تحاول تقليص تلك الحقوق والامتيازات. وقد كان القرار الذي فجَّر الحراك الأخير هو قانون يمنح السلطات الصينية بترحيل المتهمين في قضايا داخل هونج كونج للعاصمة الصينية ومحاكمتهم من خلال القضاء الصيني التابع للحزب الشيوعي.
وقد تحوَّلَت الحركة من مظاهراتٍ سلمية أسبوعية ضخمة (وصل عدد المتظاهرين إلى 2 مليون متظاهر في بلد سكانه لا يتجاوزون 7.48 مليون نسمة)، إلى مواجهات عنيفة بسبب محاولات قوات الشرطة تفريق المتظاهرين وفض تجمهرهم بالقوة. وقد استخدمت قوات الشرطة كل ما تمتلكه من تكتيكات لقمع موجات المظاهرات الأسبوعية. من المنع القانوني للتجمعات الجماهيرية والمظاهرات إلى استخدام الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، إلى اعتقال القيادات وغلق خطوط المترو والقطارات لمنع المتظاهرين من الوصول لوسط المدينة، وقد قامت قوات الشرطة باعتقال أكثر من 1100 ناشط ومتظاهر منذ اندلاع الحركة في يونيو الماضي.
ومع كل تصعيد للقمع كان هناك تصعيد وتجذير للحركة والتي تطورت تكتيكاتها لتصبح أكثر تأثيرًا من خلال تعطيل المواصلات العامة ومحاصرة مطار هونج كونج الحيوي. وعلى الرغم من أن الحراك بدأ بتجمعات من الشباب والطلاب، تمكَّنَت الحركة من تعبئة قطاع هام من الطبقة العاملة. يقدر بأن المشاركين في الإضراب العام في الخامس من أغسطس قد تجاوزوا 350 ألف عامل في قطاعات المواصلات والإنشاءات والتجارة والسياحة. وقد نجح الإضراب العام يومي 2 و3 سبتمبر في شل المدينة تماماً. ومع بداية الدراسة في سبتمبر انضمت المدارس والجامعات إلى الحراك وقد شملت الإضرابات الطلابية هذا الأسبوع أكثر من 90 جامعة وأكثر من 200 مدرسة.
ومع تصاعد الحراك وبدايات تحوله لثورة ديمقراطية بدأ النظام الصيني، وهو الحاكم الحقيقي في هونج كونج، بالتهديد بإعلان حالة الطوارئ وإنزال قوات الجيش والشرطة المركزية الصينية لفرض الأمن والنظام ووقف ما يسمونه بالفوضى. ولكن مع فشل هذه التهديدات في وقف التصعيد الثوري، تراجَعَ النظام وأعلنت كاري لام، رئيسة المجلس التنفيذي المعينة من قبل النظام الصيني، الرضوخ لأحد المطالب الخمسة للحركة وهو الإلغاء النهائي لقانون ترحيل المتهمين للمحاكمة المركزية في الصين. والغرض بالطبع من هذا التنازل هو خلق انقسام في الحركة وإضعافها للتمكُّن من الانقضاض عليها. ولكن هذا المطلب لا يمكن فصله عن المطالب الأربعة الأخرى، وهي وقف الوصف الإعلامي والحكومي الحركة الديمقراطية بالشغب، ومحاسبة الشرطة على عنفها وتشكيل لجنة تحقيق مستقلة، وانتخاب المجلس التشريعي والقيادات التنفيذية بالاقتراع العام المباشر، والإفراج الفوري عن كل المعتقلين من الحركة ووقف محاكمتهم.
هناك قطاعٌ من الليبراليين الديمقراطيين المعتدلين سيقبلون سحب كاري لام، رئيسة المجلس التنفيذي، لقانون الترحيل وتشكيل لجنة تحقيق في أحداث العنف، وسيعتبرون ذلك انتصارًا. لكن غالبية المشاركين في الحركة سيدفعهم تنازل كاري لام إلى المزيد من التصعيد لتحقيق باقي مطالب الحركة.
في 1989 اعتصم مئات الآلاف من الطلاب والعمال الصينيين في ميدان السلام السماوي (تيانانمن) في بكين للمطالبة بالديمقراطية والحريات والحقوق السياسية، ولكن النظام الصيني أنهى تلك الموجة الثورية بإنزال الجيش وارتكاب مذبحة قتل فيها أكثر من ألف من المعتصمين في عملية فض الميدان. أحداث هونج كونج الآن بعد مرور ثلاثة عقود على تلك الملحمة والمذبحة لا يمكن إلا أن تثير الرعب في صفوف قادة الحزب الشيوعي الصيني وأجهزته العسكرية والأمنية. ومن الجانب الآخر فلا يمكن إلا أن تثير الأمل من جديد في وعي الملايين من شباب وعمال الصين في الحرية والمساواة في بلد أصبح يحكمها حفنة من المليارديرات أصحاب الشركات العملاقة ومن ورائهم كبار رجال الدولة والحزب وبالطبع الجيش!
يستعد الحزب الشيوعي الصيني للاحتفال بالعيد السبعين للثورة وقيام النظام في الأول من أكتوبر. وهم سيحاولون بكل السبل إنهاء الحراك قبل ذلك الموعد. وخوفهم الرئيسي هو من انتشار الحراك لمختلف المدن الصينية خارج منطقة هونج كونج. والآن يستخدمون مزيجًا من التهديدات والتنازلات لفض الحراك، ولكن ما من شك أنهم سيحاولون استخدام القوة والعنف، وربما ارتكاب مذابح جديدة، للحفاظ على سلطتهم وثرواتهم وإبقاء الشعب الصيني العملاق مسجونًا تحت سيطرة رجال الحزب والدولة والجيش والقضاء التابع، بفسادهم واستبدادهم ونهبهم لثروات الصين.
ثورة هونج كونج تهدِّد كل ذلك واستمرارها ونجاحها وفرضها المزيد من التنازلات وانتشار المطالب الديمقراطية لباقي أنحاء الصين سيكون نقطة تحوُّل كبرى ذات طابع عالمي، خاصة وإن ارتبطت المطالب الديمقراطية بالمطالب الاجتماعية والاقتصادية. فالطبقة العاملة الصينية هي أكبر طبقة عاملة في العالم (العمال الصناعيين في الصين اليوم أكبر عدداً من الطبقة العاملة العالمية في زمن كارل ماركس!).
كانت الثورة المصرية واعتصام ميدان التحرير إحدى مصادر الإلهام لشباب هونج كونج حين نظَّموا ما سُمِيَ بحركة الشماسي في 2014 المطالبة بالحرية والديمقراطية، والتي تمكَّن النظام من قمعها قبل أن تتحوَّل إلى ثورة. هزيمة ثورتنا المصرية الأولى لا يجب أن تمنعنا من أن تلهمنا من جديد ثورة المياه في هونج كونج وأن نتعلَّم من دروسها وتكتيكاتها ونحن نمضي في الطريق الطويل الصعب نحو الثورة المصرية الثانية.