أمريكا اللاتينية.. قارة ثائرة
تشهد أمريكا اللاتينية طوال السنوات الماضية تصاعد شديد في النضالات الطبقية في مواجهة السياسة الليبرالية الجديدة.. فمن حركات فلاحية مسلحة تقوم بانتزاع الأراضي، إلى اتحادات للعاطلين تقطع الطرق وتنظم اعتصامات في الشوارع. بالإضافة إلى المعارك العمالية الكبرى، وأخيرًا انتفاضات جماهيرية تسقط الأنظمة الموالية للإمبريالية. نور منصور تكتب لنا عن القارة الثائرة.
قد لا يختلف الكثيرون على أن أمريكا اللاتينية التي يعيش فيها نصف مليار إنسان تحظى بخصوصية تميزها عن قارات العالم. فهي القارة التي خضعت لأعنف درجات القمع الاستعماري من قبل إسبانيا والبرتغال، ورغم استقلالها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، فقد خضعت طوال ذلك القرن وبداية القرن العشرين لحروب أهلية مستمرة بين الاتجاهات الليبرالية والمحافظة أبقت على وضعيتها كقارة شديدة الفقر يصل التفاوت بين الأغنياء والفقراء في دولها إلى أقصى مداه. ومنذ مطلع القرن العشرين أصبحت أمريكا اللاتينية أهم مناطق التدخل الأمريكي دعمًا للنظم الديكتاتورية التي تحمي مصالح الاستثمارات الأمريكية في نهب ثروات القارة المعدنية والزراعية. وإذا كانت أمريكا اللاتينية عبرت عن حالة خاصة من المعاناة نتيجة للفقر والقمع، فإنها أيضًا تتميز بثراء في تجربتها الكفاحية ضد أشكال الظلم المختلفة. وتسعى السطور التالية إلى إلقاء الضوء على بعض من جوانب نضالات شعوب أمريكا اللاتينية في السنوات الأخيرة ضد سياسات الليبرالية الجديدة.
حركات الفلاحين
أدى تبني الليبرالية الجديدة – منذ بداية الثمانينيات – إلى العصف بالفلاحين نتيجة للطابع العنيف والمتسارع الذي طبقت به في الريف بشكل خاص. ففي البرازيل والسلفادور والإكوادور وتشيلي وبيرو المكسيك تم التراجع عن سياسة الإصلاح الزراعي، وطرد الفلاحون من الأراضي الزراعية التي وزعت عليهم سابقًا، وأعيدت إلى كبار الملاك، مما أدى إلى تشريد ملايين من الفلاحين. ومع رفع القيود عن الدول السلع الغذائية الأمريكية والأوروبية الرخيصة، مما أدى إلى تشريد مليوني فلاح في البرازيل والمكسيك وحدهما خلال التسعينيات بسبب عدم قدرتهم على المنافسة.
وفي عام 1992 وقعت حكومة ديكتاتور المكسيك كارلوس ساليناس وإدارة بيل كلينتون اتفاق التجارة الحرة لمنطقة شمال أمريكا (النافتا) الذي ضم كندا إضافة إلى المكسيك والولايات المتحدة. وفي ظل الاستعداد لتطبيق الاتفاق وفتح المجال أمام الواردات الأمريكية وزراعة التصدير الواسعة، قام ساليناس بوقف عملية إعادة توزيع الأرض المنصوص عليها في الدستور، وكذلك أوقف دعم السلع الغذائية. وفي أول يناير 1994، يوم دخول النافتا حيز التنفيذ، بدأ “جيش تحرير زاباتيستا الوطني” نضالاً مسلحًا ضد الحكومة حيث استولى على أربعة من المدن في منطقة تشياباس شرقي المكسيك، التي تضم غالبية من السكان الأصليين (الهنود). وقامت حركة الزاباتيستا بمهاجمة مراكز الشرطة وتحرير السجناء واستولت على العديد من المصالح الحكومية. ورفعت الحركة مطلب الإصلاح الزراعي كمطلب أساسي إلى جانب المطالبة بحماية حقوق عشرة ملايين من السكان الأصليين ودعم الغذاء والاهتمام بخدمات التعليم والصحة. وإزاء التهديد الذي قامت به الحركة، ونجاحها في تكوين تحالف مع عمال الحضر، تمكنت من إجبار الحكومة على التراجع – ولو بشكل مرحلي – عن العديد من السياسات الفلاحية الظالمة وبدأت في طرح قضية حقوق السكان الأصليين بشكل واسع. وفي مواجهة نفوذ الزاباتيستا قامت النخبة الحاكمة بالتعاون مع الولايات المتحدة بعملية موسعة لنزع أسلحة الفلاحين عبر تجنيد نحو 40 ألف جندي تلاه تكوين عديد من الميليشيات المسلحة لمواجهة الحركة.
