فجر يلتسن الكاذب
أنطفأ نجم يلتسن سريعًا، وتراجع تأثيره الجماهيري. فقد أثبت أنه لم يقدر على حل الأزمة الاقتصادية والسياسية الطاحنة التي تجابهها روسيا. فإلى أين تتجه روسيا بعد يلتسن؟ إلى “شيوعية” ريوجانوف أم فاشية جيرنوفسكي، أم إلى الطريق العمالي الاشتراكي؟
قبل حوالي خمسين شهرًا لا أكثر كان أسم “بوريس يلتسن” مرادفًا للديمقراطية ذاتها! ألم يقد الرجل مقاومة الجماهير الروسية للانقلاب العسكري اليميني في أغسطس 1991 الذي حاول به بعض قيادات النظام الإطاحة بجورباتشوف والعودة بعقارب الساعة إلى ما قبل البريستورويكا؟ قبلها كان يلتسن قد حظى بشكل متزايد بإعجاب تلك الجماهير عندما لمع نجمه أولاً كجندي مخلص للبريستورويكا في سنواتها الأولى (1986 – 1989) يحاصر الفساد والبيروقراطية في موسكو من خلال موقعه كمسئول اللجنة الحزبية للعاصمة. ثم ما لبث الإعجاب أن تحول إلى شعبية جارفة عندما راح يلتسن يتمرد على عبادة جورباتشوف ويناضل من أجل اصطلاحات ديمقراطية أكثر جرأة وجذرية، ولا يتوانى عن التضحية بموقعه الحزبي المرموق بعدها تبين له أن “الحزب انفصل تمامًا عن الشعب، ولم يعد أمامي من خيار إلا أن أكون مع الشعب”.
وأخذ يلتسن يستغل شعبيته المتنامية في موسكو في منافسة جورباتشوف من خارج هياكل النظام السوفيتي. فقد أعلن استقالته من عضوية الحزب الشيوعي السوفيتي في 1990، وما أن انتخب رئيسًا لمجلس السوفيت (البرلمان المحلي لروسيا في إطار إصلاحات البريستورويكا) حتى سار به سريعًا نحو ترسيخ استقلال روسيا الذاتي عن السلطة المركزية للاتحاد السوفيتي، ثم دفع البرلمان في يونيو 1991 لاستحداث منصب “الرئيس” لجمهورية روسيا الاتحادية وانتخابه لتولي هذا المنصب متحديًا بذلك هيكل الاتحاد السوفيتي. وعندما امتطى يلتسن في أغسطس 1991 دبابة من دبابات الانقلاب الحكومي الفاشل منصبًا نفسه قيادة “للمقاومة الشعبية الديمقراطية” فإنه تحول في مخيلة الجماهير الروسية إلى “المسيح الخلص” الذي جاء لكي ينقذ روح روسيا المعذبة من جحيم “إمبراطورية البشر”، وصار مجرد ذكر أسمه يستدعي في الوجدان الشعبي معنى الكفاح الديمقراطي ضد “الشيوعية” والشمولية.
ولكن يا لخيبة الأمل فسرعان ما تحول يلتسن من “المسيح المخلص” إلى المسيخ الدجال” في واحد من أكثر الأمثلة سطوعًا على هزال وسذاجة “التفاؤل الديمقراطي” الذي واكب انهيار الستالينية في أوربا الشرقية في 1989 تم في الاتحاد السوفيتي في 1991. كيف ولماذا باء يلتسن بهذا الفشل الذريع؟ وما هي آفاق المستقبل بالنسبة لروسيا المعذبة؟ يسعى هذا المقال للإجابة على هذه الأسئلة حيث نستعرض أولاً بإيجار سجل يلتسن خلال سنوات حكمه الأربع التي انهارت خلالها الآمال المعلقة عليه سواء على مستوى إنعاش الاقتصاد وإخراجه من أزمته أو تحقيق الديمقراطية وترسيخها. ثم نحاول بعد ذلك تفسير هذا الفشل من خلال إلقاء الضوء على صعوبات وتناقضات الانتقال من شكل للتراكم والاستغلال الرأسماليين (رأسمالية الدولة) إلى شكل جديد من التراكم والاستغلال الرأسماليين (هو مزيج من رأسمالية الدولة والرأسمالية المتعددة الجنسيات). وأخيرًا يرصد المقال أبرز نتائج مأزق يلتسن، وعلى الأخص صعود اليمين الفاشي.
سجل يلتسن: الاقتصاد:
اطلق يلتسن رصاصة الرحمة على الاتحاد السوفيتي في 8 ديسمبر 1991 عندما عقد مع كرافتشوك رئيس أوكرانيا وشرشكيفتش رئيس روسيا البيضاء اتفاق “بيلا فيجسا بوشا” الذي ألغى المعاهدة الاتحادية التي كانت قد وقعت في 1922 وتأسس بموجبها الاتحاد السوفيتي. وبهذا انتهى الاتحاد السوفيتي رسميًا وتم إقصاء جورباتشوف عن السلطة بعدما قضى الشهور الأربعة التي أعقبت انقلاب أغسطس 1991 الفاشل رئيسًا صوريًا، سجينًا داخل أسوار الكرملين.
