في الثورات العربية: الثائر لا يلدغ من جحر مرتين

تساقط أحجار “الدومينو” الواحد تلو الآخر كان المثل الأكثر شهرة عند وصف انفجار الثورات العربية والإطاحة برأس نظامها قبل عامين من الآن بدءاً من تونس إلى مصر واليمن وليبيا. لم تكن الظروف والأسباب الموضوعية للزحف الثوري تتشابك فقط في الخطوط العريضة على مر البلدان، فمع الخفوت النسبي في حدة الانتفاضات ودخول تلك البلدان في مرحلة ما بعد الانتخابات تشابهت أيضاً عوامل دفعت الجماهير في مصر وبلدان أخرى لمواصلة الحراك الثوري، بل وأضافت بعداً آخر لتحديات مستقبلية أمام ثورات أخرى تسير على خطاها.
فضح صفقات القوى السياسية الانتهازية مثلاً كانت القضية الأكثر طرحاً على المستوى السياسي ببلدان ما بعد الإطاحة برأس النظام، ليس من ناحية الالتفاف حول أهداف الثورة والتحايل على مطالب كتبتها شلالات الدماء، لكن أيضاً من ناحية تآمر تلك القوى والعمل لحساب المصالح السياسية للنظام السابق والذي كان من المفترض خلعه. جماعة الإخوان المسلمين بمصر مثالاً على ذلك، حيث تورطها بصفقات الدم مع المجلس العسكري سليل مبارك بالحديث عن الخروج الآمن رغم التآمر والمجازر ومهازل المحاكمات، وهو الأمر الذي تطابق تماماً في تونس عندما أعرب راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة الإسلامية على مصالحة رموز سابقة متورطين بالفساد المالي والسياسي أمثال بلحسن الطرابلسي. اليمن أيضاً حيث اطمئنت الأحزاب المختلفة إلى تسوية الأزمة سياسياً بالمبادرة الخليجية حتى انصاعت إلى إصدار قرار بالحصانة للرئيس المخلوع وقيادات سياسية وأمنية أخرى ثبت تورطهم في فضائح فساد ورشاوي وقتل متظاهرين.
فضح المصالح الدولية كان أكثرالملفات التي أثارها الحراك الثوري في بلدان لم تكتمل بها الثورات أو الإطاحة برأس النظام مثل البحرين وحالة التعتيم الواضحة على القمع الموجه ضد مظاهرات مازالت تتميز بالسلمية حتى الآن، وفي ظل تواجد الأسطول الأمريكي الخامس وهيمنته الاستعمارية بالمنطقة، لعله يكون أيضاً نفس الطرف الذي أبدى تجاوباً ملحوظاً بالإيجاب لقوى المعارضة السورية في اسطنبول أمام طرف دولي آخر يحاول الظهور مجدداً على الساحة سواء بالدعم الروسي لنظام الأسد سياسياً أو تسليحاً.
وسواء كانت البلدان تخطت مرحلة ما بعد إسقاط رأس النظام أو في الطريق إليه إلا أن العوامل السابقة مثلت خطراً يحدق بالثورات العربية وعواقب حاصرت الثورة والثوار، وخاصة إذا كانت السمة الأكثر تميزاً هي مناورات التغطية على المطالب الاجتماعية وطمس أبعادها، يتضح ذلك جلياً في معارك الدستور بمصر وحالة الاستقطاب بتحويل الصراع إلى ديني- علماني، أو بالتلويح الدائم بخطر تفكك الوحدة وانعدام الاستقرار إذا فشل الحوار الوطني باليمن وذلك بعد اعتراض مجموعات شبابية ثورية لمشاركة حزب المؤتمر الذي يترأسه بن صالح حتى الآن. الحكومة السودانية حاولت أيضاً إخماد الانتفاضة المتصاعدة بسبب خطط التقشف بوعود حول اتفاقيات النفط مع الجنوب والتي باءت جميعها بالفشل. وفي سوريا يبقى الخداع الدائم متزامناً مع إطلالة السفاح الأسد حينما عاجل الاتهامات للمتظاهرين منذ اندلاع الاحتجاجات بتحويل مطالبهم الاجتماعية إلى صراع مع الإرهاب!
الثورة المصرية تشابهت في جوانبها مع الثورات العربية حيث أظهرت السلطات الحاكمة، والتي لم تختلف عملياً عن سابقاتها، أظهرت عجزاً كبيراً أمام مطالب الشارع وبدت في حالة قلق وريبة بين حركة مستمرة للجماهير لن تتوقف قبل تحقيق مطالبها في العدالة الاجتماعية، وبين مصالح اقتصادية وسياسية مع النظام السابق. ليس ببعيد هنا أن نذكر القارئ قلوع رجال أعمال الحزب الوطني، والمتورطين في الفساد الاقتصادي، على متن طائرة مرسي المتجهة إلى الصين أو خطابه إلى “صديقه” شيمون بيريز الذي اعترف فيه ضمنياً بالكيان الصهيوني كدولة يهدف لتعزيز علاقته بها، كذلك عدم استجابة اللجنة التأسيسية لوضع الدستور في تونس لوضع مادة تجرّم التطبيع مع الكيان الصهيوني كما يتفق مع تطلعات الجماهير.
نقاط التشابه بين الثورة المصرية ونظيراتها العربية استطاعت وضع الحلقة الأولى في تقسيم المعسكرات الموالية للثورة من قطاعات شعبية عريضة أو معسكرات تقف بالعرض أمام الاحتجاجات الشعبية من سلطة حاكمة متحالفة مع نظام سابق. إلا أن النقاط الأكثر تشابها كانت في القدرة التنظيمية التي فقدتها الجماهير بمصر وبقية البلدان ليس فقط بإعادة التوازن، ولكن لدفع انطلاق الثوار نحو السلطة في ظل انتهاز القوى السياسية والانقضاض على ثورتهم. احتجاجات تونس مثلاً التي تتفجر من وقت لآخر لا تزال منعزلة عن بعضها؛ فاليوم تنتفض سيدي بوزيد وغداً الكاف ثم قفصة أو بنقردان. وفي البحرين أبدت الطبقة العاملة تراجعاً مقارنة بحركة الشارع وخاصة مع الهجمة الشرسة على العمال وطرد الآلاف منهم على خلفية التظاهرات. وبرغم حالة الحراك السياسي بالأردن ومصر وتضاعف حجم الإضرابات العمالية والاحتجاجات والاعتصامات، إلا أن تفاعل العمال بقوة مع الحركة السياسية بالشارع بالدرجة التي يتكبد عندها النظام أعلى الخسائر ويرضخ كان متراجعاً ولا يتسم بقدر كبير من الوحدة.
الثائر لا يلدغ من جحر مرتين، والدرس الأول الذي تطرحه الثورات المصرية والعربية هو أن الظروف مازالت قائمة لانطلاق موجات ثورية جديدة أكثر قوة ضد أنظمة سياسية لم تختلف عن المخلوعة، لتحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة. والإرادة الثورية لن تفرض نفسها إلا بمدى قدرة الثوار على تنظيم أنفسهم في أحزاب وتنظيمات ثورية توحد المطالب السياسية والاقتصادية، وتكسر كل التبعيات والإملاءات الخارجية.. عندها سيتضح كثيراً الطريق إلى فلسطين.