وفي البرازيل ارتبط تطبيق سياسة الاقتصاد الحر بتبني ما أطلق عليه “التحديث الزراعي” الذي تضمن تشجيع الزراعة الرأسمالية الموجهة للتصدير على حساب صغار الفلاحين. وكانت نتيجة هذه السياسة أن تم تهجير نحو نصف مليون أسرة فلاحية خلال النصف الأول من التسعينيات لينضموا إلى 5.3 مليون أسرة فلاحية مشردة منذ عقود سابقة تنتظر وعود الحكومة بتوطينهم في أراضي زراعية بديلة. وإزاء إصرار نظام كاردوسو – أحد منظري مدرسة التبعية سابقًا – على تجاهل مطالب الفلاحين والعمل على توطينهم في أراضي الغابات والمستنقعات غير الصالحة للزراعة، بدأت “حركة فلاحين بلا أرض” في أخذ زمام المبادرة عبر تنفيذ عمليات احتلال للأراضي الزراعية الخالية والصالحة للزراعة. وقامت بتنظيم مظاهرات ضخمة في المدن الكبرى، والتحالف مع نقابات العمال وأحزاب المعارضة وتشكيل ميليشيات مسلحة تقوم بالاستيلاء على الأرض بالقوة ومواجهة الميليشيات التابعة لكبار الملاك والمدعومة من الشرطة والجيش. وتمكنت الحركة من توطين 150 ألف أسرة فلاحية أي نحو مليون شخص في أراضي صالحة للزراعة وامتد نفوذها إلى ثلاث وعشرين ولاية من ولايات البرازيل الأربع والعشرين. وفي عام 1997 تكونت منظمة فلاحية جديدة هي “حركة صغار المزارعين”، والتي قامت بالدفاع عن مصالح صغار الفلاحين ضد الطرد وتفاقم الديون الحكومية، وتبنت العديد من تكتيكات حركة “فلاحين بلا أرض” كإغلاق الطرق واحتلال المباني الحكومية والاستيلاء على الأرض بالقوة وتنظيم المظاهرات الحاشدة في العاصمة والمدن الكبرى. وفشلت حكومة كاردوسو في تدجين الحركة التي رفضت العرض الحكومي بتخفيض ديون صغار المزارعين في مقابل وقف سياسة احتلال الأراضي. ومنذ نهاية التسعينيات بدأت الحركة في التوجه إلى توسيع تحالفها مع العمال والنقابات والقطاعات الساخطة في المدن، التي أخذت في التزايد بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية وفشل الليبرالية الجديدة في انتشال الاقتصاد من الأزمة.
وفي كولومبيا تمكن الجيش الشعبي للقوات الثورية، الذي يضم 15 ألف مقاتل معظمهم من الفلاحين، من الاستيلاء على ما يقرب من نصف الريف في حقبة التسعينيات، وطرح مطالب تتعلق بالإصلاح الزراعي وتشكيل اتحادات نقابات للعمال الزراعيين، مما استفز وزارة الدفاع الأمريكية التي منحت الحكومة بلايين الدولارات تحت ستار مكافحة تهريب المخدرات بينما استهدفت في الحقيقة محاربة تمرد الفلاحين. وفي باراجواي تزامن انهيار أسعار القطن مع تطبيق السياسة الليبرالية الجديدة في الريف عبر تشجيع زراعة التصدير في الملكيات الكبيرة، مما أدى إلى وضع مئات الآلاف من صغار الفلاحين أصحاب الزراعات التقليدية على شفى الإفلاس، ودفعهم إلى القيام بسلسلة من التمردات المسلحة وعمليات احتلال الأراضي. وكان لتحالف الفلاحين والطلبة في المدن دورًا أساسيًا في منع استيلاء العسكريين على السلطة.
