مشروع نيوم: المستقبل الجديد يمر فوق جثثنا

ما بيننا.. وبينكم.. لا ينتهي بعامْ
لا ينتهي بخمسةٍ.. أو عشرةٍ.. ولا بألفِ عامْ
طويلةٌ معاركُ التحريرِ كالصيامْ
ونحنُ باقونَ على صدوركمْ..
كالنقشِ في الرخامْ..
نزار قباني
في قرية الخريبة، إحدى قرى شماليّ السعودية، تحديدًا في منطقة تبوك التي يشملها مشروع نيوم، هناك في تلك القرية الهادئة استشهد المواطن السعودي عبد الرحيم الحويطي وهو يقاوم قوات الأمن رافضًا التنازل عن بيته وأرضه خلال عملية التهجير القسري التي قامت بها الدولة في تلك المنطقة بهدف إنشاء مشروع الخيال العلمي، نيوم.
استشهد مهندس الجيولوجيا الفيزيائية الشجاع بالذخيرة الحية على يد رجال الأمن في 15 أبريل الماضي لأنه رفض أن يُنتَزَع عنوةً من جذوره وتاريخه، في مشهدٍ أعاد لذاكرتي صورة المناضل الفلسطيني باسل الأعرج وهو يقاوم قوات الاحتلال الصهيوني، فتذكرت حينها مقولته الشهيرة: “عش نيصًا، وقاوم كالبرغوث”!
ولابد أن أذكر هنا أيضًا أنني شرعت بكتابة هذا المقال بعد نبأ استشهاد الحويطي ولكني توقفت أو توقف بي الزمن بعد خبر استشهاد آخر للمناضل الحقوقي البارز عبد الله الحامد في الرابع والعشرين من شهر ابريل، توفي الحامد في المعتقل نتيجة تعرضه للإهمال الطبي المتعمد، ليرسم نهر الحقوقي البطل مجراه في التاريخ كأحد فصوله التحررية في أرض الجزيرة.
سقط الحامد مقاومًا عتمة السجن والواقع، وسقط الحويطي متشبثا بأرضه.. ذاكرته ووطنه الصغير، وهناك في الضفة الأخرى للاستبداد سقط شهيدًا في المعتقل الشاب المصري شادي حبش ليتكامل المشهد وتتكرر المآسي التي مازلنا نعيشها منذ هزيمة ربيعنا العربي.
الحكاية
تعيش قبيلة الحويطات على امتداد قرى الخريبة والهرمل حيث جذورها تمتد إلى ألف عام في العمق من تاريخ الجزيرة العربية وماقبل الحكم العثماني، شاركت القبيلة في الثورة العربية الكبرى وقامت بطرد الأتراك في عشرينيات القرن المنصرم.
بدأت مفاوضات الدولة مع القبيلة منذ بداية العام الحالي حيث قامت لجنة نزع الملكية بزيارة قرية الخريبة والتحدث مع الأهالي بشأن التنازل عن أراضيهم مقابل تعويضات مالية ،كان الشهيد الحويطي متواجدًا أثناء اللقاء وعبر بشكل مباشر عن رفض القبيلة القاطع التخلي عن بيوتهم وأراضيهم.
يروي النشطاء أنه في أثناء وصول اللجنة المعنية فوجئوا بالشعارات التي ملأت القرية وعبرت عن رفض التهجير، شعار “لن نرحل” كان مكتوبًا على الجدران، ولسبب ذلك افتعل رجال المباحث صدامًا مع الأهالي اعتُقِلَ على إثره ثلاثة أفراد من القبيلة.
بعد هذا الحدث بأيام دُشِّنَت حملة مداهمات طالت مجموعة من منازل القرية واعتُقِلَ 9 أشخاص إضافةً إلى الاعتداء على النساء بالترهيب والقمع، بعدها فرض النظام حصارًا على قريتيّ الخريبة والهرمل، وقام بقطع الغذاء والماء عن الأهالي والمعتصمين الرافضين لقرار الترحيل. ونتيجة لذلك، ابتدأت في 10 أبريل مطالبات من شباب قبيلة الحويطات بثورة ضد النظام.
