ضحايا الحرب وضحايا كاترينا: سياسة واحدة وإمبريالية متوحشة
كشفت كارثة إعصار كاترينا الكثير عن فقر وعنصرية المجتمع الأمريكي وطرحت الكثير من الأسئلة حول الارتباط بين ما حدث في نيور أورليانز وما يحدث في العراق. يرى عاطف الشحات أن ما يقف وراء قتل الأبرياء في العراق ومعاناة الفقراء والسود في الولايات المتحدة هو توحش الإمبريالية.
في عددها الصادر في 3 أكتوبر، جاء على غلاف مجلة Nation اليسارية صورة للرئيس الأمريكي جورج بوش وهو غارق في الوحل، تحت عنوان: كيف ترتبط الكوارث؟ وكان المقصود أن ما يربط كارثة حرب العراق (في الخليج العربي) وكارثة تشريد وترك آلاف الأمريكيين للموت في نيو أورليانز بولاية لويزيانا (في خليج المسيسبي) هو إدارة جورج بوش. وقد أشار أحد المواقع السياسية الاشتراكية WSWS أيضًا إلى ذات المعنى تقريبًا بقوله “بغداد ونيواورليانز: وجهان لعملة واحدة”. وفي الحقيقة، لم يكن من الصعب على المواطن العادي الأمريكي أن يتجاهل الربط بين ما يحدث في العراق وبين كارثة كاترينا. فأبسط الأسباب كانت تدعو لذلك، بدءًا من السؤال عن أين الجيش والقوات المسلحة للإنقاذ، وسبب تأخر وصول الجنود إلى نيو أورليانز، وأين الطائرات، أو أين ميزانية الإنقاذ؟.. إلخ. لكن كيف نفهم عمق الصدمة التي أحدثتها كارثة كاترينا؟ وكيف نرى ما وراء الصورة من انتهازية الإدارة الأمريكية ونفاقها فيما يتعلق بتعاملها مع فقراء الأمريكيين، بينما تنفق البلايين على الحرب في العراق؟
ما وراء الصدمة: الإخفاء المنظم للحقيقة!
هل لا يوجد في أمريكا سكان أكواخ؟ هل المجتمع الذي يقود حرب النجوم به بطالة وسكان بلا مأوى وليس لديه استعداد للتعامل مع كارثة إعصار؟
الحقيقة أن ما حدث في كارثة كاترينا كان مجرد نقل الصور الحقيقية من دائرة المخفي إلى دائرة المنظور. فجأة رأينا في وكالات الإعلام صور أكواخ وفقراء سود. سنفهم هذه الحقيقة إذا بحثنا في صناعة الإخفاء المنظم للحقيقة، الذي تقوم به الرأسمالية في كل وقت. بمجرد قراءة بسيطة لبعض الأرقام، سنعرف كيف تصنع هذه الرأسمالية المهولة الفقر، وكيف أنها لا زالت تعتمد على العنصرية. ففي الولايات المتحدة هناك 1.3 مليون شاب أمريكي بدون مأوى ويعيشون في الشوارع، بينما يموت 5000 آلاف شاب سنويًا من الجوع أو بسبب الانتحار أو المرض. وفي الولايات المتحدة يملك أقل من 1% من سكانها حوالي 40% من ثروة البلاد، ويملكون 90% من أسهم الشركات الرأسمالية الكبرى. ويعيش نحو 45 مليون أمريكي بدون تأمين صحي. وعلى سبيل المثال فأنه في عام 2002 – 2003 فقط تم إلغاء خدمات التأمين الصحي لحوالي ثلثي الأمريكيين المستفيدين من نظام الـ Medicaid، معظمهم من الأطفال الفقراء، ووصل عدد هؤلاء الذين حرموا من هذا التأمين إلى مليوني شخص.
وفي أمريكا يعيش حوالي تسعة ملايين مواطن في حالة بطالة رسمية، وهناك خمسة ملايين مصنفين على أساس أنهم يستطيعون العمل ولكنهم لا يرغبون في ذلك!! ويعمل حوالي 25 مليون مواطن أمريكي في أعمال بالقطعة أو لبعض الوقت، وبدون أي حقوق خاصة بالعمل. وبدءًا من يناير 2001، ومنذ أن تولى بوش الحكم، فإن حوالي مليوني ونصف المليون عامل صناعي قد تم تسريحهم! أما متوسط الديون الناتجة عن استهلاك المواطن الأمريكي العادي (من الطبقة العاملة أو من الطبقة المتوسطة) بالنسبة لدخله فقد كان 22% عام 1946، أما اليوم فإن ديون المواطن الأمريكي داخل هذه الشرائح الاجتماعية تصل إلى 110% من دخله. وقد تضاعفت ديون الأسرة الأمريكية من نظام الائتمان (الدفع المؤجل أو بطاقات الائتمان) حوالي ثلاثة مرات من عام 1989 إلى عام 2001. وقد وصل متوسط ديون الأسرة الأمريكية لهذا النظام في السنوات الأربع الأخيرة إلى مبلغ 8.7 تريليون دولار. ومن عام 1980 إلى عام 2000 زاد عدد السود في السجون الأمريكية من 143 ألفًا إلى 792 ألفًا، ونسبة المسجونين السود في أمريكا هي أكثر من عدد السود الذين وصلوا إلى التعليم الجامعي!