واختار يلتسن في يناير 1992 أن يتعامل مع مشكلات الاقتصاد الروسي من خلال “العلاج بالصدمات” فاستدعى الاقتصادي الشباب “أيجور جيدار” نبي اقتصاد السوق حيث عينه رئيسًا للوزراء في خطوة فاجأت الجميع، وعلى الفور أقدمت وزارة جيدار، التي ضمت العديد من الاقتصاديين الأكاديميين المؤمنين بالليبرالية الجديدة على تحرير أسعار كافة لسلع فيما عدا عددًا محدودًا من السلع الأساسية. كان الهدف هو زيادة كفاءة الاقتصاد عن طريق أعمال آليات العرض والطلب. إلا أن نظرية السوق الحر سرعان ما اصطدمت بالواقع الأليم. فالاقتصاد الروسي هو أحد الاقتصاديات الأكثر تركيزًا في العالم حيث أن ما لا يزيد عن ألف شركة عملاقة تقوم بإنتاج ما يزيد عن نصف الناتج الصناعي. وكان معنى “تحرير” الأسعار ببساطة هو السماح لهذه الشركات الكبرى بطرح منتجاتها في السوق بأسعار ببساطة هو السماح لهذه الشركات الكبرى بطرح منتجاتها في السوق بأسعار فلكية لم تعكس تفاعل العرض والطلب بقدر ما عكست الوضع الاحتكاري لهذه الشركات الذي سمح لها في أحيان كثيرة بتجاوز الأسعار السائدة في السوق العالمي.
كانت هناك طريقة واحدة “منطقية” لمواجهة هذه المشكلة: فتح أبواب الاقتصاد الروسي أمام المنافسة العالمية بحيث تضطر الشركات لتخفيض أسعارها. ورأى أنبياء الليبرالية الاقتصادية أن من شأن ذلك أن يجبر الشركات غير الكفؤة على الإفلاس وبالتالي كفاءة الاقتصاد ككل. ومرة أخرى تصطدم العقيدة الجديدة بالواقع المر. ففي ظل اقتصاد على هذه الدرجة العالية من تركيز وتمركز رأس المال (1)، يمكن أن يؤدي إفلاس عدد قليل من الشركات الأساسية إلى كسر العمود الفقري للاقتصاد ككل. فإذا أفلست على سبيل المثال الشركة التي تنتج سلعًا وسيطة على نطاق واسع، فإن ذلك يؤدي إلى خراب واسع بالنسبة لمجموعة الشركات التي تمد أ بالمواد الخام وكذلك بالنسبة لمجموعة الشركات التي تستخدم منتجات أ في عمليات الإنتاج داخلها. وهكذا يصبح الإفلاس والخراب حلقة شريرة لا تنتهي.
ومن هنا اضطرت الحكومة للتراجع في صيف 1992 حيث بدأت تقدم دعمًا ماليًا هائلاً لتغطية ديون الشركات والحيلولة دون إفلاسها. بلغ هذا الدعم في 1992 رقمًا فلكيًا هو 3 تريليون (أو ثلاثة آلاف بليون) روبل. هكذا أصبح هناك مصدران للتضخم: الأول هو تحرير الأسعار الذي سمح للشركات أن تتعسف في رفع أسعارها، والثاني هو التزايد الهائل في طبع النقود لانقاذ الشركات المتعثرة. لقد شبه أحد الاقتصاديين الأمر بتناول الحبوب المنومة والملينة في وقت واحدًا الحبوب المنومة هي المعادل الطبي لنزع السيطرة الحكومية على الأسعار، والحبوب الملينة تعادل أوراق البنكنوت التي غمرت الأسواق. وكانت النتيجة بالطبع هي الأسهل الشديد (التضخم)!
تراوح معدل التضخم في روسيا في الفترة من 1992 إلى 1994 بين 300% و500% وراح سعر الروبل بتهاوي مقابل الدولار بسرعة مخيفة، كان سعر الدولار في عام 1991، عام انهيار الاتحاد السوفيتي، مائتي روبل، ثم ارتفع سعره، ليبلغ 1950 روبلاً في أغسطس 1994 ثم 5000 روبل في مايو 1995. وأخذت السياسة الاقتصادية تتخبط بين الضغط على الشركات عن طريق الانفتاح على السوق العالمي تارة، والتدخل في الوقت المناسب لمنع الخراب الشامل تارة أخرى. لقد ارتفع معدل الشركات إلى خمسين شركة أسبوعيًا في المتوسط، إلا أن السياسة الاقتصادية حرصت ألا يمتد الإفلاس إلى إي من الشركات الألف العملاقة التي تسيطر على نصف الاقتصاد.
أدى “العلاج بالصدمات” على طريقة جيدار إلى صدمات لا علاج فبحلول مايو 1994 انخفض الناتج القومي إلى 44% من مستواه في 1990 ثم انخفض مرة أخرى بنسبة 16% في 1995. وتشير الأرقام الرسمية إلى انخفاض الدخول إلى النصف منذ 1991. ولكن هذا الرقم الإجمالي يخفي تفاوتات هائلة حيث أن النصف الأول من 1992 وحده شهد ارتفاع دخل الـ20% الأغنى من السكان بنسبة 30%، وانخفاض دخل الـ20% الأفقر بنسبة 15%. وتشير الأرقام المتوفرة إلى أن حوالي 40 مليون شخص يحصلون على أقل من الحد الأدنى الرسمي للأجور، وأن حوالي 20 مليون شخص لا يحصلون على ما يكفل البقاء البيولوجي للإنسان.
سجل يلتسن: السياسة:
احتاج يلتسن لوقت قصير لكي يبدد الأوهام الديمقراطية حوله. فخلال قيادته لحركة المقاومة لانقلاب أغسطس 1991، فعل كل ما في وسعه لتلجيم غضب الجماهير إزاء الطبقة البيروقراطية الحاكمة. ويلاحظ بوبوق عمدة موسكو في ذلك الوقت:
كان إسهام يلتسن الأساسي كسياسي أنه رفض تمامًا فكرة تحويل الانتصار على الانقلابيين إلى تطهير شامل للنظام القديم، إلى ثورة على النمط اللينيني… وعلى عكس قادة الثورة الروسية في 1917، الذين كانوا على عداء مطلق للطبقة الحاكمة الروسية السابقة، كان بوسع يلتسن أن يرى الأقسام ذات الميول الإصلاحية في الحزب وغيره من الهياكل السوفيتية كاحتياطي ممكن… وبدون تأييد الرئيس الروسي لم يكن بوسعي على الإطلاق كعمدة موسكو أن احتوى الغضب الثوري للجماهير.
