المقاومة الفلسطينية والضربة القاضية

في ظل استمرار الحرب على غزة واقتحام الاحتلال لمستشفى الشفاء الطبي بزعم البحث عن أنفاق حركة حماس داخل المصاعد، نعيد كاشتراكيين ثوريين التأكيد على دعمنا غير المشروط للمقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس في نضالها ضد احتلال الكيان الصهيوني لفلسطين.
من المهم هنا، بسبب تكرار الدعاية الصهيونية بأن حماس وداعش وجهان لعملة واحدة وينقلها في بعض الأحيان الإعلام العربي المتصهين ربما عن عمد أو غباء سياسي، أن نبين أن فهم الحركات الإسلامية لابد أن يكون في سياق تاريخي يبرز من خلاله المحتوى الاجتماعي والطبقي وكذلك الأهداف التاريخية للحركات الإسلامية.
الحركات الإسلامية كداعش مثلًا هي طائفية وعنصرية تجاه المسلمين الشيعة والمسيحيين في سوريا والعراق، وبالتالي موقفها يضعف ويقسم الشعوب في مواجهة الديكتاتورية والاستعمار. أما حركتا حماس وحزب الله، فقد ظهرتا تاريخيًا للنضال من أجل الحقوق الشرعية للشعبين الفلسطيني واللبناني ودخلتا في مواجهات عدة ضد الاحتلال الصهيوني لأراضيهما.
ومع ذلك فهذا الدعم غير المشروط لحماس وحزب الله لا يعني خلوه من الانتقاد سواء لطريقة تعامل حماس كدولة بعنف مع تظاهرات المطالبة بتحسين المعيشة في غزة أو مع موقف حزب الله العدائي للثورات العربية ووقوفه مع نظام بشار الأسد الاجرامي في سوريا. إن دعمنا النقدي سببه أن قَدَر التغيير الثوري في العالم العربي وقدَر المقاومة الفلسطينية مرتبطان عضويًا ببعضهما البعض.
إن البطولات الخارقة للمقاومة في فلسطين ولبنان في مواجهة الغطرسة الصهيونية في ظروف مستحيلة من القصف المتواصل والقتل الهمجي للمدنيين، وخصوصًا الأطفال، وقطع المياه والوقود وضرب المستشفيات واقتحامها وقتل المرضى، تنعش الأمل على الرغم من ذلك في أفئدة الملايين في أنحاء العالم. هذه المقاومة الباسلة بالرغم من الدم الذي يدفعه شعبنا في فلسطين، تضعف الدولة الصهيونية وترعب الأنظمة العربية والولايات المتحدة وبالتالي تقوي الصراع الطبقي في الدول العربية ضد النظام الإمبريالي.
ولفهم السياق التاريخي لحركة حماس بشكل أكبر يجب أن نعود إلى البدايات وكيفية نشأتها. ظهرت حماس في الانتفاضة الأولى 1987، لكن جذورها تعود إلى الجمعيات والمؤسسات الإسلامية الخيرية التي نشأت في غزة منذ السبعينيات على أيدي ناشطين استلهموا تجارب الإخوان المسلمين في مصر. وبعد عقود من هيمنة فتح وفصائل اليسار على قيادة الحركة الفلسطينية، بنت حماس قاعدةً شعبية لها من خلال الوعظ الديني والأعمال الخيرية تنافس بها فصائل منظمة التحرير للسيطرة على المؤسسات المهنية.
استدعى اندلاع الانتفاضة في ديسمبر 1987 تكتيكًا مختلفًا بشكل كبير من كوادر حماس. فقد زجوا بأنفسهم نحو حشد الدعم للانتفاضة الشعبية تحت القيادة الوطنية الموحدة لفصائل منظمة التحرير الفلسطينية لتنتهي وتتوقف نهائياً مع توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993.
في البداية همشت اتفاقيات أوسلو الحركة الإسلامية، ولكن مع تصاعد خيبة الفلسطينيين بـ”عملية السلام” ازدادت شعبية حماس وارتفع صوتهم بالنقد لقيادات منظمة التحرير الفلسطينية على قبولهم التسوية مع إسرائيل وداعميها في الولايات المتحدة. وبينما استمر إقفال الحدود وخنق الاقتصاد الفلسطيني وبناء المستوطنات بشكل متسارع بدا أن حماس تطرح بديلًا إستراتيجيًا لما تقدمه فتح.
أما وصول حركة المقاومة الإسلامية، حماس، إلى السلطة، فقد ارتبط بشكل خاص باتفاقيات أوسلو وخيانة فتح للنضال الفلسطيني. فعندما اندلعت انتفاضة جديدة في العام 2000 وردت عليها إسرائيل بقوة غاشمة، أطلقت حماس هجومًا عسكريًا ضد قوات الاحتلال وقامت مجموعات تتبع الحركة بعمليات استشهادية أدخلت الرعب في قلب الكيان الصهيوني.