لقد حدثت كارثة كاترينا في نيو أورليانز بولاية لويزيانا، وهي التي تعد من أفقر الولايات الأمريكية. ويعيش 30% من سكان نيو أورليانز تحت خط الفقر، كما أن حوالي 70% من السكان هم من السود. وعلى حد تعبير جريدة الوول ستريت جورنال، فإن الحكومة التي قالت أنه لم يعد هناك أية مساحة في الميزانية الفيدرالية يمكن الاستقطاع منها لكاترينا، هي نفسها التي منحت أكثر من 700 بليون دولار إعفاءات ضريبية للأغنياء عام 2003. بعدها أضافت الجريدة المعبرة عن رجال المال والاقتصاد: “أين الوجه الآخر للمساواة في الميزانية؟ أين الإعفاءات والتسهيلات التي تنفقها الحكومة على الخدمات الاجتماعية والإنفاق على الفقر والعمال” وقد وصلت الإعفاءات الضريبية إلى 132 بليون دولار عام 2001. أما المستفيدون من الإعفاءات الضريبية في عام 2003، فقد كانوا الـ1% الأغنى من السكان.
من يملك ويحتكر الإعلام يحتكر الحقيقة. ولقد وصلت بربرية “الحرية” الأمريكية إلى درجة غير مسبوقة في السنوات الأخيرة. يبدأ ذلك من الضغوط المباشرة على وسائل الإعلام وحبس الصحفيين إذا نشروا الحقيقة. وقد حدث ذلك مؤخرًا في حبس صحيفتين نشرتا معلومات عن كذب الإدارة الأمريكية فيما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل في العراق. وأثناء محاكمة إحداهن حاولت المحكمة والادعاء إجبارها على كشف مصدرها في المخابرات المركزية الأمريكية، لكنها رفضت فتم حبسها. هذا غير الحظر الذي فرضته وزارة الدفاع حتى وقت قريب على نشر صور جثث الجنود الأمريكيين العائدين من العراق! والحكومة تمارس ضغوطًا شديدة عن طريق تمويل كل الجامعات الحكومية، لأجل منع أقسام العلوم الاجتماعية والإنسانية في هذه الجامعات من انتقاد السياسة الخارجية الأمريكية. وقد أصدرت قانونًا يسمى القانون رقم 6 يقوم بتقليص أو منع تمويل هذه الجامعات إذا انتقدت سياسة أمريكا في الشرق الأوسط.
هناك أيضًا الفساد، فالإدارة الأمريكية غارقة في قضايا فساد (يكفي أن كل من زعيمي الأغلبية الجمهورية في كل من مجلس الشيوخ والنواب متهمان في قضايا فساد كبرى) وهي تعبث بكل القوانين، وتشرع ترسانة من القوانين الاستثنائية التي لا نجد لها مثيلاً في أي دولة ديكتاتورية في العالم الثالث. وتقوم بتعيين مستشارين موالين لها في المحكمة العليا. فرئيس المحكمة العليا الجديد، جون روبرتس، هو محافظ ومحامي شركات رأسمالية كبرى، وعمل مستشارًا قانونيًا للحزب الجمهوري. أما المستشارة التي تم تعيينها مؤخرًا، فكانت المحامية التي تولت الدفاع عن بوش في قضايا فساد في تكساس، وهي تمثل شركات والت ديزني ومايكروسوفت، بالإضافة إلى أنها أنجيلاكينية محافظة. أما وزير العدل الحالي، جونزالس، فهو صاحب المذكرة القانونية التي تبرر تعذيب المواطنين في العراق وجوانتانامو، على أساس أنهم مقاتلين أعداء، وليس من حقهم التمتع بحقوق الإنسان المعترف بها دوليًا أثناء احتجازهم.
الطابع الديكتاتوري الذي تخفيه الديموقراطية الزائفة ليس مجرد هجوم جديد من الإدارة الأمريكية الحالية، بل هو جزء من طبيعة الرأسمالية. ومن الأمثلة التي لا تنتهي لذلك المكارثية في الخمسينات، وتجسس المخابرات المركزية ومكتب المباحث الفيدرالية على المواطنين في الستينات، وأزمة “ووترجيت” الشهيرة في السبعينيات من القرن الماضي، وأزمة “إيران – كونترا” في الثمانينات. كما شهدت تسعينيات كلينتون بداية الهجوم على العديد من الحقوق المدنية، وكانت إرهاصات قانون الوطنية الحالي قد بدأ ظهورها في قوانين مكافحة الإرهاب الصادرة عام 1996 أيام كلينتون.
