نفاق «التضامن» الغربي مع أوكرانيا

اتَّضح أن مقاومة الغزو والاحتلال الأجنبي، جنبًا إلى جنب مع فرض العقوبات وغيرها من الإجراءات التي تستهدف الدول التي تشن مثل هذا الغزو، أمورٌ جيدة في نهاية المطاف. لابد فقط أن يكون الهدف عدوًا للغرب مثل روسيا، وليس عميلًا له مثل إسرائيل.
أثارت الصور المروِّعة والدمار الذي حلَّ بأوكرانيا جرَّاء الغزو الروسي فزعًا واسع النطاق، صاحبه تعاطفٌ وتضامنٌ مع الشعب الأوكراني. وهذا الشعور يحفِّزه الإعلام الغربي والساسة الغربيون. كلُّ قصةٍ مروِّعة سرعان ما تتفشَّى على صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون في الغرب. وأصبح الأوكرانيون، وهم يعدون زجاجات المولوتوف لرميها على المدرعات الروسية، يُصوَّرون باعتبارهم مقاومةً شعبيةً بطولية.
لكن، كما شهدنا مرارًا على مدار العقود الماضية، حين تُرتَكَب نفس جرائم القتل والدمار هذه على الفلسطينيين في غزة أو الضفة الغربية، يدير الغرب ظهره في أفضل الأحوال، أو يعمل كبوق دعاية للحكومة الإسرائيلية في أسوأها. وحين نشاهد صبيةً فلسطينيين يلقون الحجارة على قواتٍ إسرائيلية تحتل بلدهم، بالقطع لا يصوِّر الإعلام الغربي ذلك باعتباره حركة مقاومة “بطولية”.
وكما تراهم القوى الغربية، فإن الأوكرانيين يمثِّلون ذلك النوع “الحق” من ضحايا الغزو والاحتلال، بينما الفلسطينيون ليسوا كذلك.
ماذا عن الكيان الصهيوني؟
لكن أكثرية الناس في أغلب البلدان في العالم اليوم مُتَّسقين مع أنفسهم. هناك تعاطفٌ ودعمٌ واسع النطاق مع شعب أوكرانيا في نضاله ضد الغزو الروسي، وبالمثل، تُظهِر استطلاعات الرأي دعمًا متزايدًا للنضال الفلسطيني ضد الاحتلال الوحشي لدولة الفصل العنصري.
يكمن النفاق على مستوى الإعلام والقادة السياسيين الغربيين. بالنسبة لهم، فإن إظهار التضامن مع الأوكرانيين، ودعم ذلك بإجراءاتٍ مثل العقوبات هو شيء، بينما إظهار التضامن مع الفلسطينيين شيءٌ آخر تمامًا.
لنقارن بين موقفهم من العقوبات التي تستهدف روسيا، وموقفهم أيضًا من تلك الإجراءات التي تدعو لها حركة مقاطعة إسرائيل (بي دي إس -المبادرة التي انطلقت في العام 2005).
بدأ الاتحاد الأوروبي في فرض العقوبات على روسيا في 23 فبراير الماضي، قبل أن يدشِّن بوتين غزوه لأوكرانيا. وبعد أسبوعٍ من شنِّ الغزو، كان الاتحاد الأوروبي قد طبَّق بالفعل عقوباتٍ اقتصادية واسعة المدى، بما يشمل حظرًا على التعاملات الدولية مع سبعة بنوك روسية. حُظِرَت شركات الطيران الروسية من دخول المجال الجوي للاتحاد الأوروبي أو الهبوط في مطاراته. حتى أن الاتحاد الأوروبي علَّقَ بثَّ المنافذ الإعلامية المملوكة للدولة الروسية، مثل سبوتنيك وروسيا اليوم.
إذا كان ذلك صائبًا في ما يتعلَّق بغزو روسيا لأوكرانيا، فلابد أن يكون صائبًا أيضًا حين يتعلَّق الأمر بالاحتلال الإسرائيلي الوحشي للأراضي الفلسطينية، والاضطهاد الذي يتعرَّض له الفلسطينيون.
يدَّعي الاتحاد الأوروبي أن العقوبات التي سوف تدفع المواطنين الروس إلى حافة الجوع ليست إعلانًا للحرب، بل تدشيًا لـ”السلام”. لكن فرض حظرًا على واردات البضائع من المستوطنات الإسرائيلية الاستعمارية في الضفة الغربية لهي خطوةٌ تتجاوز الخط الأحمر -خرقٌ لقانون التجارة الأوروبي.
