سؤال التطبيع: في استيعاب رد الفعل السوداني

عنصر جديد دخل إلى العملية السياسية في السودان مساء الإثنين 3 فبراير الماضي: سؤال التطبيع الذي فرضه ظهور خبر لقاء رئيس مجلس السيادة الانتقالي ورئيس المجلس العسكري السابق عبد الفتاح البرهان مع رئيس وزراء الاستعمار الصهيوني بنيامين نتنياهو.
جاء رد فعل الشارع السوداني -حسبما تعكس النقاشات أونلاين وعلى الأرض- متباينًا ومنقسمًا بين الصدمة من مجرد طرح السؤال، والحماس على الجانب الآخر للتطبيع مع الكيان الصهيوني كخطوةٍ نحو بناء دولة السودان المدنية الجديدة حسب رأي البعض.
التضارب في التصريحات وردود الأفعال الحكومية، بين تصريحات البرهان بمعرفة رئيس الوزراء حمدوك عن الزيارة وتصريحات حمدوك بنفي تصريحات البرهان، وإحجام معظم لجان المقاومة عن التصريح، وبيانات الأحزاب التي تأرجح غضبها بين قضية التطبيع وإجرائية اللقاء وصلاحيات البرهان.. عوامل كثيرة ساهمت في خلق مناخ من عدم الوضوح، وبينما انشغلت القيادة السياسة بإعادة توازن القوى ومعالجة “تفلتات” أفراد حكومتها، كانت الجماهير السودانية في حالة حوار مجتمعي حول القضية الفلسطينية غاب عنه أي طرح نظري واضح من أي قوة سياسية.
جاءت مبررات داعمي التطبيع مع الاستعمار الصهيوني في شكل مزيج من البحث عن الاستنفاع التبادلي (فيما تفيدنا قضية فلسطين لندعمها كسودانيين؟) والتلكك الطفولي على شاكلة سرد التجارب الشخصية السلبية مع فلسطينيين أو التصرفات العنصرية من بعض الفلسطينيين كعذرٍ لدعم كيان استعماري صهيوني على أرضهم.
رد الفعل الشعبي السوداني وبالتحديد موقف المجموعات التي ساندت التطبيع -على غرابته للمراقب الخارجي- منطقي جدًا لتاريخ وسياق استخدام القضية الفلسطينية في العملية السياسية السودانية.
على مدار 30 عامًا من حكم عمر البشير -“نظام الإنقاذ”- كانت مسيرات “نصرة فلسطين” الخيار الأمثل للإسلاميين لجمع قاعدتهم الجماهيرية وشحذها حول خطاب فلسطين كقضية “إسلامية وعربية”.
طلبة المدارس والموظفات والموظفين محمولين في حافلات نحو الساحة الخضراء لنصرة أطفال غزة كان مشهد كيزاني بامتياز تكرَّر كثيرًا وخاصةً كلما فقد “نظام الإنقاذ” بعضًا من قوته واحتاج لمراكمة زخم جماهيري يدعمه في مواجهة الاحتجاجات أو في مواجهة مذكرات القبض على البشير أو عند الانهيارات الاقتصادية. لم تختلف مسيرات نصرة فلسطين في الماضي كثيرًا عن مسيرات دعم “الجهاد” بجنوب السودان، أو حفلات “زاد المجاهد” و”عرس الشهيد”.
بالمقابل لم تقدم القوى التقدمية أو القوى المعارضة للنظام في السودان بشكلٍ عام أيَّ طرح مختلف يناقش القضية الفلسطينية كقضية تحرُّر من الاستعمار مما جعل منها “قضية الإسلاميين”.
رد الفعل الشعبي الداعم للتطبيع -أيًّا كانت نسبته- في عيون مؤيديه إذن فعل قطيعة مع الإسلاميين وقضاياهم التي دعموها ومواقفهم التي اتخذوها.
غياب الطرح السياسي للقضايا الاساسية من جهة الفاعلين في العملية السياسية ليس حدثًا منفصلًا في حالة القضية الفلسطينية بل هو أسلوب للممارسة السياسية في السودان.. نلاحظه حاليًا في غياب أيِّ طرح نظري عن مفهوم العدالة في الحالة السودانية أو حتى بالتحديد لشهداء الثورة السودانية.
هذا الفراغ النظري يشكِّل بيئةً مناسبة لمفاهيم عدالة القصاص من جهة، لتطابقها مع الطرح الشعبوي المبني على التشفي، ومن جهة أخرى لكون هذا المفهوم القاصر للعدالة يقع في مصلحة القوى الأكثر تنفذًا في الدولة من قيادات الأجهزة الأمنية والقوات النظامية وحلفائهم. فأيُّ تصوُّرٍ أكثر تفصيلًا لمسار العدالة يناقش تسلسل الأوامر وسلطات اتخاذ القرار يهدِّد استقرار ومصالح قيادات الجيش والأمن والشرطة والجنجويد.