وراحت وعود يلتسن بالديمقراطية تتبدد في الهواء. ففي نوفمبر 1991 (قبل الانهيار الرسمي للاتحاد السوفيتي) قرر يلتسن تأجيل الانتخابات المحلية، وأعلن مستشاره “سرجي ستالكيفيش” محذرًا: فترة الإصلاحات الجذرية ليست الوقت المناسب لانتعاش الديمقراطية البرلمانية”. وخلال الشهور العشرين تقريبًا التي انقضت بين نهاية الاتحاد السوفيتي في ديسمبر 1991 دك يلتسن للبرلمان بمدافع الدبابات في أكتوبر 1993، راح يلتسن يضع هذا التحذير موضع التطبيق حيث دأب على تضييق الخناق على “الديمقراطية البرلمانية” من خلال انتزاع المزيد والمزيد من الصلاحيات الاستثنائية.
إلا أن يلتسن واجه صعوبة كبيرة في السيطرة التامة على البرلمان. فالتردي الكبير الناتج عن سياساته الاقتصادية راح يغذي الانشقاقات داخل صفوف النظام بين يلتسن وأنصاره ممن يطلق عليهم “الديمقراطيين الراديكاليين” من جانب، وعناصر ما يسمى ب “الوسط المعتدل” الذين دعوا لإبطاء وتيرة التحول من اقتصاد الأوامر إلى اقتصاد السوق من جانب آخر. وانضمت قوى “الوسط” هذه لخصوم يلتسن التقليديين من “الشيوعيين” والقوميين مما خلق معارضة برلمانية قوية بدأت تعمل على سحب السلطات الاستثنائية التي كان يلتسن قد انتزعها. وفي 21 سبتمبر 1993 قرر يلتسن حسم صراع القوة بينه وبين خصومه فقام بحل البرلمان بمرسوم رئاسي داعيًا لانتخابات جديدة. بعد أيام قليلة من إقالته لروتسكوي – أحد أقطاب المعارضة – من منصب نائب الرئيس. وعندما قاوم أعضاء البرلمان بقيادة حسبو لاتوف هذا الإجراء بالاعتصام داخل البيت الأبيض (مبنى البرلمان) جرت صدامات مسلحة بين أنصار الطرفين ضحيتها ألفي قتيل. وعند هذا الحد أمر يلتسن القوات المسلحة بالتدخل لإنهاء الاعتصام في البرلمان فقام وزير الدفاع المارشال بافل جراتشيف بقصف البرلمان بمدافع الدبابات مما أدى لاستسلام قادة المعارضة وإفساح الطريق أمام يلتسن و”ديمقراطيته”.
في أعقاب سحقه للمعارضة البرلمانية انطلق يلتسن نحو ترسيخ دكتاتوريته. فوفقًا للأرقام الرسمية تم اعتقال 89.250 شخصًا في موسكو – أي حوالي 1% من سكان المدينة – خلال الأسبوعين التاليين لدك البرلمان في 4 أكتوبر. وبدأ العمل بدستور جديد يعطي الرئيس صلاحيات وسلطات مطلقة إذ نصت إحدى مواده على أن الرئيس هو وحده “الضامن لدستور الاتحاد الروسي ولحقوق وحريات المواطنين” و”الحامي لحريات الاتحاد الروسي واستقلاله ووحدته كدولة” و”الكفيل بالأداء المتسق وعلاقات التفاعل بين هيئات سلطة الدولة”، وهو الذي “يحدد الاتجاهات الأساسية لسياسة الدولة الداخلية والخارجية”. وسرعان ما راح النظام يترجم هذه الصلاحيات الدستورية الواسعة إلى أمر واقع حيث “تورمت مؤسسة الرئاسة على نحو غير طبيعي في نظام ديمقراطي، بما ضم إليها من مؤسسات وأجهزة وإمكانيات، أصبحت رهن التصرف المطلق من الرئيس دون أدنى مسائلة أو رقابة من أحد”، كما يلاحظ لطفي الخولي.
إلى جانب دكتاتوريته المتزايدة داخل روسيا، راح يلتسن يمارس سياسة خارجية توسعية. فتحت وطأة تهديداته المستمرة بضم أراضي داخل بعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، أجير يلتسن حكام تلك الجمهوريات على التوقيع على اتفاقية اتحاد جديد يضمن لروسيا وضعًا مهيمنًا، وعلى الرضوخ لمطلب روسيا بالحصول على قواعد عسكرية، خاصة في المناطق بالبترول في القوقاز. وبالطبع فإن الوجه القبيح لهذه السياسية التوسعية قد أسفر عن نفسه في الغزو الدموي والبربري لشيشنيا في ديسمبر 1994. وجدير بالذكر أنه على الرغم من الأداء المخزي للجيش الروسي في حرب الشيشان وعدم شعبية الحرب داخل روسيا فقد استطاع يلتسن أن يواصل تلك الحرب البشعة بفضل التأييد الكبير الذي ناله من اليمين المتطرف بقيادة جيرينوفسكي صاحب أكبر كتلة برلمانية على أثر انتخابات ديسمبر 1993. ولم يكن فوز “الحزب الليبرالي الديمقراطي”، أحد أهم أحزاب اليمين الفاشي في روسيا والذي يقوده جيرينوفسكي، في تلك الانتخابات مفاجئًا فسياسات يلتسن داخليًا وخارجيًا خلقت إحباطا ومرارة عميقين في صفوف الرأي العام في البلاد ومثلث تشجيعًا كبيرًا لأقصى اليمين بنزعاته القومية المتطرفة والسلطوية. وكما شجعت سياسات يلتسن على صعود اليمين المتطرف، فإن هيمنة هذا اليمين على البرلمان صبت في مصلحة يلتسن حيث وفرت التأييد البرلماني اللازم لمغامراته العسكرية خارج روسيا.
