في ذكرى أوسلو.. تسقط الأنظمة وتعيش البندقية

على مدار العقود الماضية مثلت القضية الفلسطينية مركز نضالات الشعوب العربية، وحتى شعوب العالم الثالث خاصة في أميركا اللاتينية. ومن الممكن جدا قول أن القضية الفلسطينية هي “قضية مفتاح”. أي أنها معيار أساسي لتحديد المواقف السياسية بدقة كافية. لذلك لم يكن غريبا أن ينطلق شعار “تحرير فلسطين يمر عبر القاهرة” أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى. وكذلك لم يكن غريبا أن تكون حركة التضامن مع الانتفاضة الثانية أول الألفينات هي القشة التي كسرت الخمول السياسي في التسعينات، وجهزت لحركة النضال الديمقراطي عام 2004.
من هنا تأتي أهمية الانخراط في الصراع مع العدو الصهيوني.. وكشف المحاولات الحثيثة الساعية لتطبيع العلاقة معه.
هذا الشهر، مر 20 عاما على اتفاقية أوسلو التي عقدتها السلطة الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات مع العدو الصهيوني. وكرست الاتفاقية أول خطوات التطبيع بين الحركات المسلحة والعدو. بعد اتفاقيتي كامب ديفيد ووادي عربة اللتين بدأتا التطبيع بين النظامين المصري والأردني مع العدو.
في الواقع، كارثية “أوسلو” لا تقل أبدا عن “كامب ديفيد”، ليس فقط كونها الاتفاق الأول الذي ضم اعتراف واضح بالكيان الصهيوني من قبل حركة فلسطينية منظمة، بل بسبب نتائجه السياسية والاجتماعية المباشرة على الصراع العربي – الإسرائيلي.
تجلى اتفاق أوسلو في العديد من النتائج الكارثية؛ أولها الاعتراف الفلسطيني من قبل منظمة التحرير بالدولة الصهيونية على حوالي 78 في المئة من الأراضي الفلسطينية، أي كامل التراب الفلسطيني باستثناء قطاع غزة والضفة الغربية. واعتبار القطاع والضفة أراضي تخضع لسلطة الحكم الذاتي وليس باعتبارها دولة كاملة السيادة.
كما نظمت “أوسلو” الوجود المسلح في المنطقتين.. والذي من المفترض أن ينحصر في السلاح الخفيف للشرطة المحلية، وضمان عدم وجود أي سلاح ثقيل يوجه للأراضي المحتلة. هذا، على أن تضمن “إسرائيل حماية الأراضي الفلسطينية من أي عدوان خارجي”!
كما دفنت اتفاقية أوسلو مسألة حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم إلى الأبد، فتم الاعتراف بالنازحين من قطاع غزة والضفة الغربية فقط، أما باقي الأراضي فلا حق بهم ولا تعويض ولا حتى اعتراف.
على الصعيد الآخر، لم تسعَ السلطة الفلسطينية، التي مثلها الرئيس الحالي محمود عباس، في المفاوضات لمناقشة القضايا الأهم على المستوى السياسي والديموغرافي. مثلا، تركت مسألة إدارة مدينة القدس والمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية لمفاوضات ما بعد الاتفاق. أي كان عليهم التوقيع بالموافقة أولا ثم بحث هذه القضايا. وبالطبع حتى الآن تعاني القدس الشرقية من الهجوم المتواصل من جيش الاحتلال ومن المستوطنين، كما أن المشروع الاستيطاني لازال مستمرا في التوغل كالنار في الهشيم.
وعلى المستوى السياسي، كانت اتفاقية أوسلو، وما لحقها من توابع، أول خطوة علي طريق الانقسام الفلسطيني بين حركة فتح في الضفة الغربية وحركة حماس في قطاع غزة، وأصبحتا حركتان متصارعتان، كل في منطقته، وحتى هذا “الوطن” الفلسطيني المعترف به في الاتفاقية أصبح على صراع دائم. على الرغم من الاعتراف الضمني لحركة حماس بالاتفاق عندما انخرطت في الانتخابات التشريعية عام 2005، وهي التي تنظمها “أوسلو”، أو عندما أسست جهاز أمني خاص مهمته “ضبط” باقي الفصائل التي تطلق الصواريخ على العدو!
أما على المستوى الاقتصادي فقد أخضعت اتفاقية اوسلو الاقتصاد الفلسطيني للتحكم الإسرائيلي بداية من التحويلات النقدية مرورا بالجمارك والتحكم في البضائع، وحتى منع استخدام عملة مستقلة. وبهذا فقد أحكمت الخناق على الشعب الفلسطيني وسدت كل الفرص الخارجية والداخلية لأي نسبة محتملة من الاستقلال الاقتصادي، وبالتالي زادت وضع المقاومة سوءا.
وقد أصبحت كل الفصائل (الإسلامية وغير الإسلامية) خاضعة سياسيا وأمنيا، واقتصاديا للسلطة الرسمية، الأمر الذي أنتج حالة من الهشاشة والضعف للفصائل الفلسطينية وهو ما أفرز الوضع الحالي.. ولا يمكن توقع حدوث تغيير جذري في وضع المقاومة دون تفتح بديل ثوري جديد، يرتبط بالضرورة بانفجار ثوري، وغير منعزل عن المد الثوري في المنطقة. فالاعتراف الرسمي بين السلطات لا يستطع إلغاء النضال الشعبي. تحرير فلسطين، من النهر إلى البحر، آت بغض النظر عن اتفاق يقوم به هذا الزعيم أو ذاك.