الانسحاب من أفغانستان:
هزيمة جديدة للإمبريالية

انسحابٌ آخر مُذِل تجرُّ فيه القوات الأمريكية أذيال الهزيمة عائدةً من أفغانستان بعد الاتفاق الذي أبرمته مع حركة طالبان في الدوحة، 29 فبراير الماضي، والذي يقضي بسحب القوات الأمريكية والبريطانية وقوات الناتو من الأراضي الأفغانية في غضون 14 شهرًا.
يأتي الاتفاق، الذي تصفه الإدارة الأمريكية بـ”التاريخي”، لينهي أطول الحروب الأمريكية وواحدةً من تلك الحروب التي استنزَفَت الإمبريالية ولم تُحقِّق فيها مآربها. لعلَّ ما أراده ترامب من هذا الاتفاق هو تعزيز موقفه الانتخابي بالانسحاب من حربٍ لا طائل منها، لكن الانسحاب يكشف فشلًا ذريعًا أجبر ترامب نفسه على الاعتراف بأن الولايات المتحدة عاجزةٌ عن تحقيق النصر في أفغانستان.
منذ أكثر من 18 عامًا، حين شنَّ المحافظون الجدد في الولايات المتحدة، بزعامة جورج بوش الابن، حربهم على أفغانستان، انطلقت أبواقهم وأجهزتهم الدعائية في كلِّ مكان للترويج لنعيم الحرية والديمقراطية والرخاء وتحرُّر المرأة الذي ستجلبه الطائرات المقاتلة والجنود المُدجَّجون بالسلاح إلى أحد أفقر بلدان العالم، أفغانستان. لم يتحقَّق أيٌّ من ذلك، ببساطة لأن ذلك لم يكن من الأصل هو الهدف من الحرب، ولأن مليارات الدولارات لا تُنفَق على الدرونز والصواريخ والمُدرَّعات من أجل الحرية أو الديمقراطية.
جاءت الحرب في أكتوبر 2001 في إطار مشروعٍ أكبر لتدشين “قرن أمريكي جديد” تؤكِّد فيه الإمبريالية الأمريكية على هيمنتها العسكرية، بالمثل كما الاقتصادية، وتمد فيه أذرعها إلى بقاعٍ شتى من العالم. في الإطار نفسه أطلقوا حملتهم العسكرية لغزو العراق في 2003. وهنا أيضًا تكرَّرَت الدعاية نفسها، فيما لم تؤدِ الحرب إلا إلى ويلات الدمار والخراب والفقر والقتل والتهجير لمئات الآلاف من المواطنين الأفغان والعراقيين.
تكبَّدَت الولايات المتحدة خسائر هائلة في أفغانستان. وما توقَّعه صقور المحافظين الجدد في بداية الحرب بأنهم سيجدون طريقهم مفروشًا بالورود سرعان ما تحوَّلَ إلى العكس فسقطوا في مستنقعٍ محفوفٍ بالأفخاخ والألغام. تقول الأرقام الرسمية الصادرة عن البنتاجون إن الولايات المتحدة أنفقت 760 مليار دولار منذ بداية الحرب حتى مارس 2019، لكن الأرقام بالتأكيد أكبر من ذلك بكثير، إذ تُسقِط تقديرات البنتاجون العديد من بنود الإنفاق، مثل الميزانيات المُخصَّصة للجرحى العسكريين، والفوائد الطائلة على القروض التي تلقَّتها الحكومة الأمريكية لسدِّ نفقات الحرب (تقدِّر دراسةٌ أجراها مشروع تكلفة الحرب بجامعة براون الأمريكية أن الإنفاق تجاوز التريليون دولار). مئات المليارات من الدولارات حُرِمَ منها الشعب الأمريكي نفسه وذهبت إلى خزائن كبرى شركات السلاح.
