ديمقراطية جنرالات موريتانيا
في أبريل الماضي شهدت موريتانيا انتخابات ديمقراطية لاختيار رئيس جديد للبلاد. قد يكون هذا حدثا عاديا في كثير من بلدان العالم. ولكن في موريتانيا الوضع مختلف. فالانتخابات جاءت وفاءً لوعد قائد انقلاب الثالث من أغسطس 2005، أعلى ولد محمد فال، بتشكيل حكومة انتقالية لمدة لا تزيد عن سنتين ترسخ خلالها دعائم الحياة الديمقراطية، تليها بعد ذلك انتخابات يختار فيها الشعب الموريتاني رئيسه.
لهذا السبب وقف الجميع “مشدوها” أمام التجربة الموريتانية التي تبشر، حسب وسائل الإعلام، ببزوغ قمر جديد في سماء الديمقراطية في صحراء الدول العربية التي تعطلت فيها عجلة الإصلاحات الديمقراطية لعقود.
لكن التجربة الموريتانية أثارت تساؤلات عدة حول السبب الذي يجعل حاكم عسكري يتنازل بإرادته الحرة عن السلطة، وجعلت البعض، خاصة في الدول العربية، يتمنى أن يتكرر النموذج الموريتاني. ما حدث في موريتانيا إذن يستحق أن نلقي عليه نظرة عن قرب علّنا نجيب عن السؤال التالي: هل يمكن أن يجيء العسكر بديمقراطية حقيقية؟
الخريطة السياسية الموريتانية
في تسعينات القرن الماضي كانت أكثر القوى السياسية في البلاد تنظيما وقدرة علي التعبئة تتمثل في التيارين اليساري الموريتاني والقومي الزنجي اللذين لعبا أبرز الأدوار في تشكيل جبهة تسمى “أفديك” حملت لواء المعارضة للنظام العسكري بقيادة الرئيس المخلوع ولد الطايع. طالبت الجبهة، من خلال المنشورات السرية، بانفتاح سياسي بعد أكثر من عشر سنوات من حكم العسكر.
لكن في نفس المرحلة تلقت المعارضة في موريتانيا ضربة شديدة العنف بعد انقسام حزب اتحاد القوى الديمقراطية، أكبر الأحزاب المعارضة وأقدمها، على نفسه، وذلك بعد هزيمة مرشحه أحمد ولد داده، الزعيم المعارض الذي عاد من هجرته الطوعية بالغرب باقتدار مالي وحالة من النقاء عن الانتماء الأيديولوجي حفزته علي دخول انتخابات الرئاسة التي فاز فيها مرشح العسكر ولد الطايع بنسبة تجاوزت الـ60%. فعلى أثر الانتخابات انشق الحزب الي كتلتين كل منهما مثّل فريقا هشا يعارض نظاما عسكريا فاسدا ومستبدا.
وفي مقابل ذلك، وفي ساحة سياسية تتسم بالضعف والتشرذم، برز في نفس المرحلة تيار جديد هو التيار الإسلامي الموريتاني، وهو تيار يُعرف بفكره الوسطي القريب جدا لفكر الإخوان المسلمين في مصر. وهو قد مرّ بالعديد من المراحل والتفاعلات ساعيا للمشاركة في الحياة السياسية بشكل أكبر إلى حد نجاحه في السيطرة علي نقابات كالأساتذة والطلاب.
ومع اندلاع انتفاضة الأقصي (28 سبتمبر 2000) برز الإسلاميون كأهم القوى المناهضة لنظام الرئيس المخلوع ولد الطايع، واستخدموا كل أدواتهم لمواجهة هذا النظام، ونقلوا المعركة إلى ساحات المساجد والجامعات قبل نقلها إلي الشارع، بدءا بمهرجان النفير، وانتهاء بالمواجهات اليومية في الساحات العمومية وأمام السجون.
