فوز حركة حماس: قراءة تاريخية
لا يمكن فهم أسباب وتداعيات فوز حماس في الانتخابات بدون فهم الخلفية التاريخية لهذه الحركة. يحاول سامح نجيب في هذا المقال تناول المنعطفات الرئيسية لهذا التاريخ كوسيلة لقراءة أكثر دقة وعمقًا للواقع الحالي للحركة وآفاق مستقبلها.
ولدت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى. وحتى ذلك الحين كان “الإخوان المسلمون” وهي أكبر وأهم الحركات الإسلامية في الأراضي الفلسطينية تتجنب المقاومة النشطة للاحتلال الصهيوني ولكن ذلك الوضع انقلب رأسًا على عقب مع اندلاع الانتفاضة، وقرار الإخوان الدخول في العمل المنظم والنشط في مناهضة الاحتلال وذلك من خلال تأسيس منظمة حماس كجناح للجماعة.
الإخوان وفلسطين:
الحقيقة أن تاريخ علاقة “الإخوان المسلمون” بفلسطين يعود إلى العام 1935، حين بعث حسن البنا بأخيه عبد الرحمن البنا لخلق علاقات أولية في فلسطين. وقد لعب الإخوان في مصر دورًا نشطًا في جمع التبرعات وتنظيم الدعم والتأييد للثورة الفلسطينية الأولى، والتي اندلعت في 1936. وفي عام 1945 تأسس أول فرع لجماعة الإخوان في القدس. وبمساعدة الإخوان في مصر، وصل عدد أفرع الجماعة في فلسطين إلى 25 فرعًا في فلسطين بعضوية قدرت بعشرات الآلاف. وبعد 1948 ظل نشاط الإخوان في الضفة والقطاع بعيدًا عن السياسة، حيث ركزت الجماعة على النشاط الخيري والديني. ولم يتغير هذا الوضع حتى بعد حرب 1967، حيث ظل النشاط منحصرًا في إنشاء وإدارة المدارس الإسلامية والمؤسسات الخيرية والفعاليات الاجتماعية. وظلت أهداف الإخوان المتمثلة في الإحياء الإسلامي والإصلاح الأخلاقي منفصلة عن آمال الجماهير الفلسطينية في التحرر من الاحتلال الصهيوني. وقد عمق من هذا الانفصال ظهور ونمو منظمة التحرير الفلسطينية وحركاتها العلمانية وعلى رأسها فتح والتي استطاعت بسرعة أن تحوز ثقة وتأييد الغالبية العظمى من الجماهير الفلسطينية. وفي عام 1973 أسس الشيخ أحمد ياسين “المجمع الإسلامي” في غزة وسرعان ما أصبح ذلك المجمع على رأس كافة النشاطات والفعاليات الإسلامية في القطاع بما في ذلك الجامعة الإسلامية. وقد تلا ذلك إعادة تنظيم قطاعات الإخوان في فلسطين. وتم دمج إخوان الأردن والضفة والقطاع في “جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين والأردن”.
أزمة منظمة التحرير والإسلاميون:
ومع نهاية السبعينيات بدأت تسود الجماهير الفلسطينية حالة من التشكك والإحباط تجاه فشل منظمة التحرير الفلسطينية في تحقيق نتائج ملموسة على طريق التحرير وتجاه بدايات التنازلات السياسية وصعود الاتجاه التفاوضي المهادن وفساد كثير من قيادات المنظمة. وقد خلق ذلك التشكك والإحباط حالة من البحث عن بدائل أيديولوجية وسياسية بعيدًا عن الأطر التقليدية للحركة الوطنية الفلسطينية. وارتبط نقد الحركة الإسلامية لعلمانية منظمة التحرير في أذهان الكثير من الشباب بفشل المنظمة واستسلامها.
ومن جانب آخر كان الاحتلال الصهيوني يركز آلته القمعية على منظمات المقاومة في حين ترك المجال مفتوحًا أمام الإخوان المسلمين والذين ظلوا حتى ذلك الحين يتجنبون الكفاح المسلح. وقد أتاح ذلك الفرصة للإخوان للاستمرار في تقوية وتوسيع نفوذهم وتنظيمهم ووجودهم في أوساط الجماهير الفلسطينية. وتوسعت الجماعة في تأسيس المشاريع الخيرية وتوزيع الزكاة وتقديم الخدمات المعيشية الأساسية. وكانت الأداة الأساسية في توسيع نفوذ الجماعة بالطبع هي المساجد.
