عالم ما بعد الجائحة

وصفت الروائية الهندية أرونداتا روي جائحة كورونا كبوابةٍ بين عالمين: العالم الذي كشفت الجائحة تناقضاته ونواقصه وعالم ما بعد الجائحة بكل ما يطرحه من مخاوف وإمكانيات.
الجائحة ستنتهي عاجلًا أو آجلًا، ولكن كيف سيكون شكل العالم بعد كورونا؟ ما هي الأسئلة الملحة التي ستفرض علينا بعد هذه المأساة الإنسانية بكل ما فيها من إجرام وإهمال وتربح وظلم؟
السؤال الأول حول المنظومة الصحية
كيف تُدار هذه المنظومة؟ ولصالح من؟ رأينا خلال الشهور الماضية كيف فشلت الدول الرأسمالية الغنية والفقيرة، المتقدمة والمتخلفة، في إدارة الأزمة الصحية، وكيف أضعفت عقودٌ من الليبرالية الجديدة قطاعات الصحة، وكيف تقلَّص الإنفاق العام على الصحة في مقابل توسُّع دور الشركات الخاصة العملاقة سواء في إدارة وملكية المستشفيات أو الأدوات الطبية أو الدواء. كانت نتيجة كل ذلك موت الملايين، غالبيتهم العظمى من الفقراء، في حين حقَّقَت الشركات الكبرى في المجال الطبي أرباحًا ضخمة. لعل أول المهام الملحة بعد هذه المأساة ستكون محاسبة تلك الحكومات وشركائهم الرأسماليين الكبار على هذه الجريمة التاريخية. وثاني المهام لابد أن تكون النضال من أجل فرض منظومة صحية عامة تُصان فيها حقوق وكرامة وصحة الأطقم الطبية المرضى، والقضاء نهائيًا على دور الشركات الخاصة في قطاع الصحة، ومضاعفة الإنفاق الحكومي على هذا القطاع الحيوي.
السؤال الثاني حول الأزمة الاقتصادية
كشفت الجائحة عن مدى هشاشة النظام الرأسمالي العالمي. لقد دخلنا في ما أسماه المحلل الاقتصادي نوريل روبيني بـ”الكساد الأكبر”. وهذه المرة الثانية في عقدين التي يُصاب فيها الاقتصاد العالمي بالسكتة القلبية. وليس صحيحًا أن انتهاء الجائحة سيؤدي إلى عودة الانتعاش الاقتصادي. فما تفعله البنوك المركزية اليوم من ضخ الأموال في الاقتصادات يتم من خلال الاقتراض على مستويات غير مسبوقة، حتى مقارنةً بإقراض الدول الكبرى خلال الحرب العالمية الثانية. والسؤال المركزي الذي سيواجهنا جميعًا بعد الجائحة سيكون: من الذي سيدفع ثمن تلك الديون العامة؟ الدول تقترض لإنقاذ الشركات الرأسمالية وليس لصالح العمال الذين يُدفَعون بمئات الملايين لصفوف جيش العاطلين. وكما حدث بعد أزمة 2008 المالية، ستحاول الحكومات فرض سياسات تقشفية على الطبقات العاملة لتقليص الديون العامة، أي سيحاولون مجددًا إنقاذ الرأسمالية وأرباح كبار الرأسمالية على حساب حياة ومعيشة وصحة الغالبية العظمى. هذا يعني أننا سنواجه خلال الأعوام القادمة معارك طبقية ضخمة لوقف مصاصي الدماء هؤلاء من إجبارنا مجددًا على دفع ثمن أخطائهم وسوء إدارتهم وإجرامهم وجشعهم.
السؤال الثالث حول العولمة الرأسمالية
هل ستنتهي تلك العولمة ونعود إلى الصراع بين رأسماليات قومية أو إقليمية؟ شهد الاقتصاد العالمي خلال العقد الأخير من القرن الماضي وحتى أزمة 2008 اندماجًا على مستويات الإنتاج والتجارة والاستهلاك. كانت نتيجة ذلك الاندماج هو الاعتماد المتبادل بين الاقتصاديات الكبرى والتداخل بينها، بحيث أصبحت الاقتصادات الأمريكية والأوروبية والصينية أجزاءً من شبكة رأسمالية معقدة ومتشابكة. ولكن تلك المنظومة بدأت في التفكك بعد أزمة 2008، ورأينا صعود القومية الاقتصادية والدعوة للانغلاق الاقتصادي والصراع بين الكتل الاقتصادية الكبرى (خاصة أمريكا والصين). وقد جاءت الجائحة لتعمِّق بشكل غير مسبوق ذلك الصدع في مسار العولمة. وقد أصبح الحديث اليوم يدور حول ضرورة عدم الاعتماد على شبكات الإنتاج العالمية المتداخلة وضرورة استقلال الاقتصاد الأمريكي، على سبيل المثال، عن الصناعة الصينية، وهي المغذي الأول للسوق الأمريكي سواء الإنتاجي أو الاستهلاكي. وبالطبع ستحاول الحكومات والشركات تحميل تكلفة هذا التغير على أكتاف الطبقات العاملة. فعلى سبيل المثال، عودة القطاعات الصناعية المغذية من الصين إلى أمريكا سيزيد من تكلفة العمالة وبالتالي سيدفع الشركات للاعتماد على الروبوتات ودفع العمال الأمريكيين إلى صفوف البطالة، في حين سيعني أيضًا زيادة البطالة في الصين في القطاعات التي سينسحب منها رأس المال الأمريكي. وهذا مجال آخر للصراع الطبقي، حتى لا تدفع الطبقات العاملة ثمن القومية الاقتصادية كما دفعت من قبل ثمن العولمة الرأسمالية.