تميزت حركات الفلاحين المناهضة لليبرالية الجديدة عن سابقاتها بأنها لم تقتصر على تبني مطالب اقتصادية ولم يقتصر نشاطها على سكان الريف، وإنما سعت إلى بناء تحالفات واسعة مع المضطهدين في المدن من العمال والعاطلين عن العمل والطلبة وسكان العشوائيات في أطراف المدن. وعلى سبيل المثال ارتكز الإضراب العام في البرازيل وبوليفيا عام 1996 والإكوادور 1997 على تحالفات الفلاحين واتحادات العمال. وتبنت الحركات الفلاحين مناهضة الخصخصة وقمع الدولة واضطهاد السكان الأصليين من الهنود وكانت ظرفًا مباشرًا في تغيير النظام كما حدث في الإكوادور عام 2000. واتسمت حركات الفلاحين أيضًا بعدم وجود أجهزة بيروقراطية تقودها بمعزل عن الجماهير، وإنما يتم اتخاذ القرارات بشكل جماعي خلال تجمعات شعبية كبرى. وفي ظل المعاناة الكبرى التي تتكبدها النساء الريفيات، أصبح لهن دورًا أساسيًا في الحركات الفلاحية، وأخذن مواقعًا قيادية في بعض الحركات مثل الزاباتيستا. وسعت الحركات الفلاحية في القارة إلى الاستفادة من تجارب بعضهم البعض، واتخذوا تكتيك إغلاق الطرق الرئيسية – لوقف حركة السوق – كأسلوب مواز للإضراب العمالي، حيث يؤدي إلى وقف تدفق وانتقال السلع من منطقة إلى أخرى. وأخيرًا كانت حركات الفلاحين عنصرًا أساسيًا في حركة مناهضة العولمة من خلال المنتدى الاجتماعي العالمي الذي تأسس في البرازيل عام 2001.
اتحاد العمال العاطلين في الأرجنتين
ينتمي اتحاد العاطلين عن العمل في الأرجنتين إلى موجة الحركات الاجتماعية الحضرية التي جاء تشكيلها لاحقًا لحركات الفلاحين، مثل تحالف العاطلين والفقراء في جمهورية الدومينيكان ورابطة سكان المناطق العشوائية في فنزويلا. وكشأن حركات الفلاحين، جاء تشكيل اتحادات العاطلين كرد فعل على الآثار الاجتماعية المدمرة لاقتصاد السوق على حياة الطبقات الفقيرة من السكان. ففي الأرجنتين، تم بيع غالبية المنشآت المملوكة للدولة للقطاع الخاص في التسعينيات مما أدى إلى تخفيض الأجور وفصل أعداد كبرى من العاملين وإغلاق مجالات النشاط غير المربحة مثل العديد من المناجم ومصادر إنتاج الطاقة، وهو ما نتج عنه تحول العديد من المدن إلى مدن أشباح بعد أن هجرها السكان. وانتهى الأمر إلى بلوغ نسبة العاطلين عن العمل في عام 2001 بين 30% و80% في المناطق المختلفة.
سعي العاطلون عن العمل خلال النصف الثاني من التسعينيات إلى القيام بمظاهرات سلمية وتقديم التماسات إلى الحكومة. ومع فشل هذه الوسائل قام مائة ألف عاطل في أغسطس عام 2001 بإغلاق 300 من الطرق الرئيسية في كافة الأنحاء وإصابة الاقتصاد بالشلل التام. وكان رد فعل الحكومة أن قامت بإلقاء القبض على نحو ثلاثة آلاف شخص وقتل خمسة أشخاص، مما أدى بدوره إلى تفاقم الصراع حيث قام العاطلون بالتنسيق مع نقابات العمال بعمل إضراب عام وإغلاق جميع المصانع الكبرى المملوكة للقطاع الخاص.
