بوش ولجنة بيكر.. مزيد من الأكاذيب حول العراق
بعد شهور من الحديث عن تفاقم أزمة الإدارة الأمريكية في العراق، ومن حالة الترقب التي صاحبت تشكيل لجنة من الكونجرس الأمريكي لدراسة خيارات الولايات المتحدة الأمريكية هناك، خرج علينا تقرير بيكر-هاميلتون ليؤكد على خطورة الوضع وعلى استمرار تواجد قوات الاحتلال حتى بداية عام 2008. هذه المرة مبررات استمرار الاحتلال إنسانية بحتة، وهي منع قيام حرب أهلية، تودي بحياة المئات، وربما الآلاف، من العراقيين!
نتائج التقرير
في 6 ديسمبر الماضي أعلن عضو لجنة دراسة العراق ليي هاملتون في مؤتمر صحفي عقد لمناقشة التقرير، أن القائمين باللجنة يتفقون مع الرئيس بوش في هدف خلق عراق قادر على حكم نفسه والدفاع عنه. أما رئيس اللجنة جيمس بيكر، وزير الخارجية في فترة رئاسة بوش الأب، فقد صرح بأن أي انسحاب سريع للقوات الأمريكية سيعني إراقة للدماء في العراق، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى “حرب إقليمية واسعة النطاق”. بحسب جريدة الإيكونوميست (العدد الصادر بتاريخ 7 ديسمبر)، فقد رأى القائمون بالدراسة أنه من غير الممكن أن يستمر وجود القوات الأمريكية في العراق ” كالتزام غير محدد المدة”، وبالتالي جاءت فكرة الانسحاب ببداية عام 2008 كصيغة توفيقية، أو إذا جاز التعبير، على سبيل التنازل.
تعزو لجنة دراسة العراق خطر الحرب الأهلية الطائفية الذي يلوح في أفق العراق، بحسب تقديرها، إلى عدم تقديم زعماء الطوائف العراقية للتنازلات اللازمة للوصول إلى حالة من التوافق الوطني، وبالتحديد زعماء الشيعة والأكراد، الذين لم يقدموا ما يكفي لدرء مخاوف الطائفة السنية- التي ظلت مهيمنة على الساحة السياسية العراقية على مدى عقود. بذلك، يعبر قيادات اللجنة عن رؤية مفادها أن الطريق الوحيد، لتحقيق هدف الصيغة التوافقية بين الطوائف المتناحرة، يمر عبر استخدام الإدارة الأمريكية لنفوذها بالضغط على حكومة نوري المالكي لتقديم التنازلات المنشودة. وتقترح اللجنة بعض الإجراءات مثل تخفيف المحاذير على البعثيين، والموافقة على صيغة أكثر عدالة فيما يخص تقسيم العائدات النفطية ما بين الطوائف ومراجعة بعض بنود الدستور العراقي الجديد بحيث يضمن حقوق أكبر لسنة العراق.
هذا وقد أعلنت المجموعة رفضها لتبني بعض البدائل التي كانت مطروحة بقوة في فترات سابقة مثل الاستمرار في العراق مهما اقتضى الأمر – فقد اقترحت اللجنة انسحاب الكتلة الأكبر من قوات الاحتلال في بداية 2008 – ومضاعفة عدد القوات هناك وتقسيم الدولة على أساس طائفي. وجاء اقتراح اللجنة ليمزج العديد من السياسات مع بعضها البعض، على الأقل، على المستوى النظري. السياسة الأولى، بحسب المجموعة، تكمن في تغيير المهمة الرئيسية للقوات الأمريكية في العراق باتجاه الدعم والتدريب. أما الثانية، فهي العمل على تحسين أداء الحكومة العراقية من خلال مساعدة الحكومة وفرض العقوبات عليها في حال فشلها. أما، السياسة الثالثة فتتضمن دور أكبر لدول الجوار- بالتحديد سوريا وإيران- في الشأن العراقي، الأمر الذي يتضمن دور أمريكي أكبر في إحياء عملية السلام على مستوى الصراع العربي – الإسرائيلي.
منذ صدور تقرير اللجنة، الذي شمل 79 نقطة إذا ما نفذها بوش فسيتمكن من الانسحاب من العراق في التاريخ المحدد، وآراء المحللين السياسيين تطرح أسئلة من نوع: هل كونداليزا رايس هي الشخص القادر على القيام بدور المفاوض على المستوى الإقليمي، خاصة بالنظر إلى أدائها أثناء الحرب الإسرائيلية الشرسة على لبنان؟ هل من الممكن التعامل مع فكرة من نوع تدريب قوات الأمن العراقي بعيدا عن كونها حلم يستحيل تحقيقه بعد محاولات قوات الاحتلال تنفيذ ذلك طوال العام الماضي وفي ظل الاتهامات المتكررة لقوات الأمن العراقية بالتواطؤ مع المسلحين؟
وهناك معضلات أخرى أيضا. فمن ضمن التوصيات النظرية الواردة بالتقرير، الاستعانة بالدول المجاورة للعراق في حل الأزمة وأخذ خطوات أجرأ بصدد عملية السلام في فلسطين. فتقرير لجنة بيكر يقترح إجراء محادثات ما بين العدو الإسرائيلي والفصائل الفلسطينية التي تعترف بحق الكيان الصهيوني في الوجود – بالرغم من أن الحكومة الفلسطينية الحالية “حماس” ترفض الانصياع إلى مثل هذا الموقف الاستسلامي. أما فيما يخص دول الجوار المتمثلة بالأساس في سوريا وإيران، فيصعب تخيل شكل التعاون المطروح، في ظل التصريحات الأمريكية المتتالية ضد التدخل السوري في لبنان وضد المشروع النووي الإيراني.