كان هذا هو الحصاد السياسي يلتسن الأربع في السلطة: في 1991، وعد الروس بتحقيق وترسيخ الديمقراطية ونبذ الإمبراطورية؛ وفي 1995، كان من الواضح أنه نبذ الديمقراطية وبذل كل ما في وسعه لترسيخ الإمبراطورية؛ فلماذا تخلى يلتسن عن وعوده كلها بهذه السرعة؟ للإجابة عن هذا السؤال، ينبغي وضع فشل يلتسن في سياقه التاريخي: صعوبات الانتقال من أحد أشكال التراكم الرأسمالي إلى شكل جديد.
جذور الفشل:
يقف أغلب “الماركسيين” اليوم مشدوهين أمام ما يحدث في روسيا. إنهم يتساءلون: كيف تحولت “الاشتراكية الظافرة” (مهما كانت مشوهة أو متدهورة) إلى رأسمالية مأزومة؟ وكيف انقلبت “قلعة الصداقة بين الشعوب” إلى مستنقع للصراعات القومية الدموية؟ لقد حالت مثل هذه الأوهام حول الاتحاد السوفيتي دون رؤية هؤلاء “الماركسيين” لديناميات المجتمع السوفيتي (والروسي حاليًا). ومن هنا جاءت تحليلاتهم لهذا المجتمع على درجة مفرطة من السطحية واللا تاريخية. إلا أن كان البحث عن ستالين ديمقراطية للطفي الخولي وهو كاتب “يساري” تذيل الناصرية في الستينات تم أرتبط بحركة فتح في السبعينات والثمانينات فقاده ذلك نحو الترحيب بالشرق أوسطية و”عملية السلام” وتذيل إسرائيل في التسعينات – يعطينا مثالاً مبتذلا حقًا لما يمكن أن يتدنى إليه التحليل السياسي لروسيا المعاصرة.
ففي معرض تفسيره لدكتاتورية يلتسن في التسعينات (وأيضًا دكتاتورية ستالين في الثلاثينات والأربعينات) يرد لطفي الخولي الأمر إلى “جانب الروحي من التكوين التاريخي للإنسان الروسي وثقافته”. فهذا الإنسان “ينشد دائمًا المخلص، ابتداء من الأنبياء حتى الرهبان والنساك وأولياء الله الصالحين”. وبخصوص دكتاتورية ستالين فإن الأمر “تعلق، في الحقيقة، بالتكوين اللاهوتي المتعصب الضيق الأفق لستالين”. وبالطبع التقى التكوين اللاهوتي لستالين مع روحانية الإنسان الروسي في ملحمة دموية رائعة نسجت خيوطها البيروقراطية الروسية العتيدة أما تاريخ الاتحاد السوفيتي بعد ستالين فيلخصه لطفي الخولي في المحاولات المستميتة للقادة “الستنيرين” مثل خروشوف وجورباتشوف لاستئصال ظاهرة عبادة الفرد المرضية. إلا أن هذه المحاولات تبوء بالفشل دائمًا بسبب العراقيل البيروقراطية وكذلك بسبب تعلق الإنسان الروسي الشديد بعبادة الفرد! هكذا فقد تخلى الإنسان الروسي عن جورباتشوف “الديمقراطي الذي يناقش ويحاور ولا يتحرج – أحيانًا – من أن يعلن عن خطأ رأيه أو موافقه” وانطلقت الجماهير “تبحث عن معبود جديد، عن منقذ” وكان هذا المعبود الجديد بالطبع هو يلتسن الذي استغل عبادة الفرد المتأصلة – كما فعل ستالين من قبل – لترسيخ دكتاتوريته!
إن التفسير الذي يقدمه لطفي الخولي لدكتاتورية كل من يلتسن وستالين ينطلق من خصائص ميتافيزيقية مزعومة للإنسان الروسي (بغض النظر عن موقعه الطبقي أو موقفه السياسي) لا تتغير في التاريخ. والأخطر من هذه السطحية هو أن “النظرية” التي يطرحها لطفي الخولي تنطوي على تبرير قطاعات كل ستالين ويلتسن باعتبارها نتاج للروح المتأصلة في الوجدان الروسي! وهي بهذا المعنى “نظرية” رجعية إلى جانب سطحيتها. ونحن نرى أن هناك بالفعل خط يصل بين جرائم ستالين في الثلاثينات والأربعينات وجرائم يلتسن في التسعينات. وهذا الخط ليس “الروحانية الميتافيزيقية المتجذرة” في الوجدان الروسي، وإنما هو المسار التاريخي لرأسمالية الدولة في روسيا. فقد ارتبطت قطاعات ستالين بآلام المخاض الخاصة برأسمالية الدولة البيروقراطية، وينبغي فهم التراجيديا الروسية الجديدة في ظل يلتسن في سياق أوجاع الشيخوخة الخاصة برأسمالية الدولة تلك.
