تشيلي: من الاحتجاج ضد ارتفاع رسوم المواصلات إلى مقاومة التقشُّف وعودة الديكتاتورية

تحوَّلَت الاحتجاجات في تشيلي ضد ارتفاع رسوم النقل العام إلى موجةٍ في كافة أرجاء البلاد ضد التقشُّف. والآن يواجه الرئيس اليميني والجيش هذه الموجة بقمعٍ غير مسبوق منذ حقبة الديكتاتور أوجستو بينوشيه.
وفي مساء الجمعة الماضية، فَرَضَ الرئيس اليميني سيباستيان بينيرا حالة الطوارئ على العاصمة سانتياجو بعد حوالي أسبوعٍ من الاحتجاجات العاصفة، على خلفية رفض الآلاف دفع رسوم مترو الأنفاق كجزءٍ من الاحتجاج تحت شعارٍ بسيطٍ واحد: “تهرَّبوا من دفع الرسوم”.
باغتت الجماهير الحكومة يوم الجمعة الماضية إذ استقلَّ الآلاف مترو الأنفاق مُتهرِّبين من دفع رسوم الانتقال. توقَّفَ خطَّان لمترو الأنفاق في سانتياجوا من أصل ستة خطوط، مما أدى إلى اكتظاظ حافلات المدينة بالركَّاب. ولم يفلح قمع الشرطة في ردع الاحتجاجات التي يتزعَّمها الطلاب، والتي ضمَّت إليها آلاف العمال لاحقًا. يبدو من الظاهر أن هذه الحركة هي بالأساس احتجاجٌ يتحدَّى الارتفاع في أسعار وسائل المواصلات العامة، لكنها أعمق من ذلك بكثير.
كان مُلصَقٌ دعائي قد انتشر على نطاقٍ واسع على شبكات التواصل الاجتماعي للتعبير عن المزاج العام لدى المحتجين، وقد حمل شعار “ليس 30 بيزو، بل 30 سنة”. فقد مضى أكثر قليلًا من 30 عامًا منذ بدأت تشيلي في التحوُّل من ديكتاتورية بينوشيه إلى الديمقراطية الليبرالية في العام 1988. صحيحٌ أن هذه العقود الثلاثة شهدت استعادةً للحقوق المدنية، لكنها أيضًا كانت امتدادًا للكثير من خطط النظام النيوليبرالية.
تدمير نظام المعاشات، وتهميش الحركة العمالية المُنظَّمة، ونمط التراكم الرأسمالي غير المستقر المبني على استخراج وتصدير المواد الخام –كلُّ هذه السمات المعاصرة لتشيلي قد ولَّدَت حياةً اجتماعيةً يسودها التفكُّك وانعدام المساواة. من هذا المنظور بالذات، ليست الانتفاضة العفوية التي تشهدها تشيلي حاليًا ردًّا على ارتفاع كلفة المعيشة مجرد صرخة احتجاجية، بل أنها محاولةٌ مستميتة للعثور على بديلٍ سياسي.
حين أعلن الرئيس بينيرا حالة الطوارئ، فقد عيَّنَ في الوقت نفسه الجنرال خافيير إيتورياجا، وهو شخصيةٌ شديدة الارتباط بانتهاكات حقوق الإنسان خلال حقبة بينوشيه، رئيسًا لهيئة الدفاع الوطني على مستوى البلاد. ويُعزِّز هذا الإجراء وحده الواقع المُر في تشيلي، حيث ديكتاتورية الماضي التي لا تزال تجثم على صدر الحاضر.
نزلت قوات الجيش إلى الشوارع مرةً أخرى لاستعادة النظام على الأرض، لكن أحداث مساء الجمعة وصباح السبت أوضحت بجلاءٍ أن الشعب التشيلي لن يخيفه القمع. ورغم الدوريات المستمرة لقوات الجيش والشرطة، صَمَدَ الآلاف في الشوارع وسط النيران وخلف المتاريس. وتتخذ الأحداث منعطفًا أكثر جذريةً حين اقتُحِمَت محطات مترو الأنفاق وأُضرِمَت فيها النيران، وصارت هناك المئات من المواقع الملتهبة للاشتباك مع الشرطة عبر أرجاء العاصمة.