وقد ظهر الثقل الجماهيري لهذا التيار خلال المؤتمرات والفعاليات الشعبية التي نظمها أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير علي لبنان. حيث شارك فيها الآلاف من أنصاره، مما ساهم في تصاعد الحديث عن إمكانية اكتساحه الانتخابات التشريعية والبلدية المقبلة. وعلى الرغم من أن التيار لا يعرب عن نفسه في حزب سياسي (ذلك أنه منذ ظهور نظام التعددية الحزبية في موريتانيا في بداية التسعينات والإسلاميين يواجهون رفض الحكومات المتوالية مطلبهم إنشاء حزب سياسي)، إلا أن السلطات لا تمنعه من ممارسة العمل السياسي.
وأخيرا، ولإكمال صورة القوى السياسية الموريتانية، نشير إلى حزبي الصواب وتمام، وهما حزبان من أهم التشكيلات السياسية الجديدة وأكثرها حضورا علي الساحة. ينتمي الأول لدائرة الأحزاب القومية، حيث يعتبره البعض امتدادا لتيار البعث الموريتاني الذي لقي حتفه من زمن. أما الثاني فهو مزيج من المستقلين والزنوج برز أصحابه خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة ويرأسه الدكتور الشيخ ولد حرمه.
نستطيع أن نقول إذن أن الحياة السياسية في موريتانيا ضعيفة جدا؛ لم تنضج بما يكفي للاتصال المباشر بالجماهير ولجذب ثقتها وتأييدها للمشاركة في الحقل السياسي، أو للقضاء علي طائفية/عنصرية اللون السائدة في المجتمع. وربما يعود ذلك الي تأخر استقلال البلاد بشكل نسبي (1961) وتأخر نظام التعددية الحزبية في البلاد (1991)، بالإضافة إلي فترات الحكم الشمولي العسكري والانقلابات المتوالية التي قضت علي أية بذور حقيقية لبناء حياة ديمقراطية متماسكة في البلاد.
أزمة تحت المجهر
في 19 أبريل 2007 قام رئيس الدولة بالجمهورية الإسلامية الموريتانية العقيد أعلى ولد محمد فال بتسليم السلطة للرئيس المنتخب سيدي ولد الشيخ عبد الله بعد انتخابات رئاسية تعددية أجريت في مارس 2007.
سيدي ولد الشيخ عبد الله هو أول رئيس في موريتانيا لم يرتدي رداء العسكرية من قبل، باستثناء مؤسس الدولة المختار ولد الداده، وهو ما يجعل من التجربة الموريتانية تجربة فريدة لم يشهدها العالم العربي والأفريقي من قبل إلا في حالة السودان.
ولكن الفهم الأعمق للتجربة يتطلب منا في البداية قراءة المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي سبق مباشرة عملية الانقلاب العسكري الأخير الذي قام به ولد فال ومجموعة القادة العسكرين في أغسطس 2005.
كان ولد الطايع من أكثر المؤيدين لنظام الرئيس العراقي صدام حسين أثناء حرب الخليج الأولي ضد أمريكا. ولكن بنظرة أعمق لمصلحة الطبقة الحاكمة والرأسمالية الموريتانية رأي أنه سيربح أكثر إذا ارتمى في أحضان الولايات المتحدة الأمريكية.
وبالفعل بحلول عام 1999 كان ولد الطايع قد جعل موريتانيا واحدة من ثلاث دول عربية تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. ولكن ذلك لم يدفع الشعب الموريتاني إلا للمزيد من التمسك والوقوف بجانب القضية الفلسطينية. وتأججت المشاعر القومية والدينية ضد ولد الطايع، وحدثت حالة من عدم الاستقرار في الأوضاع الموريتانية ازدادت سوءا بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولي عام 2000، في ظل بروز التيار الإسلامي والتصاعد الملحوظ في شعبيته في الأوساط الجماهيرية والنخبوية.
وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 أصبح ولد الطايع مشاركا نشطا في مشروع بوش للحرب علي الإرهاب. ومن خلال ذلك قام بحملات شديدة العنف ضد الإسلاميين اعتقل خلالها الآلاف واقتحم المساجد. زادت بشاعة الحملة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة عليه في 2003. حيث اتهم مجموعات كبيرة منهم بالانتماء لجماعات سلفية جزائرية علي علاقة مباشرة بتنظيم القاعدة، واتهم البعض الآخر بمحاولة انقلاب غير شرعية عليه.