فمع أوائل العشرينات، اختنقت الثورة الاشتراكية الوليدة في روسيا تحت وطأة العزلة والدمار الناتج عن الحرب الأهلية. واقترن الدمار الاقتصادي الذي تمثل في انهيار كامل للإنتاج الصناعي بإنهاك الطبقة العاملة الروسية بل وتفككها بشكل متزايد راح الوزن النسبي لبيروقراطية الحزب والدولة يتزايد وأخذت هذه البيروقراطية تدعم بالتدريج مصالحها الخاصة داخل المجتمع. وعندما تمكن جناح ستالين داخل القيادة الحزبية من حسم الصراعات الداخلية لصالحه، فإنه قد قاد هذه البيروقراطية في اتجاه الثورة المضادة التي قضت على البقية الباقية من أثار ثورة أكتوبر. فالمهمة التي وضعتها البيروقراطية على عاتقها في أواخر العشرينات كانت “اللحاق” بالرأسمالية الغربية (وليس الإطاحة بها عبر سلسلة من الثورات الظافرة كما سعت ثورة أكتوبر). ولم يكن اللحاق بالغرب ممكنًا دون نسخ الوسائل التي حقق بها الغرب ثورته الصناعية، مع تكثيف العملية بحيث يتم تحقيق ما استغرق قرونًا في الغرب ثورته الصناعية، مع تكثيف العملية بحيث يتم تحقيق ما استغرق قرونًا في غضون عقود قليلة. وبالطبع كان الثمن الإنساني فادحًا. وكما يقول الكاتب الماركسي كريس هارمان:
باستخدام نظرية رأسمالية الدولة، من الممكن فهم فترة ستالين والسنوات الأولى من الحكم الستاليني في أوربا الشرقية. فالطبقة الحاكمة لدولة متأخرة اقتصاديًا والتي كانت عاقدة العزم على الانخراط في منافسة عسكرية مع دولة أكثر تقدمًا حاولت أن تقوم بذلك عن طريق نسخ الأساليب التي كان قد تصنيع الرأسماليات المقدمة بها. كانت الرأسمالية البريطانية قد استخدمت الأسيجة لطرد الفلاحين من الأرض، وكانت قد استخدمت العبودية في الأمريكيين لتراكم الثروة ولتمد نفسها بمواد خام رخيصة، وكانت قد ألحقت ونهبت نصف آسيا، وكانت قد استخدمت قوانين التشرد والعمل الإجباري لنظام الورشة لإجبار أولئك الذين طردوا من الأرض على عرض خدماتهم بوصفهم شغيلة مأجورين، وكانت قد استخدمت قوة عسكرية وشبكة من الجواسيس ضد أولئك الذين حاولوا أن يقاوموا، وكانت قد تغاضت تمامًا عن صحة الغالبية العظمى من السكان حينما ربحت من عمل الأطفال من الخامسة أو السادسة من عمرهم فصاعدًا. سارت الطبقات الستالينية الحاكمة على نفس الدرب مع “التجميع” الجولاج (2) وإطلاق الرصاص على المضربين والمتظاهرين، والقوانين ضد “الطفيلية”، وشبكات مخبري الشرطة السرية المنتشرة في كل مكان. كانت الطبقات الستالينية الحاكمة ترغب في أن تحقق خلال عقدين أثنين ما استغرق من الرأسمالية البريطانية ثلاثة قرون. كانت البربرية الستالينية بربرية أكثر تركيزًا، مؤدية على عشرة، أو20، أو حتى 30 – حسب تقديرات متطرفة – من ملايين الوفيات… حاول حكام بريطانية أن يبرروا بربريتهم باسم الدين والحضارة. أما ستالين فقد برر بربريته باسم الاشتراكية. لكن الأساليب والغاية كانت نفس الشيء من الناحية الجوهرية.
لم تسفر سياسات ستالين عن مقتل 20 مليون إنسان “تكوينه اللاهوتي” وإنما تحديدًا بسبب طبيعة المهمة التي قاد الستالين البيروقراطية الروسية في تحقيقها: الثورة المضادة التي تسعى للحاق بالغرب من خلال سحق الطبقة العاملة والفلاحين. وبالمثل، فإن تخفيف حدة الإرهاب على يد خلفاء ستالين ينبغي أن يفهم في سياق الظروف المتغيرة لرأسمالية الدولة البيروقراطية، ولا يمكن رده لطباعهم الشخصية أو “استنارتهم” (خروشوف “المستنير” هو الذي سحق ثورة المجر في 1956 بالدبابات الروسية). فالواقع أن ستالين قد أنجز الطور الأول من التصنيع، كما يبين هارمان، باستخدام أكثر الأساليب لإجبار الفلاحين السابقين غير المهرة على العمل. لم تكن إنتاجية العمل المخفضة تؤثر في ذلك كثيرًا، ما دام ملايين الناس كانوا يتركون الزراعة بحثًا عن أعمال صناعية وكان بإمكان عملهم أن يبني ويشغل المصانع حيث لم يوجد أي مصنع. كان التصنيع الضخم ممكنًا على أساس “انتشاري”.
