بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

دارفور بين الكوارث الإنسانية وصراع المصالح

اكتسبت قضية دارفور زخماً جديداً في الفترة الماضية. فقبل أيام، وزعت بريطانيا وفرنسا وغانا مشروع قرار في مجلس الأمن بشأن تشكيل قوة حفظ سلام مشتركة من الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في إقليم دارفور. وتلا ذلك عقد مؤتمر دولي بهدف دعم جهود السلام في دارفور في العاصمة الليبية طرابلس، بمشاركة الدول المجاورة للسودان إضافة إلى القوى المهتمة بالأوضاع في السودان وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي.

وفي واقع الأمر، فقد أسفرت الحرب الأهلية في دارفور بين الميليشيات العربية المعروفة بالجنجويد التابعة للحكومة السودانية—التي مارست أبشع جرائم القتل والاغتصاب والنهب والتدمير ضد سكان الإقليم ذوي الأصول الأفريقية – والحركات المتمردة وأهمها حركتي تحرير السودان والعدل والمساواة، أوضاعا إنسانية كارثية، حيث لقي 200 ألف شخص مصرعهم، وشُرد ما يزيد عن مليونين آخرين. غير أن النزعة الإنسانية التي تعتري ما يسمى بالمجتمع الدولي إزاء مأساة سكان درافور تثير الكثير من الريبة، خاصة في ظل السكوت على مآسي لا تقل حدة كما هو حاصل في الأراضي الفلسطينية الخاضعة للحصار منذ نحو عام ونصف العام، والأهم من ذلك السكوت على القمع الهائل الذي كانت تمارسه نظم الحكم السودانية المتعاقبة في إقليم جنوب السودان، عندما كانت هذه النظم صديقة للولايات المتحدة وقبل أن تكتشف الاحتياطات النفطية الضخمة في الإقليم.

العرب والأفارقة

يبلغ عدد سكان دارفور نحو خمسة ملايين شخص، وهم خليط من القبائل الأفريقية التي تعمل بالزراعة وأهمها الفور والمساليت والزغاوة، والقبائل العربية من البدو الذين هاجروا إلى غرب السودان منذ مئات السنين. وقد نتج عن قرون من التزاوج بين العرب والأفارقة إلى تجانس فيزيقي بين سكان الإقليم بحيث لم يعد في الإمكان التفرقة بين من هو من أصل عربي ومن هو من أصل أفريقي. واستمر هذا التعايش حتى منتصف عقد الثمانينيات حينما اجتاحت غرب السودان موجة جفاف عارمة. لكن أحدا لم يول اهتماما لهذه الكارثة، حيث أن نظام الحكم في السودان كان شغله الشاغل نهب موارد الشعب ومواجهة الغضب الناجم عن تزايد الفقر، والتصدي لحركة تحرير شعب السودان في الجنوب. في ظل الفقر الحاد والصراع على البقاء، كان طبيعيا ان ينشأ التنافس بين السكان العرب والأفارقة على الماء والمراعي. وساعد على ذلك تشجيع الحكومات السودانية المتعاقبة –التي اتسمت كلها بالعنصرية— لميول الاستعلاء والعنصرية لدى العرب في مواجهة ذوي الأصول الأفريقية.

غير أن التطور الأهم للأزمة في غرب السودان، كان مع قيام الحكومة السودانية منذ عام 1986 بتسليح ميليشيات الجنجويد، بهدف مواجهة حركة تحرير شعب السودان في الجنوب، وهو الموقف الذي ساعد عليه توفر الأسلحة بكميات هائلة وبأسعار رخيصة للغاية في غرب السودان، بسبب الحرب الأهلية في تشاد والنزاع التشادي الليبي. ومع مجيء نظام البشير الموالي لجبهة الإنقاذ الإسلامي في عام 1989، كان طبيعيا تصعيد النزعات الدينية والعرقية. فمن أجل الحصول على الشرعية في مواجهة تفاقم الفقر، كانت الحكومة السودانية تصور حربها من أجل استغلال ثروات الجنوب باعتبارها حرباً للدفاع عن وحدة السودان في مواجهة المتمردين المسيحيين. من ناحية أخرى، كان هذه الحكومة ترفع في الوقت نفسه من شأن الانتماء العربي في مواجهة السكان الأفارقة – حتى لو كانوا مسلمين— مثل قبائل البجا في الشرق السودان، والفور في غرب السودان. في ظل هذا الوضع أطلقت الحكومة السودانية يد الميليشيات العربية في الاعتداء على ممتلكات وأرواح مزارعي دارفور من القبائل ذات الأصول الأفريقية، وأصبح جرائم القتل والنهب والاغتصاب من المفردات اليومية في حياة سكان دارفور من الأفارقة.

وكان اتفاق السلام في جنوب السودان عنصراً فارقاً بالنسبة للوضع في دارفور. فقد تضمن الاتفاق الذي وقعته الحكومة السودانية وحركة تحرير شعب السودان، منح الجنوب حكماً ذاتياً وتحديد فترة انتقالية قدرها ست سنوات يقرر بعدها الإقليم مصيره، سواء بالاستقلال أو الاستمرار في إطار السودان.