يقود الفراغ النظري النقاشات الكبرى أحيانًا إلى أمورٍ إجرائية وتفاصيل بيروقراطية، لا لشيء سوى لانعدام الخيارات، نجد ذلك هنا في حصر النقاش حول الموقف من التطبيع مع الكيان الصهيوني في جدلٍ حول صلاحيات أقرتها وثيقة شبعت اختراقًا، كما نجده في جرجرة الشارع السوداني لجدل رفع الدعم وإنزاله.. بينما السؤال الحقيقي حول الحقوق الاقتصادية وولاية الحكومة على الموارد، وكذا أولويات توزيع هذه الموارد، مُبعَد عن الأجندة.
في حالة نقاش التطبيع، وصل الأمر إلى مراحل كوميدية. إذا ما سردنا الحقائق نجد أن برهان قابل نتنياهو في أوغندا -بمعرفة الولايات المتحدة حسب تصريح البرهان- مما يتطلَّب الحد الأدنى من الاجتماعات التنسيقية بين الحكومات الثلاث.
لكن حمدوك وخارجيته نفيا أيَّ علمٍ لهما باللقاء. إذن ودون أي حاجة للنظر إلى تفاصيل أخرى، يبدو واضحًا أن الحكومة السودانية باتت حكومات، بسياسياتٍ خارجية مختلفة وتحالفاتٍ متباينة وصراعاتٍ تظهر على السطح رويدًا رويدًا.
جدل الصلاحيات الدستورية -بينما تصرفات البرهان تضرب بالدستور عرض الحائط- يصبح جدلًا يهدف للهروب من مواجهة تصدُّعات الاتفاق السياسي. البرهان يبني علاقاتٍ خارجية بمبادراتٍ شخصية والحكومة التنفيذية تؤكد ذلك في بيانها، بالكوميديا.
بعيدًا عن ملهاة الحكومة السودانية وأقرب الى مأساة الشعب، نرى في الوضع الحالي درسًا عن نتائج انسحاب القوى التقدمية عن طرح الرأي السياسي في القضايا من باب تركها للإسلاميين كما في حالة القضية الفلسطينية، أو من باب الارتياح للطرح الشعبوي دون دراسة ونقد كما في حالة حصر العدالة في القصاص، أو من باب العزوف عن تقديم بديل اقتصادي جذري كما في حالة قصر النقاش الاقتصادي على رفع الدعم وإنزاله.
سؤال التطبيع وتعامل الجماهير السودانية معه -أو على الأقل تلك النسبة من الجماهير السودانية التي مكَّننا الإنترنت من التعرُّف على آرائها مباشرةً- هو دراسة حالة تؤكد أهمية انخراط الجماهير والقوى التقدمية في نقاشاتٍ حول القضايا الأساسية وضرورة عدم تكرار خطأ العملية السياسية السودانية في العقود الماضية باستكانتها لردود الأفعال بمواجهة انتهاكات الحكومة المتوقعة.
علينا مناقشة القضية الفلسطينية كقضية تحرُّر في مواجهة استعمار صهيوني تدعمه الإمبريالية العالمية ولاعبيها في المنطقة وقراءة موقعنا من الصراع جغرافيًا ومبدئيًا وتاريخيًا. علينا إعادة النقاش إلى جادة المبادئ الأساسية والأهداف لمواجهة خطاب المنفعة التبادلية الرأسمالي المتمدد تحت سؤال (ماذا نستفيد من دعم الفلسطينيين؟)، علينا محاربة هذا المنطق المعوج الذي يقدح فيما يقدح في أحقيتنا كسودانيين بكل أفعال وأشكال التضامن من الشعوب المختلفة بعد مجازر فض الاعتصام.
علينا مواجهة هذا المنطق الاستنفاعي قبل أن نجد أنفسنا في وسط نقاش عن الجدوى الاقتصادية لإعادة النازحين. كما علينا مواجهة خطاب عدالة القصاص الفردي قبل أن نجد محاكم إبادات دارفور وقد تحولت إلى 7000 محاكمة فردية لـ7000 جندي بينما قادة الجنجويد والجيش في حماية منطق المسؤولية الفردية.
هذه النهايات السيريالية ليست بالضرورة بعيدةً ما دام الأسبوع الماضي قد أرانا سودانياتٍ وسودانيين يتجادلون حول مواقفهم من الاستعمار الصهيوني من خلفيات معاداة الإسلاميين والعروبة أو نحو أهداف “المنفعة الوطنية”.
لقد منحنا سؤال التطبيع إذن إجابةً حول دور حرج للقوى التقدمية في السودان يحتم عليها فتح القضايا من منظور مبدئي استباقًا لتحوُّلها لخبر عاجل تتضارب حوله ردود الفعل.
* الكاتبتان، مزن النيل وولاء صلاح، ناشطتان في الثورة السودانية