أما في الخمسينات والستينات فقد تغيرت الظروف. فقد تم استنفاذ الاحتياطات القديمة من العمل والمواد الخام، وأصبح من الضروري يكون التطور الصناعي اللاحق “تكثيفًا”، أي أن يعتمد على رفع الإنتاجية. ولكن رفع الافتتاحية، وما يستلزمه ذلك من روح العناية والمبادرة من جانب العمال، كان يتطلب رفع مستوى المعيشة وتخفيف وطأة الإرهاب الستاليني. وهكذا راحت القيادة السوفيتية تتذبذب بين رفع مستوى الاستهلاك (وهو ما يعني الاقتطاع من التراكم وإبطاء معدل نمو الاقتصاد) وبين العودة مرة أخرى لتخصيص نسبة عالية من الدخل القومي للتراكم تحت ضغط المنافسة الاقتصادية والعسكرية مع الغرب. وعلى الرغم من التذبذب والتناقض في سياسات البيروقراطية السوفيتية. فقد ظل الاقتصاد قادرًا على تحقيق معدلات عالية من النمو طوال الخمسينات والستينات. ويعود السبب في ذلك إلى أن شكل رأسمالية الدولة كان متناسبًا تمامًا مع درجة تطور قوى الإنتاج على المستوى العالمي في ذلك الوقت. والواقع أن الفترة الممتدة من أوائل الثلاثينات إلى أواخر الستينات كانت العصر الذهبي لرأسمالية الدولة – بدرجات متفاوتة من الاكتمال – في العالم أجمع ففي البلاد الرأسمالية المتقدمة كان الحجم الأمثل للوحدات الإنتاجية قد أصبح من الضخامة بحيث سيطرت قلة قليلة من الشركات المحلية على سوق المنتجات الصناعية. وكان منظقيًا أن تندمج هذه الشركات في بنية اقتصادية موحدة تلعب الدولة دورًا بالغ الأهمية في تسييرها سواء بالتأميم المباشر لعدد كبير من الشركات الكبرى، أو على الأقل بتوجيه النشاط الاستثماري للشركات الاحتكارية الكبرى وتوفير الحماية للسوق المحلي بواسطة التعريفات الجمركية وغيرها. أما في الحلقات الأضعف داخل النظام الرأسمالي العالمي فقد كان النزوع نحو رأسمالية الدولة أقوى. فلم يكن بوسع هذه البلاد تبني صناعة متطورة في ظل المنافسة مع القوى الرأسمالية الأقدم والأكثر رسوخًا إلا من خلال استخدام قوة الدولة في تعبئة الموارد المحلية بالسرعة والكثافة اللازمتين وفي ظل إجراءات حماتيه عالية.
ولكن المناخ العالمي تغير مع بداية السبعينات. فالعامل نفسه الذي جعل رأسمالية الدولة شكلاً مناسبًا للتراكم الرأسمالي في مرحلة بعينها من تطور النظام العالمي – أي النمو المتواصل لقوى الإنتاج – يعود فيجعل من هذا الشكل عائقًا أمام الكفاءة الاقتصادية في مرحلة لاحقة. فمنذ أوائل السبعينات حدثت طفرة كبرى فيما يمكن أن تسميه “تدويل الإنتاج” حيث أن الشركات الأكثر نجاحًا في الغرب صارت تلك التي لا تبيع فقط على مستوى السوق العالمي، بل تنظم إنتاجها ذاته على نطاق عالمي. فالشركات المتعددة الجنسيات بدأت تعبئ موارد إنتاجية على نطاق العالم بأسره وخلق ذلك فجوة متزايدة في الإنتاجية بينها وبين الشركات ( الخاصة أو العاملة) التي ظلت عملياتها الإنتاجية محدودة بالنطاق الوطني. وقد كانت هذه الفجوة عاملاً جوهريًا في الركود الشديد الذي راح يخيم على الاقتصاد السوفيتي في السبعينات والثمانينات، كما كانت هي الدافع الأساسي وراء محاولات الإصلاح على يد جورباتشوف. وقد كان جوهر هذا الإصلاح هو زيادة كفاءة الاقتصاد السوفيتي من خلال إدماج في الشبكة الإنتاجية للرأسمالية المتعددة الجنسيات. إلا أن هذا الإصلاح تحطم على صخرة تناقضات التحول المطلوب. فكما رأينا من قبل، الاقتصاد السوفيتي من أكثر الاقتصاديات تركيزًا في العالم، وفي مثل هذا الوضع فإن إعادة البناء المطلوبة تكون محفوفة بالمخاطر. فالمطلوب ببساطة هو أن تتوسع تلك الأقسام من الاقتصاد القادرة على أن تكيف نفسها مع المستوى العالمي الراهن لقوى الإنتاج في حين تتوقف الأقسام الأخرى الأقل كفاءة. ولكن المشكلة الكبرى هي أن هذه الأقسام المطلوب توقفها هي بمثابة العمود الفقري للاقتصاد ككل، وانهيارها يؤثر تأثيرًا تدميريًا على العديد من القطاعات الناجحة ذاتها حيث تفقد هذه القطاعات مرودين أساسيين للمواد الخام والسلع الوسيطة وكذلك مشترين لإنتاجها. على هذه الصخرة تحطمت محاولات جورباتشوف الإصلاحية وعليها أيضًا تحطمت وعود يلتسن بالرخاء. وإذا أضفنا إلى ذلك أن الاقتصاد العالمي المطلوب الانفتاح عليه والاندماج داخله يعاني هو ذاته من أزمة حادة شبه متصلة على مدى الربع قرن الأخير (وإن كانت إجمالاً أقل حدة من أزمة الاقتصاد الروسي) فإننا نستطيع أن ندرك أن الرأسمالية الروسية اليوم تقف في طريق مسدود. فخيار الحفاظ على الاقتصاد المغلق يعني تعميق الركود والتبديد المتزايد للموارد، والعجز عن إشباع مطلب غالبية السكان. وخيار الاندماج في الاقتصاد العالمي يحمل مخاطر الانهيار الشامل والارتباط بإيقاع عالمي مأزوم بدوره. إنه حقًا اختيار بين المقلاة والنار!
صعود اليمين المتطرف واحتمالات المستقبل:
في ظل الأزمة المزمنة للرأسمالية الروسية اليوم بتزايد ميل قطاعات مؤثرة من البرجوازية الروسية في (القطاع العام والقطاع الخاص الجديد على السواء) للحلول اليمينية المتطرفة التي تبشر بالمزيد من الاعتصار للطبقة العاملة على أمل رفع معدل الربح، واتخاذ الأقليات القومية والدينية كبش فداء وذلك في إطار أيديولوجي يجمع بين القومية الروسية المتطرفة والديكتاتورية والإيمان بآليات السوق. ونستطيع في هذا السياق أن نفهم النمو الهائل لمنظمات أقصى اليمين في روسيا خلال السنوات الأخيرة (بما في ذلك القوى الفاشية الصريحة).