وقد زاد عدد المساجد في الفترة بين 1967 إلى 1987 من 400 إلى 750 في الضفة الغربية ومن 200 إلى 600 في قطاع غزة. وكانت المساجد بمثابة مناطق محمية لا تصل إليها قوات الاحتلال، وتسمح للجماعة بالعمل السياسي والتجنيد الواسع.
ظهور الجهاد:
لكن هذا التركيز على العمل الخدمي والديني وتجنب المقاومة المسلحة ظل، رغم نجاح الجماعة في توسيع نفوذها، سببًا لتوتر متزايد في صفوف الشباب. وكانت إحدى نتائج ذلك التوتر انفصال مجموعة من صفوف الجماعة وتأسيسهم لتنظيم الجهاد في بداية الثمانينات.
كان سبب الانشقاق هو الاختلاف حول أولويات العمل. كانت الأولوية بالنسبة للإخوان هي التحويل الإسلامي للمجتمع كشرط مسبق لتحرير فلسطين. وبالتالي، فيجب أولاً أن يتبنى المجتمع الفلسطيني الإسلام ويبتعد عن العلمانية قبل خوض الكفاح المسلح. أما الجهاد الإسلامي، فكانت أولويتهم هي الكفاح المسلح وتحرير فلسطين دون انتظار التحول الإسلامي للمجتمع. وقد رفض الجهاد المنطق التدريجي والإصلاحي والتقليدي الذي تبناه الإخوان وتأثروا بالمفاهيم الثورية والراديكالية التي طرحتها الثورة الإيرانية عام 1979. ورفض الجهاد أيضًا موقف الإخوان من الأنظمة العربية وعلى رأسها النظام في مصر والسعودية والأردن والتي اعتبرها الجهاد حزام أمان للكيان الصهيوني. كان انفصال الجهاد ومواقف الجماعة الأكثر جذرية انعكاسًا لتوتر متزايد داخل صفوف إخوان فلسطين. فكلما توسعت الجماعة كلما ضمت لصفوفها شباب غاضب محبط من تجربة منظمة التحرير ليس بسبب علمانيتها ولكن بسبب فشلها في تحقيق التحرير.
تغير مع الانتفاضة:
مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، وصل ذلك التوتر إلى أقصاه ولم يعد ممكنًا للإخوان الاستمرار على النهج التدريجي والإصلاحي طويل المدى. وظهرت بوضوح الفجوة الكبيرة بين القيادات التقليدية وبين الشباب الغاضب. وقد أخذ الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي المبادرة بالتحول نحو العمل المباشر ضد الاحتلال وتم تأسيس حركة المقاومة الإسلامية كجناح لجماعة الإخوان مسئول عن المشاركة الفعالة في الانتفاضة.
وسرعان ما أصبحت حماس تلعب دورًا قياديًا في الانتفاضة إلى جانب القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة والتي أسستها منظمة التحرير. ومع تطور الانتفاضة وتطور دور حماس فيها ازداد التداخل بينها وبين الإخوان حتى تلاشت الحدود بينهما. وفي صيف 1988 أصدرت حماس ميثاقها الذي يرفض الاعتراف بإسرائيل، أو التنازل عن الأراضي التي احتلت عام 1948. أي أنه في الوقت الذي كانت تجري منظمة التحرير فيه مشاورات للاعتراف بإسرائيل والقبول النهائي وليس المرحلي لحل الدولتين، طرحت حماس موقفًا رافضًا لكافة التنازلات.
وقد أدى ميثاق حماس ودورها القيادي في الانتفاضة إلى تحولها إلى بديل لمنظمة التحرير. ومع قبول الأخيرة لمؤتمر مدريد وتكوين السلطة الفلسطينية على أساس استسلام أوسلو، وفشل السلطة الفتحاوية في تحقيق أي نتائج ملموسة من خلال المفاوضات، ومع استمرار المقاومة المسلحة بقيادة حماس طوال التسعينيات، أصبحت حماس عمليًا القيادة الجديدة لحركة التحرر الفلسطينية وفقدت منظمة التحرير مكانتها التاريخية كممثل وحيد للشعب الفلسطيني.