وواصلت حماس السير على نهج طويل من العمليات الفدائية الفلسطينية كانت في طليعتها فتح وفصائل اليسار في منظمة التحرير الفلسطينية. وفي الضفة، وبعد أوسلو، استمرت بعض الفصائل المسلحة التابعة لفتح كشهداء الأقصى وكتائب أبو علي مصطفى، الجناح العسكري للجبهة الشعبية، في نهج المقاومة المسلحة ضد الكيان الصهيوني، لكن سيطرة السلطة الفلسطينية على الأجهزة الأمنية والتنسيق الأمني مع الكيان صعَّب من مهام المقاومة وتنظيمها وأضعفها في الضفة الغربية، مقارنةً بمقاومة حماس والجهاد الإسلامي في غزة التي لم تكن تحت سيطرة سلطة أوسلو أو بالأحرى سلطة التنسيق الأمني.
كان على قيادات فتح إما التخلي عن السلطة الفلسطينية وأجهزة السلطة التي خلقتها اتفاقيات أوسلو وإما التخلي عن مقاومة الكيان الصهيوني. وقد اختاروا التخلي عن المقاومة تاركين ساحة المعركة إلى حد كبير لحماس. وبسبب موقف السلطة المتخاذل تجاه التعديات الصهيونية، أعطى الشعب الفلسطيني كلمته لحماس في مراكز الانتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني في 2006.
كان رد الولايات المتحدة والكيان ومصر هو التآمر مع فتح ضد حكومة الوحدة التي تقودها حماس. وأعقب ذلك محاولة انقلابية فاشلة قامت بها الأجهزة الأمنية الفتحاوية في غزة، لتطبق بعدها حماس قبضتها على قطاع غزة وتُواجَه بحصار عسكري واقتصادي مفروض من الكيان وتطبقه مصر.
كانت مسيرات الاحتجاج الضخمة على الحدود مع الكيان في مارس وأبريل من عام 2018 دليلًا حيًا على أنه برغم ضغط الحصار اللاإنساني، لم يستسلم الفلسطينيين في غزة. عشرات الآلاف تجمعوا على الحدود مطالبين بالعودة ليواجهوا عنفًا مميتًا من جانب القوات الإسرائيلية. محتجون غير مسلحين يحملون الأعلام وأيضًا شباب أعلنوا تحديهم برمي الحجارة تم التصويب عليهم وقتلهم من قبل قناصة إسرائيلية مدججة بالسلاح. ففي أبريل 2018 قُتِلَ 17 فلسطينيًا على الأقل وأُصيبَ حوالي 1500، وفي 14 مايو قُتِلَ على الأقل 60 آخرين.
ومع هذا، وعلى افتراض أن اتفاقية أوسلو نجحت في تكوين دولة قابلة للحياة تحقق جزئيًا مطالب الفلسطينيين بعودة اللاجئين والمشاركة في القدس وتفكيك المستوطنات في الضفة الغربية وغزة، فهل بذلك تتحقق العدالة وينتهي الصراع في الشرق الاوسط؟ الإجابة لابد أن تكون لا. لأن هذا الحل لا يتطرق إلى الجريمة التاريخية التي أدت إلى وجود الكيان الصهيوني الغاصب والذي اعتمد على تطهير عرقي لـ 750 ألفًا من الفلسطينيين في 1948.
هذا الحل الأسلوي لو نجح كان سيترك بيننا دولة عنصرية واستعمارية مدججة بسلاح الإمبريالية الأمريكية تشكل تهديدًا ليس على الفلسطينيين فقط، بل على المنطقة بأكملها. ولهذا السبب ترتفع الاصوات الآن ليس من الفلسطينيين فقط بالمطالبة بدولة واحدة علمانية ديمقراطية على مبدأ تساوي الحقوق لكل مواطنيها بما فيهم اليهود الإسرائيليون، ولكنها أصوات نسمعها الآن بعد انكشاف إجرام وعنصرية هذا الكيان في غزة، في تظاهرات واحتجاجات نيويورك ولندن وباريس، “فلسطين حرة من النهر الى البحر”.
المقاومة المسلحة الباسلة التي تقوم بها حماس وبقية الفصائل الفلسطينية تستطيع أن تهزم آلة الحرب الصهيونية بالنقاط كما قال حسن نصر الله في خطابه الأخير. لكن من أجل هزيمة هذا الكيان بالضربة القاضية والقضاء على الصهيونية لابد من احتجاجات شعبية وعصيان المدني وإضرابات تهدد عمق المشروع الإسرائيلي. تحرك يربط بشكل مباشر بين نضال الفلسطينيين في المناطق التي استولى عليها الكيان بالغزو المسلح الوحشي في 1948 مع إخوانهم وأخواتهم في الضفة الغربية وغزة وباللاجئين الفلسطينيين خارج حدود فلسطين التاريخية.
إن معركة “دولة واحدة” في فلسطين والقضاء على الصهيونية بالضربة القاضية، لا يمكن كسبها بدون تحول ثوري في المنطقة. حل يسقط الدكتاتورية والاحتلال الاستيطاني معًا، حل لا يجد فيه القمع له موطنًا.
في هذه المعركة سيكون دور الطبقة العاملة العربية المنظمة حاسمًا. وستكون طرق نضالها الإضرابات والاحتجاجات الجماهيرية والعصيان المدني: الحشد الذي يتضمن أوسع وأكثر أشكال المشاركة ديمقراطيًا. لأن تحرير فلسطين لن يُحسَم داخل الأبواب المغلقة بالدبلوماسيين وجنرالات القمع والتنسيق الأمني، بل في ثورات شعبية تقضي على القمع في بلادها وتساند المقاومة في ضربتها القاضية.