وعلي الجانب الآخر اتهمت العديد من القوى الرئيس ولد الطايع بأن هجمته الشرسة علي الإسلاميين تأتي كمحاولة لكسب ود الولايات المتحدة الأمريكية ليصبح بذلك واحدا من أكبر عملاء الإمبريالية في منطقة الصحراء الغربية.
ولكن بعد ظهور بوادر فشل مشروع الحرب علي الإرهاب، وبعد تعثر عملية احتلال العراق، ومع ظهور الوجه القبيح لأمريكا وأغراضها في المنطقة، ازداد الوضع سوءا وتزايد الغليان الداخلي وعدم الاستقرار بصورة ملحوظة أوحت بقرب الانفجار.
هذا عن المشهد السياسي. أما المشهد الاقتصادي فحدّث ولا حرج. يبلغ متوسط دخل الفرد في موريتانيا 530 دولارا، ويصل معدل التضخم بها إلي 4.5%، وذلك طبقا لتقديرات عام 2000. وتعاني موريتانيا من نسبة بطالة وصلت إلى 29% حسب إحصاءات صندوق النقد. أما نسبة من يعيشون تحت خط الفقر فكانت 50% في عام 1996، في حين تزايد حجم المديونية الخارجية لموريتانيا بشكل كبير حتى وصل إلي 2.1 مليار دولار طبقا لصندوق النقد الدولي عام 2000.
هذه الحصيلة المفجعة لأوضاع الاقتصاد الموريتاني تؤكد أنها من أشد بلاد العالم الثالث فقرا. وهو أمر لم يأت من فراغ، ولكنه نتاج لسياسات اقتصادية فاشلة تم تطبيقها علي مدار عقود، بالإضافة لمنظومة الفساد المالي والإداري الواسع. وبالطبع هناك الانسياق الكامل وغير المحدود للدولة وراء سياسات البنك والصندوق الدوليين. حيث التزمت السلطات بتنفيذ وصفتهم السحرية التي قضت على الأخضر واليابس، وذلك خوفا من انقطاع الدعم الخارجي والذي يمثل المصدر الرئيسي لإيرادات الدولة.
تلخصت روشتة المؤسسات الدولية كالعادة في تحسين كفاءة الجهاز الضريبي, وتقليص النفقات العامة وقيمة العملة المحلية، وتصفية البنوك العامة “المتعثرة”، وفتح الاستيراد علي مصراعيه، وإلغاء دعم السلع لتترك أسعارها تحت تأثير العرض والطلب، إضافة إلي خصخصة معظم المؤسسات العامة. حيث انتقلت موريتانيا نهائيا من القطاع العام إلي القطاع الخاص في منتصف الثمانينات رغم أن القطاع الخاص الموريتاني كان لا يزال هشا ومحدودا، مما يعني بشكل غير مباشر فتح الباب علي مصراعيه للقطاع الخاص الأجنبي الذي يلبس الزي الموريتاني ليتحكم في أهم مفاصل الاقتصاد “والفقراء لهم الجنة”.
أدت تلك السياسات الاقتصادية إلى عدم استقرار سياسي ظهرت تجلياته في مظاهرات حملة الشهادات العاطلين الذين لا تصل نسبتهم إلى 2% من مجموع سكان موريتانيا, وفي تململ الطبقات المسحوقة والنقابات العمالية. فالدولة فقدت الكثير من آليات التأثير في النشاط الاقتصادي التي كانت تتيح للفئات الأكثر فقرا في المجتمع الاستفادة منها.
وكما أشرنا، كان من العوامل التي ساهمت في وصول هذا الاحتقان الداخلي إلى ذروته إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل في أكتوبر 1999.
وهكذ، عاشت حكومات العسكر المتوالية في موريتانيا حالة توافق مع البنك والصندوق الدوليين، وعاش معها الوضع الاقتصادي والسياسي حالة متصاعدة من عدم الاستقرار الذي أصبح في وقت من الأوقات يهدد وجود ومصالح الطبقة الحاكمة والرأسمالية، بالإضافة إلي استثمارات الأجانب.
