إيطاليا: برليسكوني مهدد بالسقوط
لا تكاد نيران الغضب تهدأ في إيطاليا حتى تشتعل من جديد. فقد شهدت الفترة الماضية عددًا من الإضرابات العمالية في مختلف القطاعات احتجاجًا على سياسات حكومة برليسكوني لـ”الإصلاح الاقتصادي”. ولا يبدو أن هذه الموجة من الغضب سوف تهدأ في وقت قريب. فمحاولات برليسكوني “إصلاح” نظام المعاشات في القطاع العام، والتي تقدم بها في عام 1994 وكانت سببًا في سقوط حكومته الأولى أمام الضغط الشعبي، هي نفسها التي قد تؤدي إلى نفس النتيجة بعد مرور ما يقرب من عشر سنوات.
نظام المعاشات الحالي يسمح للعمال بالحصول على معاش من الدولة بعد أن يقضوا في عملهم 35 عامًا وهو ما يستغله الكثير من الإيطاليين للتقاعد بعد سن السابعة والخمسين. إلا أن برليسكوني يريد أن يغير هذا النظام بحيث لا يستطيع العامل الحصول على معاش التقاعد قبل بلوغه الخامسة والستين أو قضائه أربعين عامًا من العمل. ما يريده برليسكوني إذًا ببساطة هو أن يدفع الإيطاليين للعمل خمس سنوات أخرى بدون مقابل وهو ما أثار غضب العمال في كل مكان وجعلهم على استعداد لعمل أي شيء لمواجهة هذه الهجمة من برليسكوني و”ليبراليته الجديدة”. ولم يكن غريبًا على الإطلاق أن تشير استطلاعات الرأي التي أجرتها صحيفة “ريبابليكا” في أكتوبر الماضي إلى أن 59% من الإيطاليين يؤيدون القيام بإضرابات في كل مكان في مواجهة هذه السياسة، وأن ترتفع هذه النسبة مع مرور الوقت وإصرار حكومة برليسكوني على تنفيذ سياساتها.
وفي أكتوبر الماضي وبعد أقل من 24 ساعة من خطاب ألقاه برليسكوني حول نظام المعاشات إذاعة التليفزيون الإيطالي، قام الإيطاليون بإضرابات عفوية في أكثر من 100 مدينة. وعلى الرغم من نجاح هذه الإضرابات في نقل موقف العمال الإيطاليين بشكل واضح لرئيس الوزراء الإيطالي، إلا أن الكثيرين تعاملوا معها بنوع من التحفظ والتشاؤم متسائلين: ما الذي تستطيع هذه الإضرابات تحقيقه في مواجهة برليسكوني الذي تمكن أثناء فترة حكمه الأخيرة من الصمود بقوة أمام إضراب عام تكرر مرتين وشل حركة البلاد في مواجهة هجماته المتتالية ضد العمال، بالإضافة إلى الإضرابات المتتالية في الكثير من القطاعات والتي أصبح من الصعب عدها أو حتى متابعتها؟
لا شك أن الاقتصاد الإيطالي يمر بأزمة حقيقية بسبب الفساد الذي جعل إيطاليا تحصل على لقب “رجل أوروبا المريض الجديد”. وفي الوقت الذي يصل قيمة ما تنفقه البلاد على المعاشات 14% من إجمالي الناتج المحلي، فإن الرأسمالية الإيطالية تضغط في اتجاه تخفيض أجور العمال وما ينفق على الخدمات العامة والمعاشات على وجه الخصوص لتتمكن إيطاليا من المنافسة بشكل أكثر فاعلية في السوق العالمية وبالتالي تستطيع التخلص من أزمتها.
وفي الوقت الذي يشتد ضغط البرجوازية التي يمثلها برليسكوني على العمال، لا يبدو أن هناك بديل مطروح على الساحة السياسية للحكومة الموجودة. فالأحزاب اليسارية الإيطالية التي تجمعت في تحالف واحد عام 1996، وهو التحالف المعروف باسم شجرة الزيتون، رغم فوزها وقتها في الانتخابات، ما لبثت أن بدأت فور توليها الحكم في تنفيذ سياسات منحازة للرأسمالية وهو ما أصاب العمال بالإحباط ومهد الطريق لعودة برليسكوني من جديد.