أما عن الخسائر البشرية، فقد فَقَدَت الإمبريالية خلال الحرب 3200 جندي من قواتها راحوا قتلى في المعارك. ربما يبدو العدد قليلًا مقارنةً بطول مدة الحرب من ناحية، والخسائر البشرية التي تكبدَّتها الإمبريالية الأمريكية في حروبٍ أخرى مثل حرب فيتنام. لكن المقياس الأدق لشراسة العمليات ضد القوات الأمريكية في أفغانستان يمكن تقديره من خلال عدد المصابين وليس القتلى. فنظرًا لتحسُّن الرعاية الصحية للمصابين وجودة الدروع المُستَخدَمة، فقد قلَّ عدد القتلى كثيرًا عن عدد المصابين الذي بَلَغَ 20500. نجد هنا أن نسبة القتلى إلى المصابين في حرب أفغانستان تبلغ 1 إلى 6، وهي نسبةٌ أكبر من تلك التي كانت في حرب فيتنام: 1 إلى 3 (لكن أقل من النسبة في حرب العراق: 1 إلى 8).
إذا كانت الخسائر في صفوف القوات الأمريكية فادحة، فقد ألحَقَت هذه القوات بالشعب الأفغاني خسائر أفدح بما لا يمكن مقارنته. ارتكبت الإمبريالية الأمريكية جرائم بشعة في حقِّ هذا الشعب وصلت، بحسب الأمم المتحدة، إلى قتل وإصابة أكثر من 100 ألف من أبنائه المدنيين خلال العقد المنصرم فقط. وفي العام 2016، قدَّرَت الأمم المتحدة أن عدد اللاجئين الأفغان جراء الحرب وصل إلى 650 ألف أفغاني.
رغم كلِّ هذه الفظائع، لم تحقِّق الإمبريالية الأمريكية حتى أبسط أهدافها المُعلَنة باجتثاث حركة طالبان من جذورها، وكلُّ ما حقَّقَته فعلًا هو تنصيب حكومة، هي الآن برئاسة أشرف غاني، تسيطر بالكاد على نصف الأراضي الأفغانية.
تجاهَلَ الكثيرون الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، بينما تعلَّل البعض بأن الأمر لا يستحق الانتباه لأن مَن قاد المقاومة ضد القوات الأمريكية وحلفائها هي حركة طالبان الإسلامية الرجعية. لم تكن طالبان تتمتَّع بدعمٍ شعبي كبير في العام 2001 حين بدأ الغزو، لكنها دعت منذ البداية، مع حركات إسلامية أخرى، إلى مقاتلة الاحتلال الأمريكي، فصارت شيئًا فشيئًا تحظى بتأييدٍ جماهيري هائل، خاصةً في مناطق البشتون، رغم سياساتها القمعية والرجعية في المجتمع الأفغاني. منذ عقودٍ طويلة مَضَت كان الشيوعيون والنسويون الأفغان هم من يملأون هذه المساحة الجماهيرية، لكنهم تركوها خاويةً أمام القوى الإسلامية بسلسلةٍ من الأخطاء الإستراتيجية الكارثية كان أبرزها على الإطلاق تأييد غزو الاتحاد السوفييتي لأفغانستان (1979 – 1989) لدعم حكومة ستالينية آيلة للسقوط. وللأسف كان هذا الموقف كفيلًا بتحطيم مصداقية اليسار لأجيالٍ قادمة. تسبَّب ذلك الغزو خلال عقدٍ كاملٍ من الزمن في قتل نصف مليون مدني، علاوة على ملايين من النازحين واللاجئين إلى باكستان وإيران وغيرهما.
لكن الأهم هو أن كلَّ انسحابٍ وتراجعٍ للإمبريالية هو تقويضٌ إضافيّ لجبروتها وسطوتها على العالم، وكلُّ تقويضٍ من هذا النوع هو شرخٌ في جدران أباطرة الحرب والسلاح وناهبي وقاتلي الشعوب.