مارست حركة العمال العاطلين نشاطها في الضغط على الحكومة بأسلوبها لا مركزي امتد ليشمل مختلف الأقاليم، واتخذت من إغلاق الطرق الوسيلة الرئيسية لإجبار الحكومة على تقديم تنازلات على صعيد تمويل عملية خلق الوظائف للعاطلين. واعتمدت حركة العمال العاطلين على اتخاذ القرارات بشكل جماعي بين أعضاء الحركة في الإقليم أو الوحدة المحلية. وعندما يتخذ القرار بإغلاق الطرق الأساسية في منطقة ما، يتدفق آلاف الرجال والنساء والأطفال إلى الطرق المراد إغلاقها ويقومون بإقامة معسكرات للحياة على الطرق وعندما تسعى الشرطة لمواجهتهم يتدفق مزيد من العاطلين لحماية الآخرين.
نجحت حركة العمال العاطلين في تحقيق نجاحات على صعيد إجبار الحكومة على تقديم إعانات للعاطلين وتمويل عملية خلق الوظائف. ولعل هم الأسباب التي أدت لاستمرار تماسك حركة العمال العاطلين تكمن في تركز عمال الصناعة العاطلين والنساء اللاتي تعولن أسرهن والعاطلون من الشباب في مناطق متجانسة نسبيًا من حيث التركيب الطبقي وبعيدًا عن تأثيرات الطبقة الوسطى، وتمتع العديد من أعضاء الحركة بالخبرات النضالية نتيجة لعملهم السابق كعمال صناعيين، وحرص الحركة على إقامة صلات مع اتحادات العمال والأحزاب المعارضة ومنظمات حقوق الإنسان.
الجماهير تسقط أنظمة الليبرالية الجديدة
نجحت احتجاجات الجماهير في تشكيل تحدي حاسم لثلاثة من النظم الحاكمة منذ بداية القرن الحالي هي الإكوادور والأرجنتين وبوليفيا. ففي الإكوادور طبقت الحكومة خلال عقد التسعينيات برنامج تقشف صارم برعاية صندوق النقد الدولي، وقامت ببيع المنشآت العامة وتخفيض قيمة العملة المحلية. أدى ذلك إلى المزيد من تفاقم الأزمة الاقتصادية ووقوع العديد من الاضطرابات المتواصلة كان من نتيجتها تعاقب ست رؤساء على حكم البلاد في الأربع سنوات الأخيرة من القرن العشرين. وخلال عام 1999 بلغ معدل التضخم 60% والبطالة 80% ووصل معدل النمو إلى -7% وسعت النخبة الحاكمة بالتعاون مع رجال الأعمال إلى نهب القروض التي قدمها البنك الدولي وتحويلها إلى حسابات في بنوك الولايات المتحدة. وكانت الخطوة الأخيرة هي قيام الرئيس جميل موهاد في مواجهة إفلاس الخزانة بربط العملة بالدولار، مما أدى إلى ارتفاع هائل في الأسعار، دفع حركة كوناي الفلاحية بالتحالف مع عمال المدن وعدد من العسكريين باحتلال البرلمان ومحاصرة قصر الرئاسة والإطاحة بالرئيس موهاد في يناير عام 2000. وشكلت حكومة شعبية برئاسة ثلاثة أعضاء هم رئيس حركة كوناي وأحد المهنيين من الطبقة الوسطى، وأحد الضباط. غير أن قلق إدارة بيل كلينتون من الحكومة الجديدة أدى إلى مساندتها للجيش للإطاحة بها وتنصيب نائب الرئيس السابق رئيسًا للبلاد.
وفي الأرجنتين اتفقت الحكومة في بداية عقد التسعينيات مع صندوق النقد الدولي على إعادة جدولة الديون البالغة قيمتها 60 مليار دولار في مقابل تطبيق برنامج للخصخصة والتقشف، تم بمقتضاه بيع كافة الوحدات الاقتصادية الإنتاجية والخدمية المملوكة للدولة، وتحويل هيئة المعاشات والخدمة الصحية إلى القطاع الخاص وتخفيض الرسوم على الواردات. ورغم أن هذه الإجراءات أدت إلى ارتفاع في معدل النمو نتيجة لتدفق الاستثمارات الأجنبية، إلا أن تفاقم البطالة بسبب خصخصة المنشآت العامة كان أقوى من الآثار الناجمة عن ارتفاع معدلات النمو. ففي النصف الأول من التسعينيات فقد 10% من عمال الصناعة و20% من العاملفين في خدمات المياه والغاز والكهرباء وظائفهم. أثرت الأزمة التي تعرضت لها دول جنوب شرق آسيا عام 1997 على دول العالم الثالث الجاذبة للاستثمار حيث سعت الاستثمارات الأجنبية للبحث عن مناطق أكثر أمانًا للاستثمار. وكان نتيجة ذلك أن قامت الحكومة الأرجنتينية برفع سعر الفائدة حتى بلغ 20% بهدف جذب الاستثمارات. لكن ذلك أدى بدوره إلى مزيد من الركود جعل الاقتصاد الأرجنتيني يواجه أزمة كالتي عانى منها الاقتصاد الأمريكي في الثلاثينيات ووصل السكان تحت خط الفقر إلى 40% ومعدل البطالة إلى 20% من القوى العاملة، بينما انخفضت الأجور الحقيقية بمعدل 20%.