وحشية الإمبريالية:
هناك العديد من المفارقات التي تدعو أي متابع لما تقوم به الإدارة الأمريكية اليوم في العالم، وما تقوم به داخل أمريكا نفسها، إلى القفز لاستنتاج سريع حول النفاق الرخيص الذي تقوم به الإمبريالية. الإمبراطورية الجبارة تبحث عن حفنة طائرات هليوكوبتر في نيو أورليانز، فلا تجدها.. بينما حاملات طائراتها في كل مكان في العالم، تدعي فرض السلام عن طريق الحرب. الإمبريالية الأمريكية تدعي الدفاع عن الحرية والديمقراطية في العالم بينما تتعاون مع أنظمة ديكتاتورية عسكرية في أكثر من مكان في العالم كباكستان ومصر، وغيرها. هي أيضًا تضيق الخناق على معارضيها في الداخل، وتتجسس على النشطاء، كما كانت تفعل أيام المكارثية. ليس مجرد نفاق إذن أن تترك أمريكا فقراءها يموتون لعدة أيام، بينما يذهب بوش بعد عدة ساعات من زلزال باكستان إلى سفارتها، للإعلان عن عزائه ومساعداته لحليفه مشرف، في الحرب على الإرهاب!
القول بأن السياسة الإمبريالية الأمريكية هي مجرد سياسة تعتمد على النفاق الرخيص، هو اختصار لعمق التناقض الذي تصنعه الرأسمالية. فداخل هذه الإمبراطورية الجبارة هناك من يعيشون بدون مأوى في ظروف أسوأ بكثير أو تتشابه تمامًا على الأقل – من أكثر دول العالم الثالث فقرًا. فليس مجرد نفاق أن يموت فقراء نيو أورليانز في أغنى دولة في العالم.
إن مقارنة بسيطة بين أداء الإدارة الأمريكية في إعصاري كاترينا وريتا، يمكن أن يكشف لنا عن الفارق. الاختلاف بين الاثنين ليس مجرد أن كاترينا كان أشد تدميرًا من ريتا، إنما هو الفارق بين نيو أورليانز وتكساس. نعم هناك سود في كل من الولايتين، لكن الجدير بالنظر هو الاستعداد الحكومي لمواجهة الأزمة في الحالتين، وأيضًا استعداد المواطنين للتعامل معها. والفارق هنا هو فارق في صناعة الفقر في الولايتين، الذي يتحمل مسئوليته النظام الاقتصادي البربري للرأسمالية. على حد تعبير أحد الأمريكيين في بريد قراء إحدى الصحف: “إن سكان تكساس كانت لديهم السيارات التي يستطيعون بها النجاة وترك المدينة، بينما لا يملك سكان نيو أورليانز هذه السيارات”. والفارق بين نتيجة الإعصارين يظهر أيضًا في أكواخ نيو أورليانز التي لا يمكن مقارنتها بمساكن تكساس. الفارق يتمثل في استثمار الرأسمالية حتى في حياة هؤلاء وخراب ديارهم في حالة نيو أورليانز. فحتى كتابة هذه السطور لم تسمح الإدارة للمواطنين المهاجرين (اللاجئين قسريًا لأمريكا) بالعودة إلى مساكنهم. كما انتعشت أسهم شركات العقارات الكبرى بعد الكارثة. وتم الاتفاق مع هذه الشركات على إعادة إعمار المدينة، مع التحكم في مصير من يرغب في العودة إلى مسكنه. بمعنى أن الأغنياء فقط يمكنهم العودة، إذا استطاعوا تحمل تكاليف إعادة إعمار منازلهم. ووفقًا لوزير الإسكان والتنمية العمرانية في حوار أجرته معه جريدة الهيوستن تايمز، فإنه سيتم السماح لعودة حوالي 35 إلى 40% من سكان نيو أورليانز السود فقط وليس كل سكانها السود السابقين. ومن المعروف أن المدينة كان يقطنها حوالي 500 ألف أمريكي. وكما ذكرنا من قبل فإن ثلثا هؤلاء على الأقل كانوا من السود. وعلى حد تعبيره: “سواء شئنا أم أبينا، لن يبلغ سكان نيو أورليانز الـ500 ألف مرة أخرى، ولن يشكل السود أغلبية السكان كما كان الحال لفترة طويلة، ربما لن يحدث ذلك أبدًا مرة أخرى”.