أما دعوات حملة بي دي إس لمقاطعة المؤسسات الرياضية والثقافية والأكاديمية الإسرائيلية، وسحب الاستثمارات من الشركات الدولية والإسرائيلية المتواطئة مع نظام الفصل العنصري الإسرائيلي والمستوطنات، فلم يرفضها الاتحاد الأوروبي فحسب، بل جرَّمها أيضًا في بعض الحالات.
منذ العام 2010، استخدمت السلطات الفرنسية القوانين المناهضة للتمييز لملاحقة العديد من نشطاء حملة بي دي إس. وفي العام 2019، صوَّت البرلمان الألماني لصالح تصنيف حركة بي دي إس باعتبارها “معادية للسامية”. وفي الشهر الماضي، مرَّر برلمان المملكة المتحدة مشروع قانونٍ يمنع سحب تمويلات المعاشات الحكومية المحلية من الشركات البريطانية ذات الشراكة التجارية مع إسرائيل.
يتمثَّل مطلبٌ مركزي لحركة بي دي إس في فرض حظرٍ دوليٍّ شامل على الأسلحة لإسرائيل. وقد تبنَّت هذا الموقف منظمتان حقوقيتان، هما منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، اللتان توصَّلتا إلى استنتاجٍ بأن إسرائيل دولة فصل عنصري.
على مدار الأعوام الخمسة الماضية، أمدَّت الولايات المتحدة إسرائيل بمساعدةٍ عسكرية تبلغ حوالي 20 مليار دولار. وفي العقد الماضي، صرَّحت دول الاتحاد الأوروبي بعقودٍ عسكرية تبلغ 2 مليار يورو مع إسرائيل، بما يشمل 600 مليون يورو في العام 2012 وحده. تضمَّن ذلك ذخائر وأسلحة نارية ومكوَّناتٍ لطائراتٍ ومركباتٍ عسكرية. ولقد استُخدِمَت هذه الأسلحة في قصف غزة مرارًا، طوال الحصار الطويل الذي امتدَّ لـ14 عامًا، وقتلت المئات من المحتجين العُزَّل في الأراضي الفلسطينية المحتلَّة.
عنصرية
لا تقتصر هذه المعايير المزدوجة على مسألة العقوبات فقط بالطبع، بل يمتدُّ النفاق إلى ما هو أعمق من ذلك. يتَّضح هذا النفاق في العنصرية الصارخة التي تُستخدَم للتمييز بين الأوكرانيين الذين يستحقون تضامن الغرب، في مقابل الأفغان والعراقيين، الموصومين بأنهم “إرهابيون” أو يُنظَر إلى موتهم ببساطة باعتباره “ضررًا جانبيًا”.
في 27 فبراير الماضي، قال المراسل الكبير لشبكة سي بي إس نيوز الأمريكية، تشارلي داجاتا: “مع كامل الاحترام، أوكرانيا ليست بلدًا مثل العراق أو أفغانستان شهد صراعًا مستعرًا على مدار عقود. هذا بلدٌ متحضِّرٌ نسبيًا، أوروبيٌّ نسبيًا … لا تتوقَّع له ذلك أو لا ترغب في حدوثه له”. الرسالة واضحة: أوكرانيا “بلدٌ متحضِّرٌ نسبيًا”، و”أوروبيٌّ نسبيًا”. أما أفغانستان وسوريا والعراق واليمن وفلسطين، فتلك بلدانٌ غير متحضِّرة، يسكنها العرب والمسلمون وذوو البشرة الداكنة.
لم يكن داجاتا وحده في ذلك. في اليوم نفسه، قال المدَّعي العام الأوكراني السابق لشبكة بي بي سي البريطانية: “هذا مؤثِّرٌ للغاية بالنسبة لي أن أرى أناسًا أوروبيين بعيونٍ زرقاء وشعورٍ شقراء … يُقتَلون كلَّ يوم”. وقال مذيع بي بي سي، موافقًا على ما قاله الضيف: “أتفهَّم مشاعرك وأحترمها”.
وَصَفَ مقدِّم البرامج على النسخة الإنجليزية من قناة الجزيرة، بيتر دوبي، الأوكرانيين الفارين من الحرب بأنهم “أناسٌ من الطبقة الوسطى الثرية” الذين “من الواضح أنهم ليسوا لاجئين يحاولون الهروب من مناطق في الشرق الأوسط لا تزال في حالة حرب؛ ليسوا أناسًا يحاولون الهروب من مناطق في شمال إفريقيا؛ بل إنهم يبدون مثل أيِّ عائلةٍ أوروبية قد تكون في جوارك”.