وعلى الجانب الآخر ظهرت توقعات بأن يشهد الاقتصاد الموريتاني آفاقا واعدة في المستقبل بعد ظهور مؤشرات حول اكتشاف كميات هامة من النفط والغاز يحتاج استخراجها إلي استثمارات معتبرة ناهزت المليار دولار. وقد ظهر ائتلاف من الشركات العالمية بزعامة شركة “وود سايد” الأسترالية طارحا تمويل هذه العملية وقطف الثمرة.
بهذه الصور يكتمل المشهد. فالرأسمالية الموريتانية كانت في حاجة لإيجاد مخرج من عدم الاستقرار الذي وسم السياسة الموريتانية في السنوات الأخيرة من حكم ولد الطايع، وذلك لحماية استثماراتها وترسيخ استغلالها والحفاظ علي مكتسباتها، وأيضا لفتح الآفاق الجديدة للاستثمار النفطي. فما كان من القوة الأكبر في موريتانيا، المؤسسة العسكرية، إلا أن تدخلت لإعادة الاستقرار إلي الحياة السياسة.
بالطبع كانت المؤسسة العسكرية هي أقدر من يقوم بهذه المهمة! فهي طالما اعتادت أن تقوم بها! فقام ولد فال وأعضاء المجلس العسكري بمحاولة انقلاب ناجحة أعلنوا بعدها في مؤتمر صحفي أنهم سوف يشكلون حكومة انتقالية تقوم بتهيئة الأوضاع ورصف الطريق وتثبيت دعائم حياة ديموقراطية في موريتانيا تمهيدا لتسليم السلطة للمدنيين. وهو ما حدث فعلا.
السؤال هنا هو لماذا لم يتول ولد فال استكمال المسيرة وحمل لواء حكم العسكر بعد ولد الطايع لتحقيق المناخ المستقر للرأسمالية الموريتانية؟ وما الذي جعله يتنازل عن السلطة للمدنيين بهذه الصورة الرومانسية بتوافق جميع قيادات المجلس العسكري؟
ديمقراطية العسكر لماذا؟
تكمن الإجابة ببساطة في طبيعة المرحلة وظروفها وطبيعة النظام العالمي وخصائصه وتطوراته. هذه الطبيعة وتلك الظروف يمليان علي صاحب الفطنة أن يسايرهما. فالنظام العالمي اليوم يسير في اتجاه الدفع المباشر نحو ما يسمونه بـ”الديمقراطية” وتوفير هامش الحريات في المجتمع وإظهار قوي المعارضة الهشة أو الموالية لسياسات النظام القائم لتتواجد علي الساحة السياسية. الديكتاتوريات العسكرية، خاصة في ظل دولة كموريتانيا أنهكتها الانقلابات، ليست هي الاختيار الأول للإمبريالية وحلفائها. فإن توفرت فرصة لنظام حزبي موال، فهذا سيكون الاختيار الأفضل. وهو ما كان.
لكن هذا لا يعني إنزواء المؤسسة العسكرية الموريتانية تماما. إذ تظل تلك المؤسسة في دولة مثل موريتانيا هي الأقوى، وهي التي تدير كافة شؤون الحكم من خلف الكواليس، وهي أيضا المتحكمة في جميع خيوط اللعبة في أيديها. إذن فالصيغة هي حكم مدني بدعم عسكري، وهو ما ظهر في تأييد العسكريين الواضح لسيدي ولد الشيخ عبد الله، بصفته المرشح المرغوب لتهيئة الظروف لانتعاش أوضاع حكام وأثرياء موريتانيا.
موريتانيا والمستقبل
قد تكون الصورة الآن أكثر وضوحا للبعض. ولكن في كل الأحوال يتبقى لنا أن نستعرض بعض النقاط الهامة في التجربة الموريتانية. وهي التي تتعلق بمستقبل التجربة وتقييمها.
نبدأ بالإجراءات التي اتخذها ولد فال بموافقة المجلس العسكري للعدالة والديموقراطية عقب الانقلاب الذي قاموا به. حيث قام باتخاذ العديد من الإجراءات الديمقراطية بهدف ضمان شفافية العملية الانتخابية وتحسين مقومات الحياة السياسية في المستقبل، كما رفع الوصاية عن كل أشكال الإعلام وأصدر قانون تنظيم المعارضة السياسية. كل هذه الإصلاحات الديمقراطية لا يستطيع أحد أن ينكر أنها إنجازات هامة تفتح مساحات جديدة للحرية للقوى السياسية وللحركة الجماهيرية والشعبية من أسفل.