إلى وقت كتابة هذا المقال أُعلِنَ البدء في صرف التعويضات المالية لأهالي المهجرين قسريًا بدون أيِّ إشارة إلى هيكيلية تلك التعويضات أو قيمتها، استنكر أحد أفراد قبيلة الحويطات، وهو محمد الحويطي، على حسابه بمنصة تويتر عن القيمة الحقيقية لتلك التعويضات بدون حتى اعلان او تفاوض بخصوص أسعار الأراضي في تلك المنطقة.
في مشهد مشابه من التاريخ القريب وفي عام 2017 حيث يحب التاريخ أن يعيد إنتاج أحداثه “كثيرًا” تحت حكم الاستبداد اقتحمت القوات الأمنية قرية المسورة التاريخية في العوامية والتي تعود جذورها الى 300 سنة بعد ان طالبت سكانها بالرحيل القسري عن أراضيهم، ظاهريًا لإقامة مشروع رأسمالي لتحديث المنطقة، وفعليا لإسدال الستار على الحقبة الثورية وانتفاضة القطيف التي تعد المسورة معقلها الرئيسي.
قاوم أبناء المسورة عمليات الهدم والتجريف ليسقط بعضهم بين شهيد ومعتقل، ويشرد الأهالي من الجغرافيا والتاريخ والذكريات.. تمامًا كما حدث اليوم مع قبيلة الحويطات!
“نيوم موقع ومكان للحالمين الذين يريدون خلق جديد في هذا العالم”
محمد بن سلمان، اكتوبر 2017
أطلق محمد بن سلمان “عراب التحديث” كما تطلق عليه رموز البرجوازية الوطنية فكرة مشروع مدينة المستقبل الجديد نيوم عام 2017 كجزء من رؤية 2030 والتي تشكل مرحلة التحول الرأسمالي وتكوين بنية الدولة البرجوازية الجديدة والتي تعتمد بشكل أساسي على رأس المال الاستثماري.
مشروع نيوم العابر للحدود هو أهم تجليات الحقبة الاستثمارية الحالية، والذي يهدف لإقامة منطقة حرة مستثناة من القوانين الاعتيادية في الضرائب والعمل والجمارك على غرار مدينة جبل علي في الإمارات.
يغطي المشروع مساحاتٍ شاسعة تشمل أراضٍ داخل الحدود المصرية والأردنية، ويمتد فوق أكثر من 26 ألف كيلومتر مربع على ساحل البحر الأحمر شماليّ غرب المملكة، حيث منطقة تبوك السعودية التي تطل أيضًا على ساحل خليج العقبة، ويمكننا من نيوم أن نشاهد العدو الصهيوني على مدِّ النظر في مدينة إيلات المحتلة. ونستطيع أيضًا أن نفسر لماذا لم يعد التطبيع أفكارًا عائمة عن التعايش تطرحها آلة الدولة الرسمية وغير الرسمية، بل هي جزءٌ أساسي في عملية التحوُّلات الرأسمالية الحالية وتطبيقٌ فعلي لمعاهدات منظمة التجارة العالمية.
تُموَّل أول مدينة رأسمالية في العالم عبر صندوق الاستثمارات العامة السعودي بـ500 مليار دولار، والمدينة الخيالية تقدم للبشرية حلولًا مبتكرة للطاقة والتكنولوجيا والغذاء والترفيه، وتقوم بالكامل على الخلايا الضوئية والروبوتات.
ولكون نيوم تشمل أراضٍ من جنوب سيناء فقد انشأت مصر والسعودية صندوقًا بقيمة 10 مليارات دولار لتطوير وتنمية أراضٍ بمساحة تزيد عن ألف كيلومتر مربع تضم شرم الشيخ والغردقة ولبناء جسر الملك سلمان العابر لخليج العقبة والذي يمر فوق الجزيرتين المصريتين تيران وصنافير اللتين تم التنازل عنهما للسعودية لصالح هذا المشروع.