هناك بالطبع جانب أيديولوجي وسياسي لهذا التحول. فصعود القومية على المستوى الاقتصادي يوازي صعودًا للقومية والشوفينية على المستوى السياسي والأيديولوجي. والقومية هي السلاح المفضل للطبقات الحاكمة والحكومات لشق صفوف الطبقات العاملة ولخلق حالات اصطفاف بينها وبين حكوماتها في مواجهة حكومات وشعوب الدول الأخرى و”أعداء الوطن” بالداخل. وكلما انكشفت حالات الفشل وسوء الإدارة في الأزمة الحالية، ستلجأ الأنظمة لسلاحها المفضل هذا. يعني كل ذلك أن السنوات القادمة ستحتاج لرفع رايات التضامن الأممي في مواجهة الهلوسة الوطنية التي تجتاح العالم.
والجانب الآخر الملازم للهلوسة الوطنية هو العنصرية التي تستخدمها الأنظمة لحرف الغضف الشعبي بعيدًا عنها. فنجد خلال الجائحة الحالية تحريض الهندوس على المسلمين في الهند، والبيض على السود في أمريكا، والأوروبيين على اللاجئين العرب والأفارقة في أوروبا، إلخ. ولا شك أن هذا الاتجاه سيتزايد في مصر أيضًا مع استمرار الأزمة الصحية وتأثيراتها الاقتصادية المدمرة، سواء العنصرية ضد اللاجئين السوريين والأفارقة أو في شكلها الأخطر بين المسلمين والمسيحيين. لن يحمينا من كل ذلك إلا كفاحٌ منظم ضد كافة أشكال التمييز العنصري والديني ضد أنظمة وأجهزة لا توجد حدود لما يمكن أن تفعله للبقاء في السلطة.
الاستعداد للمستقبل
ربما كانت مسألة مستقبل اليسار وضرورة الاستعداد لمعارك ما بعد كورونا هو السؤال الأكثر إلحاحًا وأهمية على الإطلاق. المعارك قد بدأت بالفعل في المدن الأمريكية. انتفاضة جماهيرية جبارة في أكثر من 70 مدينة ضد شرطة وحكومة ورئيس يميني عنصري يقتل الشباب الأسود الفقير بشكل منهجي. لابد من ملاحظة أن هذه الانتفاضة ليست مجرد رد فعل لجريمة قتل جورج فلويد. فهذه أكبر وأخطر مظاهرات تشهدها المدن الأمريكية منذ اغتيال مارتن لوثر كنج في 1968. المظاهرات الحالية تحدث في سياق أزمة كورونا والتي قتلت عشرات الآلاف من فقراء السود ودفعت الملايين منهم لصفوف جيش العاطلين (تجاوز عدد العاطلين في أمريكا 40 مليون)، في حين يحقق المليارديرات والشركات الكبرى أرباحًا خيالية، وترتفع البورصات بالتريليونات التي تضخها الحكومة والاحتياطي الفيدرالي في الأسواق. هذا هو السياق، فنحن نشهد بدايات انفجار الغضب الجماهيري ضد كل ما يمثله ترامب وشركاؤه سواء المحليين أو العالميين. هذا الانفجار، أيًّا كانت نتائجه المباشرة أو حتى إمكانيات استمراره، يمثل بداية لموجات من المقاومة ستمتد لمختلف أنحاء العالم.
لقد أثبتت الأزمة الحالية على المستوى العالمي أن النظام الرأسمالي بحكوماته وشركاته لم يفشل فقط في حماية صحة وحياة الناس، بل أنه مستعد للتضحية بهم من أجل عجلة الإنتاج المقدسة، ذلك الصنم الذي يعبدونه ويصلون له كل صباح ومساء. ولن يكتفي هؤلاء بذلك، بل سيحاولون إجبارنا على دفع ثمن فشلهم من خلال التقشف والتشريد والإفقار بعد انتهاء الجائحة وسيفعلون كل ما بوسعهم لكسر المقاومة سواء بشكل مباشر بالسلاح والسجون والمحاكم، أو بشكل غير مباشر بالتحريض القومي والعنصري والطائفي.
لقد طرحت أرونداتا روي فكرة أن الجائحة الحالية تمثل بوابةً بين عالمين: عالم قائم على الاستغلال والظلم والإفقار وعالم آخر ممكن قائم على التضامن والمساواة والحفاظ على الطبيعة. فإما العمل اليوم على بناء ذلك البديل وإما القبول بمستقبل من الجوائح والكوارث البيئية والحروب والبطالة والفقر في خدمة أرباح رأس المال.