اتسعت الاحتجاجات بحلول مساء السبت على مستوى المدن الأخرى، فيما قرَّرَت الحكومة التراجع عن رفع رسوم المواصلات العامة في سانتياجو. غير أن الأمور عند هذا الحد قد تجاوزت بالفعل مجرد الاحتجاج ضد ارتفاع رسوم المواصلات، إذ استمرَّت المظاهرات حتى الثامنة من مساء اليوم نفسه، حتى أُعلِنَ حظر التجوال بين الساعة العاشرة مساءً حتى السابعة صباح اليوم التالي. كان ذلك إجراءً غير مسبوق (إلا في حالات الكوارث الطبيعية كالزلازل)، وفي الوقت نفسه تذكيرًا مؤلمًا بحقبة الديكتاتورية المتوحشة.
وإلى جانب ذلك، تتهم الحكومة المتظاهرين بأنهم جزءٌ من مؤامرةٍ إجرامية، في محاولةٍ يائسة من جانب النظام لتشويه الاحتجاجات الجماهيرية العفوية. لكن بحلول منتصف ليل السبت، بات من الواضح أن حظر التجوال لم يُجدِ نفعًا، إذ ظلَّ الآلاف في الشوارع حول المتاريس؛ يهتفون ضد الرئيس وفرض الطوارئ والجيش والماضي الغابر للديكتاتورية. وتستدعي هذه الاحتجاجات مظاهر الاحتجاجات ضد بينوشيه حقبة الثمانينيات، حيث الطرق على الأواني كإشارةٍ إلى الإفقار والضغوط الاقتصادية الواقعة على أغلبية الشعب.
قرَّرَت الحكومة أيضًا تمديد حالة الطوارئ وحظر التجوال إلى مدينتين رئيسيَّتين؛ وهما فالباريسو وكونسيبسيون، بينما انضمَّت المزيد من المدن يوم الأحد إلى الموجة الاحتجاجية المتنامية. ولم يكن ذلك إلا مواجهةً جزئيةً من جانب الحكومة للاحتجاجات الواسعة التي لا يكاد فيها أيُّ شارعٍ رئيسي في المدن المذكورة على الأقل يخلو من المتاريس، وحيث يهاجم المتظاهرون المولات ومقرات الشرطة والمباني الحكومية، وحيث ينضم المزيد من الناس تدريجيًا للحراك.
التطوُّر السريع والمُتقلِّب للأحداث يجعل من المستحيل التنبؤ بما ستؤول إليه الاحتجاجات في نهاية المطاف. لكن أمرًا واحدًا هو المؤكَّد على الأقل: عودة الحكومة إلى “الكتالوج” الوحيد التي تلجأ إليه ضد الاحتجاجات؛ ألا وهو القمع من أجل حماية الملكية الخاصة ضد تهديد المطالبة بالديمقراطية وحركات الطبقة العاملة.
ومع ذلك، فإن هناك سيناريوهين مُحتَمَلين للمستقبل: الأول هو أن تكسب الحكومة هذه الجولة بتكتيكات القمع والدعاية المضادة، وترسي “أوضاعًا طبيعية”، والثاني هو أن تواصل التعبئة الجماهيرية الضغط وتستمر في احتلال الميادين الكبرى في مختلف المدن، للمطالبة ليس فقط بتخفيض نفقات المعيشة، بل أيضًا بتحوُّلٍ سياسي جوهري في البلاد. بالنسبة للاحتمال الأول، فلا يرغب فيه أحدٌ سوى الحكومة، التي تسعى إلى استعادة “السلم الاجتماعي”، بينما تعاني إدارة بينيرا في مأزقها، وتتخذ موقف الدفاع، ولا تدرك متى يمكنها سحب قوات الجيش من الشوارع.
أما بشأن الاحتمال الثاني، فقد أُطلِقَت اليوم بالفعل الدعوة إلى الإضراب العام لوضع حدٍّ لحالة الطوارئ. كانت حركاتٌ طلابية ونسوية هي التي بادرت بهذه الدعوة، لكن قطاعاتٌ عمالية –مثل عمال الموانئ والمُعلِّمين والعاملين بالصحة والبناء- تبنَّت الدعوة أيضًا.
بعد أسبوعٍ كامل من الحركة الجماهيرية الجارفة، وبينما من غير المُرجَّح أن تتغيَّر الأمور بصورةٍ كاملة بين ليلةٍ وضحاها، ما مِن شكٍّ في أن الجماهير عادت لتتصدَّر المشهد في تشيلي.
– هذا الموضوع مترجم عن مجلة جاكوبين الأمريكية.