وهنا أريد أن أقدم رسالة تضامن مع الشعب المصري ومع رفاقي هناك في دفاعهم عن حق استرداد الجزيرتين وأقول لهم إن هذا المشروع يمر فوق جثثنا أيضًا.. فالنضال واحد والحدود تراب!
استشهاد عبدالرحيم الحويطي
بالتزامن مع عملية المفاوضات والتهديد والاعتقالات، كان عبد الرحيم الحويطي قد انتقد في عدة تسجيلات سبقت اغتياله النظام القائم والطبقة المسيطرة بقيادة محمد بن سلمان، كما انتقد المؤسسة الدينية وعلمائها الذين وصفهم بالجبناء في مسائل الدفاع عن الإنسان وكرامته، وانتقد أيضًا ادعاءات الدولة في إدارة الأزمة الصحية المتعلقة بوباء كورونا حيث تنشر قوتها الأمنية وجيوشها في قرى الحويطات من غير الاكتراث لأي إجراءات احترازية.
صرَّح الحويطي في أحد التسجيلات أنه يمتلك بيته بصكٍّ شرعي، وقال: “إذا بعت بيتي فقد بعت وطني” وناشد القانونيون والحقوقيون بالوقوف مع قضيته ومساعدته في رفعها للمحاكم الدولية.
في آخر تسجيل له يوم استشهاده صرح بأنه باقٍ على أرضه وفي بيته بانتظار القوات الأمنية حتى لو أدى ذلك لمقتله وهذا ماحدث بالفعل في اليوم الحزين للثالث عشر من شهر أبريل الماضي.
في 15 أبريل أعلنت رئاسة أمن الدولة مقتل المواطن “المطلوب” عبد الرحيم الحويطي بعد تبادل لإطلاق النار حيث صرح البيان أن المواطن قاوم الأمن أثناء محاولة القبض عليه، وعُثِرَ في بيته على العديد من الأسلحة!
كالعادة يبرر قتل المواطنين عبر البيانات المفبركة والقوائم الكاذبة. إن من يطالب بحقه ويقاوم القمع والاستبداد على هذه الأرض نهايته الوحيدة هي القتل العلني والمبرر!
تحت سقف استراتيجية الموت هذه، تم اصدار قوائم بحق ابناء القطيف لتبرير تصفيتهم واعتقالهم، بدأ من قائمة المطلوبين عام 2003 وحتى آخر قائمة عام 2019 والتي تشمل المطلوبين التسعة، وبنفس الأداء الأمني القذر تُنفَّذ الاغتيالات عبر مداهمات وكمائن، وتتبعها البيانات الرسمية التي تعلن الموت عقابًا وحيدًا لمن يحلم بالعيش إنسانًا حرًّا وكريمًا! ومن هنا نقول وسنقول دائمًا إننا لن نتوقف عن الحلم.
“سيثبت التاريخ يومًا أن البقاء دائمًا للشعب هو الأزل وهو الأبد، وكل شيء آخر ساقط وسيسقط، لأنه رغم القتل، والكذب، وحملات التشوية والتشهير والتنكيل، يبقى أن هناك شرارة اشتعلت في نبض وأصوات النساء والرجال الذين يقضون يوميًا على مذابح الحرية، ولا يزالون\ن مستمرين\ات بالنضال والمواجهة، لأن العودة إلى الوراء باتت مستحيلة، ولم يبق مسار سوى مسار انتصار النضال الثوري على وحوش القمع والبطش والاستغلال والطائفية والعنصرية والذكورية، انتصار لن يأتي من الله بل سوف يأتي بالأيدي التي تصنعه يوما بعد يوم دون كلل او ملل!”
باسم شيت