وفي 19 و20 ديسمبر 2001 اندلعت انتفاضة عفوية في الأرجنتين. بدأت بتدفق آلاف الجياع إلى محال بيع المأكولات طلبًا للطعام، ثم قاموا بتحطيم تلك المحال وأخذ ما بداخلها، وتوجهوا إلى البنوك لأخذ الأموال منها. في الوقت نفسه بدأ سكان الضواحي والأحياء الفقيرة في الطرق على أواني الطعام الفارغة، وهو سلوك احتجاجي في الثقافة المحلية. ولحق هؤلاء بالجياع في المدن كما لحق بهم النساء اللاتي دأبن على تنظيم احتجاجات دورية على اختفاء ذويهم أثناء حكم النظم العسكرية. ورغم مقتل نحو 50 شخصًا على أيدي الشرطة، استمرت الانتفاضة وكونت تجمعات في الأحياء والمدن تطالب بإعادة تأميم الوحدات المخصخصة ووضعها تحت إدارة عمالية ورفض دفع الديون الخارجية ومحاسبة المسئولين عن وفاة العشرات في الانتفاضة. أدت ذلك إلى فرار الرئيس دولاروا وتعاقب على منصب الرئاسة أربعة رؤساء كان آخرهم إدوارد دوهاليداي محافظ العاصمة بيونس أيرس.
ولا تختلف تجربة بوليفيا في الخصخصة عن تجارب مثيلاتها في القارة. فمنذ عام 1999 شهدت بوليفيا تصاعدًا في الحركة الجماهيرية في مواجهة سياسة الخصخصة، توج بنجاح الجماهير في أكتوبر من العام الماضي بالإطاحة بالرئيس جونزالو سانشيز دولازادا المدعوم من واشنطن واضطراره لمغادرة البلاد متوجهًا إلى الولايات المتحدة. حيث نظمت الجماهير إضرابًا واسعًا في شهر سبتمبر ضم عمالاً وطلبة وأساتذة جامعيين ومجندين وفلاحين، مطالبين بوقف مشروع تصدير الغاز الطبيعي – مصدر الثروة الرئيسي – إلى الولايات المتحدة، وهو المشروع الذي تموله الشركات متعددة الجنسية، وبالتحكم في ثروة البلاد الطبيعية، ومحاسبة المسئولين عن قمع الجماهير في الحركة التي قام بها الفلاحون المنتجون لنبات الكوكا في يناير وفبراير من نفس العام – احتجاجًا على حظر الحكومة زراعة الكوكا مع عدم توفير بديل لحياة الفلاحين. وفي السادس عشر من أكتوبر، التف مئات الآلاف حول القصر الرئاسي في العاصمة لاباز، ورغم موافقة دولازادا على التراجع عن مشروع الغاز إلا أنه أجبر على الاستقالة هو ومجموعة من وزراءه.
تشير تجربة أمريكا اللاتينية إلى أعنف صور تطبيق سياسات الليبرالية الجديدة، وهو ما يرجع إلى الهيمنة الأمريكية المباشرة – عسكريًا وسياسيًا – على القارة، والمصالح الاستثمارية الأمريكية الضخمة، والتراث المتميز من القمع. لعل ذلك ما يفسر حدة المقاومة الجماهيرية لسياسات السوق، وما نتج عنها من إفقار للملايين من السكان. غير أن ما يمكن تأكيده في هذا السياق هو أن التجارب الكفاحية لسكان أمريكا اللاتينية تمثل في الحقيقة خبرة ثرية للنضال في الكثير من مناطق العالم الثالث ومنها عالمنا العربي.