هذه التناقضات ليست مجرد انعاكسٍ للإعلام الغربي، رغم أن العنصرية راسخةٌ وعميقةٌ بشكلٍ واضح. مثل تخدم هذه الأنماط العنصرية مصاح حكَّام الدول الإمبريالية الغربية. يُنظَر إلى أولئك الناس من بلدانٍ مثل العراق وأفغانستان، وأولئك الذين يفرون من الحروب والفقر وانعدام الاستقرار في شمال إفريقيا، وكأنهم من غير البشر، ويُصوَّرون وكأنهم لا يستحقون التعاطف، لسببٍ بسيط هو أنهم ضحايا الهيمنة الإمبريالية الغربية على هذه المناطق. وبالتالي لابد بأيِّ ثمن من إخفاء حقيقة أنهم ضحايا خشية أن تُثار أسئلةٌ حول سعي الولايات المتحدة وحلفائها للسيطرة والهيمنة على هذه الأجزاء من العالم (أحيانًا بالقوة العسكرية الأكثر بطشًا).
لكن بالنسبة لضحايا العدوان الروسي، فهذا أمرٌ مختلف. في الحالات التي شهدت تحرُّكاتٍ روسية تفرض تهديدًا على الهيمنة الأمريكية والغربية على الأسواق والموارد العالمية، يُصوَّر الضحايا باعتبار أنهم يستحقون التعاطف والدعم. ومثل هذا التعاطف ليس حصرًا على الأوروبيين البيض مثل الأوكرانيين، بل نتذكَّر في هذا السياق موقف الحكومات الغربية من الكفاح “البطولي” لأسامة بن لادن والمجاهدين الذين قاتلوا ضد الغزو السوفييتي لأفغانستان في الثمانينيات.
نتضامن مع كلِّ ضحايا الإمبريالية
ليس من الحكمة أن يستند الأوكرانيون على الصورة “البطولية” الحالية لمقاومتهم في عين الإعلام الغربي وقادة السياسة الغربيين، وكأنها حالةٌ ستدوم إلى الأبد. لقد أظهرت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والقوى الغربية أنهم على استعدادٍ تام لإلقاء هؤلاء “الضحايا الجديرون بالتعاطف معهم” في الهاوية إذا تطلَّبت مصالحهم الإمبريالية ذلك.
حين قصفت روسيا الشيشان وسوريا، أدار لها الإعلام الغربي ظهره. وفي سوريا، كان ضحايا هجمات نظام الأسد بالأسلحة الكيمياوية يستحقون التعاطف في البداية في نظر الإعلام الغربي. لكن بمجرد أن تحوَّلَت الثورة السورية إلى حربٍ أهلية، بما يشمل أطرافًا لم تكن واشنطن ذات سيطرةٍ عليهم، كانت إدارة أوباما سعيدةً بالتوصُّل إلى اتفاقٍ مع بوتين بالسماح له بقصف حلب قصفًا عشوائيًا، بينما تركِّز الولايات المتحدة جهودها على تدمير تنظيم داعش.
لدى كلٍّ من روسيا والولايات المتحدة مصلحةٌ في الإبقاء على الأسد في السلطة في سوريا، حتى رغم أن ضحاياه وصلوا إلى 350 ألف قتيل، علاوة على ملايين اللاجئين. وبينما ربما كان لدى أوباما إستراتيجيةٌ مختلفة لتحقيق مصلحته، فقد كان ازدراؤه للمعارضة الديمقراطية داخل سوريا أمرًا مشتركًا مع بوتين.
وبالمثل، حين كانت هيلاري كلينتون بحاجةٍ إلى تبرير تمديد وتصعيد الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، الذي استمرَّ طيلة عقدين، كانت النساء والفتيات الأفغانيات بنظرها ضحايا جديراتٍ بالتعاطف معهن وبحاجةٍ إلى الإنقاذ من طالبان. وبمجرد أن رحلت القوات الأمريكية من كابول في أكتوبر الماضي، لم يعد هناك غرضٌ للتحدث عن النساء الأفغانيات -مُسحن مسحًا من شاشات التلفاز، بينما كانت بلادهن تقبع في الخراب.
بالنسبة للاشتراكيين، فإن النهج في هذا الصدد واضحٌ تمامًا. يستحق ضحايا العدوان والغزو الإمبريالي تضامننا ودعمنا، بصرف النظر عمَّن هم، وبصرف النظر عن بلدهم. يستحق الأوكرانيون الذين يقاتلون الغزو الروسي ببسالة ذلك التضامن والدعم. وهكذا أيضًا الفلسطينيون، والأفغان، والسوريون، والعراقيون، وكلُّ أولئك الذين كانوا، أو لا يزالون، ضحايا للطموحات الإمبريالية للولايات المتحدة والقوى الغربية.
* المقال بقلم: نيك إيفريت – موقع “ريد فلاج” الأسترالي