غير أن هذا الاتفاق كان من آثاره نشأة حركتي تحرير السودان العدل والمساواة اللتان بدأتا في خوض نزاع مسلح منذ نحو أربعة أعوام ضد القوات السودانية واستولت على عدد من المدن، وهو ما نتج عنه استعانة حكومة السودان بميليشياتها المسلحة لتمارس الفظائع ضد سكان غرب السودان. ولكي تغطي حكومة السودان على جرائمها، تسعى إلى تصوير مشكلة دارفور كما لو كانت مجرد صراع بين الغرب من جهة والعرب والمسلمين من جهة أخرى.

صراع المصالح

يصعب فهم الاهتمام الدولي بدارفور بمعزل عن الصراع بين الدول الكبرى على الهيمنة على ثروات السودان. فهذا البلد الذي بدأ في تصدير النفط في 1993، ليمثل الآن70% من ناتجه المحلي، يحتوي في هذه اللحظة على أكبر احتياطيات النفط غير المستغل في القارة. والولايات المتحدة من جانبها تريد استقرار أوضاع السودان في منطقة الغرب من أجل احتياطي النفط به وبالمنطقة بأكملها، حيث تبين مؤخراً أن تشاد بها احتياطيات نفطية ضخمة أيضاً. لكن العقوبات الاقتصادية الأمريكية على نظام البشير كانت سببا في إبعاد الشركات الأمريكية عن عمليات التنقيب والاستخراج التي تسيطر عليها حالياً شركات صينية. فقد برزت الصين كأقوى شريك تجاري ومستثمر في السودان، حيث أن القوة الصينية الجبارة الصاعدة مهتمة باستغلال الطاقة النفطية في تلك المنطقة لأجل عملية النمو المتسارعة هناك، دون أن يعنيها، ولو من الناحية الشكلية، أية اعتبارات حول حقوق الإنسان. ومن هنا كانت الرغبة الأمريكية في التدخل في شئون الإقليم حتى تستطيع منافسة الصين. والاتحاد الأوروبي من جانبه، يبدي اهتماماً بدارفور لأنه الشريك التجاري الثاني للسودان بعد الصين. وترغب شركات أوروبية كبرى، مثل شركة توتال الفرنسية، في استعادة دورها في استغلال النفظ في الإقليم بعد أن توقفت أعمال التنقيب التي تقوم بها الشركة في غرب السودان بسبب الصراع في دارفور.

مأزق النظام السوداني

خلال أربع سنوات منذ تفاقم أزمة درافور، يجد نظام البشير نفسه مضطراً إلى تقديم التنازل تلو الآخر. فالسياسة الأمريكية الحالية التي لا تترك سوى خيارين هما «التعاون» أو «مواجهة العواقب»، أجبرت هذا النظام على توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار في دارفور عام 2004، ثم اتفاق السلام مع واحدة من حركات التمرد عام 2006، ثم القبول مؤخراً بنشر قوة حفظ سلام أفريقية دولية مشتركة في الإقليم – بعد أن ظل البشير يرفض ذلك بإصرار. وتبقى القضية الخلافية الأساسية في اللحظة الراهنة، هي رفض السودان لتسليم المسئولين المتهمين بممارسة جرائم حرب في درافور إلى المحكمة الجنائية الدولية. وبخلاف ما يزعم البشير، ليس لهذا الرفض أية اعتبارات تتعلق بالسيادة الوطنية، ولكنه يرجع إلى الخوف من أن يؤدي التحقيق إلى ثبوت تورط مزيد من المسئولين السودانيين في الجرائم التي ارتكبت بحق سكان درافور.

وأخيراً يبدو التساؤل الأهم هو كيف يمكن وقف مأساة سكان الأقليم؟ هل يمكن للقوى الاستعمارية أن تقدم الحل؟ أم أن تحرير سكان الإقليم سيتم من خلال الحركات المسلحة هناك؟ تشير تطورات الصراع في السودان وفي كافة الدول ذات التعددية العرقية والدينية، أنه لا يمكن الوثوق بأن القوى الاستعمارية تسعى حقيقة إلى الدفاع عن الأقليات المضطهدة. من ناحية أخرى، فإن تطورات الصراع في غرب السودان تشير إلى أن الحركات المسلحة التي يبلغ عددها 16 حركة الآن بفعل نمو الانقسامات والانشقاقات، لا هم لها إلا النهب وتعزيز النفوذ في الإقليم. لذلك يبقى السبيل الوحيد لتحرير سكان درافور هو وحدة الفقراء في غرب وشرق وشمال وجنوب السودان، في مواجهة نظام الحكم العنصري الذي يسعى للعب على الأوتار الطائفية والعرقية من أجل الحفاظ على البقاء، والقوى الاستعمارية التي تتصارع على ثروات المنطقة بدعوى الاهتمام بالمأساة الإنسانية في دارفور.