وهنا تأتي أهمية الإضرابات التي شهدتها إيطاليا في الآونة الأخيرة والتي كانت إضرابات الأسابيع الماضية مجرد حلقة أخرى منها، حالة الإحباط التي أصابت الشارع الإيطالي بعد فوز برليسكوني في الانتخابات وعودته للحكم سرعان ما انقشعت في مواجهة ما حدث في جنوا عام 2001 مع ميلاد المنتدى الاجتماعي، ومحاولة العمال إعادة تنظيم أنفسهم من خلال تكوين مؤسسات قاعدية ونقابات واتحادات عمالية بديلة أكثر قوة وقدرة على التعبير عنهم والدفاع عن مصالحهم، وقد كانت هذه التنظيمات الجديدة هي نواة الإضراب العام الأول الذي شهدته البلاد والذي شارك فيه أكثر من 12 مليون عامل من بينهم 90% من العاملين في الإمبراطورية الإعلامية التي يملكها برليسكوني نفسه.
والإضرابات الأخيرة التي شهدتها عدة قطاعات أساسية في إيطاليا، على رأسها قطاع النقل والمواصلات، توضح أن أية صفقة أو حل وسط تصل إليه قيادات النقابات العمالية مع الحكومة الإيطالية ولا يرضى عنه العمال، أو يصل إلى مستوى ما يطمحون إليه لن ينجح في تهدئة الأوضاع. وإذا كانت الاتحادات النقابية الثلاثة والتي تضم في مجمل عضويتها 11.2 مليون عامل قد وافقت على حل وسط بشأن رفع المرتبات في نهاية لعام الماضي فإن ضغط أعضاء هذه النقابات هي التي تدفع قياداتها الآن إلى الدخول في مفاوضات جديدة مع الحكومة من أجل زيادة أكبر في الأجور.
وما يحدث في إيطاليا الآن ليس إلا جزء من التغير الذي تمر به الطبقة العاملة في أوروبا الغربية بشكل عام، بعد أن اكتشفت أنها هي الضحية الأولى لليبرالية الجديدة والنظام العالمي الجديد، وأنها هي وحدها القادرة على الدفاع عن حقوقها. ففي البرتغال قام عمال القطاع العام بإضراب عام لمدة يوم واحد شارك فيه مئات الآلاف احتجاجًا على مشروع الحكومة تجميد المرتبات في الفترة القادمة، وذلك في محاولة منها الالتزام بالميزانية التي يتعين على دول الاتحاد الأوروبي الالتزام بها. هذا بالإضافة إلى الإضرابات التي تشهدها فرنسا وبريطانيا وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي ضد سياسات لا تختلف عن تلك التي يتبناها برليسكوني في إيطاليا.
ليست المرة الأولى، كما أنها بالقطع لن تكون الأخيرة، التي يثبت فيها الحكام العرب أن هدفهم الأول والأخير والوحيد هو البقاء في كراسي الحكم، ولو تطلب ذلك الاستسلام التام للإمبريالية، وفقدان ماء الوجه، والظهور في أدنى صور الإذلال أمام الشعوب. غير أن الجديد هذه المرة أن ذلك يحدث في نظامين ظلا حتى وقت قريب – وربما حتى هذه اللحظة – يرددان شعارات العروبة والقومية ويقدمان أنفسهما باعتبارهما أكثر النظم العربية انشغالاً بالقضية الفلسطينية وصمودًا في مواجهة إسرائيل. لكن ذلك لا يبدو غريبًا بالنظر إلى طبيعة هذه النظم والتطورات التي حدثت مؤخرًا في المنطقة.
استمر النظام الليبي لمدة خمسة وثلاثين عامًا يمارس احتكارًا كاملاً للسلطة، ولا يسمح بوجود الحد الأدنى من هامش الحرية. وكشأن العديد من نظم العالم الثالث قام نظام القذافي – الذي وصل إلى السلطة عبر انقلاب عسكري في 1969 – بتأميم النفط وإجراء إصلاحات اجتماعية. رافعًا شعارات “الاشتراكية” و”الوحدة العربية” ومستندًا إلى تأييد الاتحاد السوفييتي السابق. غير أنه خلافًا للنظم المثيلة في العالم العربي، قام النظام الليبي بتجربة فريدة في الحكم أسماها “الجماهيرية” تم بمقتضاها منع وجود الأحزاب السياسية، ومنع وجود برلمان بالشكل المتعارف عليه، وذلك بزعم أن السلطة تتم ممارستها بشكل مباشر عبر المجالس الشعبية المفترض أنها تعبر عن إرادة الجماهير!!