يمكننا القول بأن الأطروحة الأوضح بالتقرير هي أن السياسة الأمريكية المتبعة في العراق قد باءت بالفشل. هذا وقد صرح روبرت جيتس، الرجل الذي اختاره بوش ليخلف وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، للكونجرس بأن أمريكا ليست في وضع انتصار في العراق. يجيء هذا التصريح بعد مضي أكثر من ثلاث سنوات على الحرب وعلى خلفية وفاة حوالي 3 آلاف جندي أمريكي. أيضا توالت تصريحات مشابهة في المضمون طوال الأسبوع الماضي. فجاء تصريح ستيفين هادلي، مستشار الأمن القومي لبوش، ليشكك في قدرات وكفاءة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في إدارة الوضع في العراق. كما جاء تصريح آخر على لسان وزير الدفاع المقال ومهندس الحرب على العراق دونالد رامسفيلد، بأن “ما تفعله القوات الأمريكية في العراق لا يعمل بالنجاح الكافي أو بالسرعة الكافية”.
الانسحاب الآن وفورا
قال بوش أثناء لقائه رئيس الوزراء العراقي في 29 نوفمبر الماضي، ” تكثر التكهنات التي ترى أن التقارير الصادرة بشأن العراق ستعني انسحاب للقوات الأمريكية من العراق .. هذا النوع من التصورات لا يحوي ذرة واقعية”. وعلى ما يبدو أن تقييم اللجنة للأزمة في العراق، لم يختلف كثيرا عن رؤية بوش. فبالرغم من اعتراف اللجنة بفشل سياسة بوش في العراق – جاء بالسطر الأول للتقرير: ” الوضع في العراق خطر ويستمر في التدهور” – إلا أن النتائج التي خلصت إليها لم تتضمن تحميل قوات الاحتلال مسؤولية الوضع الراهن.
فمنذ البداية والترويج للحرب على العراق يقوم على أساس ادعاءات كاذبة، بدءاً بالحديث عن وجود أسلحة دمار شامل وانتهاء بوجود علاقات وثيقة تربط ما بين تنظيم القاعدة الإسلامي وحزب البعث العلماني. وبمجرد انكشاف الحقائق ما بعد سقوط بغداد في 19 إبريل 2003، بدأت سلسلة أكاذيب جديدة من نوع دور أمريكا في تحقيق الديمقراطية بالعراق وإعادة إعمار العراق. هذا هو السياق الموضوعي لتبرير استمرار قوات الاحتلال في العراق تحت دعاوى الخوف من قيام حرب أهلية في العراق، وإقليمية في المنطقة.
ما تجاهله التقرير المعني بدراسة الوضع في العراق هو وفاة حوالي 655 ألف عراقي كنتيجة للاحتلال واحتجاز أكثر من 14 ألف عراقي بالسجون الأمريكية هناك، فضلا عن نزوح 300 ألف شخص من منازلهم في هذا العام وحده. أيضاً، بعد مضي أكثر من 3 سنوات لا تزال شبكة الكهرباء غير قادرة على توصيل الكهرباء إلى العاصمة بغداد سوى لمدة ساعة من بين كل أربع ساعات.
منذ ما يقرب من عام كان طموح إدارة بوش هو خفض عدد القوات الأمريكية بالعراق من خلال الدفع بالشرطة والجنود العراقيين إلى الخطوط الأمامية. اليوم، ومع تزايد تضرر الرأي العام الأمريكي من الوضع في العراق، الأمر الذي أصبح جليا ما بعد انتخابات الكونغرس الأمريكي الأخيرة، أصبحت الإدارة الأمريكية في أمس الحاجة إلى خلق خطاب جديد وذريعة جديدة للبقاء في العراق. اليوم تعمل الإدارة الأمريكية، كما فعلت مسبقا، على الترويج لفكرة أن سبب بقاء قوات الاحتلال إنساني بحت: القوات الأمريكية هي حائط الصد الذي سيمنع العراقيون من قتل بعضهم البعض والغرق في مستنقع الحرب الأهلية.
لكن على الرغم من محاولات تسييد التصور الذي يختصر أعمال العنف في الاقتتال الطائفي أو السني – الشيعي، إلا أن الواقع يؤكد على أن عمليات المقاومة التي تستهدف جنود الاحتلال دون غيرهم في تصاعد مستمر. فبحسب إحصائيات وزارة الدفاع الأمريكي فقد ارتفع معدل هذا النوع من العمليات من 70 عملية يوميا في شهر يناير الماضي إلى 170 عملية في شهر سبتمبر.أما بالنسبة للعنف الطائفي المتنامي منذ تفجير جامع العسكرية بمدينة سامراء في فبراير الماضي، فالأطروحة التي ترى في عناصر الاحتلال – أمريكا وبريطانيا – قوى محايدة في الصراع الدائر ما بين السنة والشيعة لا تنطلي على أحد.