ولكن كل هذه الإصلاحات هي إصلاحات فوقية أهداها المجلس العسكري للشعب في عملية رومانسية أشبه بروايات السينما! هذه إصلاحات لم تأت نتيجة ضغط جماهيري حقيقي وواعي, أو بعد حركة جماهيرية واسعة تضرب بجذورها في الأرض، بل إنها أتت، ربما، لدرء خطر مثل هذه الحركة.
والمشكلة في موريتانيا، كما في غيرها من البلدان التي عانت طويلا من حكم العسكر، هي الضعف البالغ في المنظمات الجماهيرية وفي الحركات الشعبية، في ضوء الضرر البالغ الذي لحق بها من الأنظمة الحاكمة المتعاقبة. وفي نفس الوقت فموريتانيا دولة تعاني من انتشار الأمية والفقر وغلبة الولائات القبلية والمناطقية والمنفعة المادية علي أولويات الصالح العام والانتماءات الحزبية والأيديولوجية، مما يعرقل دور المؤسسات المدنية في مراقبة السلطات والنضال من أجل حقوق الأفراد وخلق مجتمع سياسي ومدني قوي.
وهذا كله يعني أن حسابات الغرب والعسكر والرأسماليين في موريتانيا، وهي حسابات مؤقتة ولا شك، أن اللحظة كانت مهيأة، بسبب ضعف الحركة من أسفل، وضعف المعارضة الجذرية، لصناعة ديمقراطية مأمونة لا ضرر منها على مصالح أصحاب المصالح.
لكن فلننظر إلى مضمون الديمقراطية الناشئة في موريتانيا. هذه ديمقراطية تستمر في إقامة علاقات مع الكيان الصهيوني مصرة على ذلك إيما إصرار على أساس أن تلك العلاقات ستستمر حتى ولو أدى ذلك إلى حد الخراب والدمار (ألا يذكرنا هذا بالنظام المصري “الديكتاتوري”؟). هذه ديمقراطية تستمر في منع التيار الإسلامي المعتدل من حقه في تكوين حزب سياسي، رغم كل المرونة والاعتدال الذي أبداهما (واللذين وصلا إلى حد اختياره لاسم الإصلاحيين الوسطيين سدا لذرائع من يتهمونه باحتكار الصفة الإسلامية). وهذه ديمقراطية تستعد لمنح متيازات نفطية ضخمة لاحتكارات دولية.. الخ.
إذن فهذه هي الديمقراطية التي صنعتها البرجوازية، وقادة شرطتها وجيشها، بمعزل عن الشعب؛ هي ديمقراطية هشة ومنقوصة يستطيع النظام الحاكم أن ينتزعها في أي وقت. هي ديمقراطية مضمونها هو تغيير طريقة حكم الرأسمالين والأغنياء والقيادات العسكرية والنخب المدنية، وليس تغيير مضمون الحكم وسياساته.
فالحرية التي تُهدى يمكن استردادها. ولكن تلك التي تنتزعها حركة شعبية تضرب بجذورها في صحراء موريتانيا هي الباقية. إذ تبقى ديمقراطية موريتانيا هشة ومعلقة بمصالح من طلبوها ونفذوها. فلو حدث مثلا أن تحقق ما يتنبأ به المحللون من انتصار انتخابي للتيار الإسلامي الوسطي في الانتخابات التشريعية والمحلية المقبلة، ولو رأى الرأسماليون المحليون والأجانب في هذا خطرا على الاستقرار، فسوف نرى – ربما – إنقلابا جديدا يذكرنا بما حدث في الجزائر، أو غيرها من البلدان التي صنعت ديمقراطية لخدمة الأرباح، وعصفت بها أيضا لخدمة الأرباح.
تبقى موريتانيا وتجربتها في مهب الريح. والمستقبل ستحدده إمكانيات صعود وتنظيم حركة شعبية واسعة قادرة على استغلال هامش الحرية المتوفر لتثبيت دعائم تحرر أشمل وأعمق يعمل لمصلحة الفقراء.