والواقع أنه ينبغي الحذر عند استخدام وصف الفاشية. فليست أيه منظمة يمينية أو رجعية فاشية. فالفاشية تتسم بسمتين جوهريتين: أولاً، القاعدة الجماهيرية العريضة داخل صفوف الطبقة المتوسطة؛ وثانيًا، استخدام هذه القاعدة الجماهيرية في التكسير الدموي للطبقة العاملة ومنظماتها. والفاشية بهذا المعني تنمو في ظل الأزمات الحادة للرأسمالية. وهي تسعى لكسب ولاء البرجوازية الصغيرة المعتصرة بين الرأسمال والعمل على أساس إيهامها بأن العمال المنظمين (وليست الرأسمالية) هم السبب في معاناتها. وبالطبع لا يتسم مسار الحركات الفاشية بالسلاسة بل هي تنمو من خلال تعرجات ومنعطفات متناقضة، مما يجعل التعرف على الفاشية في بداياتها أمرًا صعبًا. ولكن عمق الأزمة في روسيا قد أفرز بالفعل بدايات متصاعدة واضحة المعالم إلى حد كبير لحركة فاشية.
ولعل “الحزب الليبرالي الديمقراطي” الذي يقوده جيرينوفسكي هو أشهر منظمات اليمين في روسيا. إن جيرينو فسكي، الذي يطالب “بعودة رنين أجراس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية إلى قلوب الناس لتطهيرها”، قد ظهر بقوة على الساحة السياسية عندما حصل على ستة ملايين صوت في انتخابات الرئاسة التي خسرها أمام يلتسن في 1991. ثم فجاء حزبه المراقبين عندما حاز على المرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية في ديسمبر 1993 حيث حصل على 24% من الأصوات. اعتمد صعود جيرينو فسكي على كاريزميته وعلى مغازلته للنزعة القومية الجريحة لدى الفئات المهمشة في المجتمع الروسي، فهو يطالب بما يسمى “أخر قفزه إلى الجنوب الدافئ” ويقصد بذلك أن تقوم روسيا بابتلاع ليس فقط كل ما كان ضمن الحدود السابقة للاتحاد السوفيتي وإنما أيضًا تركيا وإيران وأفغانستان بحيث تطل الروسية على سواحل كل من البحر المتوسط والمحيط الهندي! كما يطالب جيروينو فكسي بالطبع بحظر الإضرابات العمالية باعتبار الصراع الطبقي فكرة “ماركسية صهيونية”! وقد حصل حزبه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في ديسمبر الماضي على المرتبة بعد الحزب الشيوعي (حول نتائج هذه الانتخابات أنظر باب “أجواء الصراع” داخل هذا العدد).
على الرغم من العناصر الفاشية الواضحة في حركة وفكر حيرينو فسكي (الجناح العسكري لحزبه المسمى “الصقور” والذي أقامه على النمط النازي، وسيرته الذاتية التي ذكرت العديد من المراقبين بكتاب كفاحي لهتلر، والشوفينية والعنصرية الواضحتين، فضلاً عن الاستعداد لـ “كسر ظهر” الطبقة العاملة) فإن لديه من المرونة والحنكة ما يجعله يمتنع عن الإعلان الصريح عن فاشيته. فهو في نهاية المطاف يحيا في بلد لا يزال يتذكر 30 مليون قتيل راحوا ضحية الحرب مع هتلر إلا أن هذه المرونة قد كلفته فقدان ولاء العديد من قيادات حركته الذين انشقوا عنه بسبب “ميوعته”. ومن أهم المنظمات التي انشقت عن حزب جيرينو فسكي “الجبهة الوطنية” (انشقت في أوائل 1992) والتي يقول أهم قادتها فيكتوريا كوشيف أن مثليه الأعلى في السياسة هما جنكيز خان وأدولف هتلر. وهناك أيضًا “حزب اليمين الراديكالي” الذي انشق عن جيرينو فسكي في نوفمبر 1992 ويتبني الأيديولوجية النازية صراحة حيث صرح قادته قائلين: “اليوم لسبب ما لم يعد مقبولاً الحديث عن النجاحات الاقتصادية للرايخ الثالث، والانجازات الثقافية التي منحتها “الاشتراكية الوطنية” للعالم. ولكن أحدًا لا يستطيع أن ينكر هذه الإنجازات… الدم والعرق هما المبدءان الأساسييان لإقامة الدولة… وروسيا هي الطليعة الأخيرة للحضارة البيضاء. إننا نحتاج لإحياء عنصري جديد… إن فجر العنصر الأبيض الجديد يقترب. وعلينا أن نشكل “أمم متحدة لشعوب العنصر الأبيض” أما هم القادة الفاشيين والملقب ت “عمدة الفاشيست” فهو ألكسندر باركاشوف الذي يقود “حزب الوحدة الروسية” الذي يدعو لتطهير روسيا من كل الشوائب غير الروسية ولو بالقوة. والذي يميز حزب باركاشوف هو نجاحه في تكوين ميليشيا عسكرية قوية على النمط النازي تضم عشرة آلاف من “رفاق السلاح” (المستوى التنظيمي الأعلى) فضلاً عما يزيد على نصف مليون من الأعضاء العاديين والمتعاطفين.