أسباب تأخر مساعدة الفقراء السود في نيو أوليانز وصناعة الفقر في أمريكا ليست بعيدة كثيرًا عن الأزمة التي قادت إلى الحرب. فلم يكن قيام الحرب ذاته ليحدث سوى بسبب أزمة الاقتصاد الأمريكي، التي احتاجت من وجهة نظر أباطرة الحرب والبترول قتل الآلاف للحصول على تميز أمريكي في احتكار مصادر الطاقة البترولية في العالم. فصناعة السيارات تنهار تقريبًا في الولايات المتحدة لصالح الشركات الأوروبية والأسيوية، وصناعة الكمبيوتر ليست في أفضل وضع تنافسي. ونفس الشيء بالنسبة لصناعة الأدوية، وليس الإصرار على حقوق الملكية الفكرية في مجال صناعة الدواء والكمبيوتر إلا انعكاسًا لحجم الأزمة التي تعانيها الرأسمالية الأمريكية، التي تريد أن يدفع ثمنها فقراء العالم الثالث. أما التفوق الأمريكي في المجال الزراعي، فيجد الآن منافسة شديدة من نظيره الأوروبي. لذا تظهر بشكل متكرر أزمات بين الأمريكيين والأوروبيين مع كل جولة مفاوضات في منظمة التجارة العالمية حول الإعفاءات التي يقدمها كل منهما للزراعة. إن الأزمة والبحث عن الأرباح هما ما يجعلانا نفهم كيف أن الحكومة التي تنفق يوميًا أكثر من 200 مليون دولار في العراق، كانت متعثرة في تدبير حفنة ملايين لإنقاذ هؤلاء الفقراء الذين صنعت هي فقرهم! وبينما يصل عدد الجنود الأمريكيين في العراق إلى حوالي 150 ألف جندي فإن الحكومة الفيدرالية لم ترسل إلا سبعة آلاف جندي فقط إلى نيو أورليانز بعد عدة أيام من كارثة كاترينا، زاد عددهم بعدها ليصل إلى 11 ألفًا! وبالطبع فإن إنقاذ الفقراء السود الأمريكيين أمر تافه إذا ما قورن، من منظور الطبقة الحاكمة الأمريكية، بحماية جيوب الأغنياء وأرباحهم عبر قتل الأبرياء في العراق.
لا يمكننا القول أيضًا أن مجرد سياسات اليمين المحافظ هي السبب في كوارث العراق وكاترينا. فهذا هو الآخر فهم قاصر للأمر. صحيح أن الإدارة الأمريكية الحاكمة اليوم تجمع بين المحافظين والشركات الرأسمالية العسكرية والبترولية والعقارية الضخمة، كما أنها خاضعة بوضوح لتأثير المسيحية الأصولية، لكن اعتبار أن السياسة الإمبريالية قاصرة فقط على تلك الإدارة هو خطأ فادح. فالإدارة الأمريكية تنتهج سياسة إمبريالية توسعية دائمًا سواء في ظل حكم المحافظين الجمهوريين، أو في ظل حكم الديمقراطيين (الليبراليين شكلاً). ومن يتابع عودة الحزب الديمقراطي إلى الخطاب الديني فيما بعد الانتخابات الرئاسية عام 2004، يعرف أن الحزبين الرئيسيين هما ممثلان انتهازيان لنفس النظام ولنفس الطبقة الحاكمة. الفارق بينهما لا شأن له، فالحزب الديمقراطي يريد بعض الحريات المدنية الإضافية، وزيادة حفنة من الدولارات على الحد الأدنى للأجور، الذي لم يتحرك منذ وقت ريجان، وأيضًا الخروج “بشرف” من العراق. لكن الحزب الديمقراطي لم يعارض أبدًا الحرب، وهو لا يقف بأية صورة ضد الوحشية الإمبريالية، لأنه في الحقيقة يعبر عن نفس المصالح.
إن اختصار التوحش الإمبريالي في مجرد كونه سياسة اليمين المسيحي المحافظ يجعلنا ننتظر الأمل في حكم الليبراليين الانتهازيين، وننسى ظلم ووحشية الإمبريالية في كل الحالات. والحقيقة أنه لا فارق بين إمبريالية ليبرالية وإمبريالية محافظة. الاهتمام بتفاصيل الخلاف بين الحزبين الرئيسيين مثلاً سيجعلنا نتخبط في فهم انتهازية الإدارة الأمريكية الحالية التي تدعي الدفاع عن الديموقراطية في العالم بينما هي حكومة شديدة المحافظة ومعادية للحريات الاجتماعية داخل أمريكا. نقطة البداية الصحيحة هي أن نرى الظلم وصناعة الحروب والفقر فيما تقوم به الإمبريالية في كل أرجاء العالم، ساعتها يمكن أن ندرك أنه لا بديل عن تجييش الفقراء وتضامنهم ضدها في كل أرجاء العالم أيضًا.