في ظل هذا النظام حظي القذافي بسلطة مطلقة، وقام الحرس الثوري ولجان التطهير بممارسة أقصى درجات العنف في مواجهة المعارضة، بالاعتقال والتعذيب والقتل. وكان العنف الذي واجهته مظاهرات الطلبة عام 1977 دليلاً على الوحشية التي يتعامل بها النظام مع أي احتجاج جماهيري. مع نهاية الحرب الباردة وتفاقم الأزمة الاقتصادية الناجمة عن انهيار أسعار النفط، وفشل رأسمالية الدولة في تحقيق التنمية، اتجه النظام الليبي نحو سياسة تحرير الاقتصاد دون أن ينسحب على النظام السياسي الذي ظل يمارس احتكار السلطة والقهر، ومن ثم لم يكن غريبًا أن تمتد فكرة التوريث التي شاعت مع بداية القرن الحادي والعشرين في عدد من النظم العربية إلى ليبيا.
في سوريا، لا يختلف الأمر كثيرًا، حيث ظل حزب البعث محتكرًا للسلطة منذ عام 1963، وحتى اليوم، في إطار نظام شكلي من المشاركة في السلطة عبر جبهة تضم عدد من الأحزاب المتحالفة مع البعث. وفي ظل نظام الأسد الذي امتد منذ عام 1971، تم توجيه أقسى درجات القمع للمعارضة وهو ما تجلى في أحداث حماة التي قتل فيها ما يزيد عن 20 ألف من الإخوان المسلمين عام 1982. وإذا كانت سوريا هي النظام العربي الوحيد الذي نجحت في تجربة التوريث عمليًا، فقد واجه نظام بشار أوضاعًا بالغة التعقيد نتيجة للظروف الدولية غير المواتية، المتمثلة في هيمنة الإمبريالية الأمريكية – وبالتالي إسرائيل – على المنطقة، إضافة إلى الضغوط الناتجة عن الأزمة الاقتصادية وفشل الاقتصاد المخطط. في ظل هذا الوضع، لم يعد متاحًا المراهنة على التناقضات الدولية، واستغلال الورقة الفلسطينية واللبنانية، وهو ما كان يمثل مصادر قوة لنظام حافظ الأسد.
في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر، وإعلان أمريكا “الحرب على الإرهاب”، أبدت هذه النظم تعاونًا مخلصًا عبر تقديم معلومات عن عناصر وأنشطة تنظيم القاعدة، وهو ما أثار استحسان الإدارة الأمريكية، كما ظهر خلال التصريحات المتكررة للمسئولين الأمريكيين. غير أن الإطاحة بنظام صدام حسين مثل تطورًا جديدًا في علاقة الإمبريالية الأمريكية بالمنطقة، وهو قيامها بالإطاحة بنظام عربي عبر التدخل العسكري المباشر. ومن ثم كان على النظم التي لم تعلن استسلامها الكامل بعد، أن تسارع في الإذعان قبل أن تلقى نفس المصير.
لذا أعلنت ليبيا عن تخليها عما أسمته بمساعيها للحصول على أسلحة للدمار الشامل. رغم إعلان وكالة الطاقة الذرية نفسها أن ليبيا لا زالت بعيدة جدًا عن تحقيق هذا الهدف، ثم انكشاف الصلات السرية بين مسئولين ليبيين ونظرائهم من الإسرائيليين. وبنفس المنطق يمكن تفسير الإلحاح المتكرر للنظام السوري في استئناف المفاوضات مع إسرائيل رغم القصف الإسرائيلي للأراضي السورية في أكتوبر الماضي، وكذلك “التعاون” السوري لمنع عناصر المقاومة للاحتلال الأمريكي من التسلل إلى الأراضي العراقية عبر الحدود السورية.
إن الاستسلام الذي أبدته ليبيا وسوريا مؤخرًا يأتي تتويجًا لعملية طويلة من المصالحة مع الإمبريالية، ولا يمكن فهمه إلا في ضوء حقيقتين: أولهما فشل النظم القومية المستندة إلى رأسمالية الدولة في تقديم حلول جذرية للجماهير العربية سواء على صعيد التنمية أو الديموقراطية أو مواجهة الإمبريالية والصهيونية. أما الثانية، فهي استبداد وديكتاتورية هذه الأنظمة، التي تجعلها على استعداد للتراجع الكامل عن كل ما طرحته من شعارات براقة عبر العقود الماضية، لأنها لا يمكن أن تتصور الخروج من السلطة.