وإلى جانب منظمات اليمين المتطرف، شهدت السنوات الأخيرة في روسيا ظهور جبهات تضم في إطار تنظيمي واسع جماعات فاشية أو ملكية أو قومية متطرفة جنبًا إلى جنب مع أشخاص ومنظمات يؤيدون النظام الستاليني القديم ويسمون أنفسهم بال “شيوعيين” وقد اصطلح على تسمية هذه المظاهرة “المعارضة اليمنية –اليسارية” ويعد مهندسها زعيم الحزب الشيوعي الذي فاز مؤخرًا في الانتخابات البرلمانية جينادي زيوجانوف. ولعل أهم هذه الجبهات هي “جبهة الإنقاذ الوطني” التي تشكلت عام 1993 وتولي زيوجانوف زعامتها لفترة.
وإذا كان الحزب الشيوعي يحرص على الاحتفاظ بمسافة تفصل بينه وبين منظمات أقصى اليمين، فإن هذا لا ينطبق على فصائل “شيوعية” يفترض أنها تقف على يسار الحزب الشيوعي. وعلى سبيل المثال، فإن “حزب العمال الشيوعي الروسي” بزعامة فيكتور أنبيلوف لم يجد لتولي رئاسة تحرير مجلته “ما العمل!” شخصًا أفضل من الزعيم الفاشي فيكتور ياكوشيف الذي يعتبر هتلر وجنكيز خان، كما ذكرنا، مثليه الأعليين! كما أن “اليساري” إدوارد ليمونوف أسس بالاشتراك مع “عمدة الفاشست” باركوشوف في يونيو 1994 “الحركة الوطنية الثوريةِ” التي تحاول أن تمزج بين الماركسية والفاشية! وقد اتخذت هذه الحركة لنفسها علمًا يعبر عن هذا المعنى، فهم علم أحمر به دائرة بيضاء ومرسوم عليه المطرقة والمنجل (كان علم هتلر أحمرًا به دائرة بيضاء ولكن يتوسطه الصليب المعقوف).
إن الأساس الأيديولوجي لهذه “المعارضة اليمينية – اليسارية” هو قومية روسيا العظمى والمطلب الأساسي الذي تبشر به هو تطبيق ما يسميه زيوجانوف “النمط الصيني” في الإصلاح، أي الجمع بين آليات السوق والديكتاتورية السياسية. إنها بحق ستالينية السوق! والواقع أن ظاهرة “المعارضة اليمينية – اليسارية” هذه محيرة بشدة بالنسبة لغالبية المراقبين. فكيف يشارك الشيوعيون، ورثة الاتحاد السوفيتي قلعة الصداقة بين الشعوب، في حركات تقوم على أحياء النزعة القومية الروسية الرجعية؟ إن وجه العجب في ذلك ينتفي متى تذكرنا أن أحياء القومية الروسية بأشكالها الأشد رجعية كان جزءًا جوهريًا من الثورة المضادة التي قادها ستالين منذ أواخر العشرينات، حيث ما هم هذا الأحياء في ترسيخ قدم البيروقراطية المركزية المتحدثة بالروسية. وليس صدفة أن لينين، في معركته الأخيرة ضد البيروقراطية الصاعدة قبل وفاته، أختار مسألة الشوفينينة الروسية هذه محورًا للمعركة. تستطع إذن أن نقول الأقطاب اليمينين و”اليساريين” للمعارضة اليمينية – اليسارية يتسابقون على من منهم أحق بالميراث الشوفيني للثورة المضادة في روسيا، وبهذا المعنى فإننا بإزاء معارضة “يمينية – يمينية” وليس “يمينية يسارية”.
ومع ذلك، فإن انتصار أقصى اليمين في روسيا ليس حتميًا على الإطلاق. ذلك أن الطبقة العاملة الروسية – رغم كل المعاناة – لم تنكسر بعد. فمنذ 1991، شهدت روسيا موجتان كبيرتان من الإضرابات، الأولى في ربيع 1992 والثانية من نوفمبر 1993 إلى ربيع 1994. وقد اتسمت هذه الموجة الثانية على وجه الخصوص بنضالية عالية واستطاعت أن تنتزع مكاسب اقتصادية هامة من البرجوازية الروسية المذعورة. إلا أن عمال روسيا لم يتمكنوا بعد من بلورة بديل سياسي ثوري ومستقل عن سياسات الحكام. ففي إضرابات 1992 مثلاً طالب عمال المناجم بخصخصة مناجمهم (أملاً ف الرخاء الذي كان يعد به أنبياء السوق) وفي إضرابات 1993 – 1994 عادوا يطالبون بإعادة تأميم ما تم خصخصة (تعبيرًا عن خيبة أملهم في إصلاحات السوق). ولا شك أن تواصل هذه النضالات هو الذي سيتيح للطبقة العاملة أن تطرح بديلاً حقيقيًا لمأزق الرأسمالية في روسيا.
إن قطاعات واسعة من الجماهير الروسية كانت ترى في يلتسن في 1991 فجر الرخاء والديمقراطية. والآن اكتشف هذه الجماهير أن هذا الفجر لم يكن سوى فجرًا كاذبًا. وعندما يعي عمال روسيا أن المطلوب ليس خصخصة الاقتصاد ولا إعادة تأميمه، وإنما سيطرتهم هم جماعيًا وديمقراطيًا على الإنتاج والسلطة وقضائهم على جميع أشكال القهر في المجتمع فإن فجر الثورة سيطلع وشمس الحرية ستشرق مرة أخرى في البلد الذي انطلقت منه ثورة أكتوبر.
ـــــــــ
1) المقصود بتركيز الرأسمال هو جم الوحدات الإنتاجية، أما تمركز الرأسمال فهو عدد هذه الوحدات، إذن فإن الدرجة العالية من تركيز وتمركز الرأسمال تعني أن الاقتصاد الروسي تسيطر على حفنة قليلة من الشركات العملاقة.
2) الجولاج هي معسكرات العمل الجبري في روسيا الستالينية.