وقد رفضت حماس طوال التسعينات المشاركة في المؤسسات التي نتجت عن اتفاقات أوسلو ورفضت بالتالي المشاركة في الانتخابات التشريعية. وقد أعلن محمود الزهار القيادي في حماس في حوار أقيم معه عام 1995 رفض حماس القاطع للمشاركة في الانتخابات التشريعية: “إذا فزنا بغالبية المقاعد في المجلس التشريعي سيفرض علينا القبول بالوضع القائم على أساس أوسلو وحتى إذا بقينا أقلية في المجلس ستضفي مشاركتنا الشرعية على الوضع القائم وعلى الاتفاقيات”. ومع اندلاع انتفاضة الأقصى، وبروز الكفاح المسلح على نطاق واسع، والدور المحوري للعمليات الاستشهادية في المقاومة، والدور القيادي لحماس في ذلك كله، انهار خيار التفاوض والتنازلات وأصبح خيار المقاومة هو خيار الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني.
ولكن الأمر لم يكن بتلك البساطة، فرغم بسالة المقاومة الفلسطينية وتضحياتها الضخمة، فهي غير قادرة وحدها على دحر الاحتلال الصهيوني المدجج بالسلاح والمدعوم من قبل الإمبريالية الأمريكية والأوروبية. و”الحزام الأمني” التي تشكله الأنظمة العربية حول الكيان الصهيوني يمنع دخول الجماهير العربية ساحة المعركة ويبقى المقاومة الفلسطينية في حالة عزله وحصار دائم. ولكن التناقض بين خيار حماس للمقاومة ورفض الاستسلام من جانب، وبين مهادنتها للأنظمة العربية وعلى رأسها النظام المصري والبحث عن دور لتلك الأنظمة في دعم القضية الفلسطينية، وضع حماس في مأزق. فالاستمرار في مقاومة محاصرة ومعزولة وما صاحبه من تصفيات لصفوف قياداتها بلا تحقيق مكاسب ملموسة أمر صعب وغير قابل للاستمرار. والقبول بالضغوط الدولية والعربية والانتقال من المواجهة إلى هدنة قصيرة ومن هدنة قصيرة إلى هدنة طويلة الأجل يكون الاعتراف فيها بالكيان الصهيوني ضمنيًا إن لم يكن علنيًا، كل ذلك يؤدي إلى نفس المصير الذي لحق بفتح.
فوز حماس.. مأزق حماس:
دخول حماس الانتخابات الأخيرة وفوزها يجب أن يفهم في إطار كل هذه التناقضات والأزمات. فمن جانب هو تأكيد على خيار المقاومة الذي يتمسك به الشعب الفلسطيني، ولكنها مقاومة وضعت تحت ضغوط جبارة. فما يسمى بالمجتمع الدولي يريد معاقبة الشعب الفلسطيني بالتجويع. والأنظمة العربية كعادتها متواطئة. والشعب الفلسطيني، رغم بسالته، لا يمكن أن يواجه ذلك الحصار وحده. وجولات حماس للتباحث مع الأنظمة العربية ومخابراتها لن تؤدي إلى شيء. فهذه الأنظمة جميعًا تتلقى تعليماتها من واشنطن وتل أبيب وستلعب الدور الأساسي في الضغط على حماس لتقديم التنازلات.
قرار حماس المشاركة في الانتخابات ثم فوزها يضعها – رغم ما يعبر ذلك عنه من رغبة الجماهير الفلسطينية في المقاومة – في مأزق خطير. وقد رأينا كيف أصيبت الحركة بشلل تجاه الاقتحام الصهيوني الأخير لمقاطعة أريحا وخطف أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطيني أحمد سعدات. وكل ما فعله خالد مشعل هو مطالبة الأنظمة العربية بالتدخل لإنقاذه! ولكن حركة حماس لم تخلق هذا المأزق ولن تكون قادرة وحدها على الخروج منه. فقط الجماهير العربية هي القادرة على كسر الحصار وإخراج المقاومة الفلسطينية من مأزقها وتحويل الاختيار الديمقراطي للشعب الفلسطيني إلى خطوة أولى نحو التحرير. وليس كما يتمنى أعداؤنا إلى خطوة أولى نحو استيعاب حماس وتحويلها إلى فتح أخرى.