حملة "تمرد" التونسية:
هل حقا تونس ليست مصر؟

ما إن انطلقت حملة تمرد في الشوارع المصرية وحفزت موجة ثورية عارمة استناداً إلى الغضب الشعبي المتزايد حتى انطلقت دعوات موازية ببلدان عربية مختلفة تحاكي التجربة المصرية في ظل تدهور اقتصادي اجتماعي تعاني منه الشعوب من ناحية وفشل سياسي ذريع حصدته الأنظمة الحاكمة من ناحية أخرى.
لكن ومع اغتيال المعارض التونسي البارز محمد البراهمي الأسبوع الماضي، وبعد عدة شهور من اغتيال المناضل اليساري شكري بلعيد، بل وضمن سلسلة تعهد بها راشد الغنوشي رئيس حزب النهضة الإسلامي لإراقة بحر من الدماء إذا اتبعت تونس النموذج المصري، تحوم الأسئلة حول الوضع الاحتجاجي في المشهد التونسي وسط تصاعد غضب شعبي هائل وتهديدات لحركة تمرد التونسية بدءاً من التخوين إلى التحريض بإهدار الدماء.
لم يخطىء البراهمي في حديثه بالمجلس التأسيسي عن محاكاة التجارب الثورية وأن “شعب تونس سيستلهم العبرة من شعب مصر كما استلهم شعب مصر العبرة من شعب تونس” وخاصة مع توفر نقاط تشابه في وقت ثوري متقارب ووصول الإسلاميين الحكم واستحواذهما على مفاصل الدولة بشكل متوازي.
تشابهت كلٌ من حركتي تمرد المصرية والتونسية في الاستناد إلى الشعب بعيداً عن التيارات السياسية والأحزاب بأطرها التقليدية، بل ارتهنت دعوتها لذلك المحرك الرئيسي المتمثل في قدرة الجماهير على إشعال موجات ثورية تربك الطبقة الحاكمة التي تتغنى بالصناديق. وفي تونس التزمت الحملة بتحييد كل أعضائها الفاعلين بها على أرضية مشتركة من العمل على إسقاط المجلس التأسيسي دون الإعلان عن هوية أو أيديولوجيا سياسية. كما لم تضع الحركة المؤسسة العسكرية في حساباتها مثلما بالغ بعض الكتًاب التونسيين في دعوتهم لمحاكاة النموذج المصري، وهي المؤسسة المتهمة بتسهيل هروب بن على عكس ما يشاع عن حياديتها.
لكن الحملة التونسية لم تستطع أن تجاري التحايل الحكومي، فالمسار السياسي المتعارف عليه لما بعد إقرار الدستور هو حلً المجلس التأسيسي وإعادة انتخابه ثم إجراء انتخابات رئاسية لإنهاء المرحلة الحالية التي وصفت بالانتقالية. لم تنجح حملة تمرد، بشكل جزئي، في إقناع الجماهير بمطلب إسقاط النظام كاملا بدلا من إسقاط المجلس التأسيسي كأولى مطالبها، فهي الخطوة السياسية المنتظر حدوثها بالفعل. كما لم تضع في مطالبها على الجانب الآخر بديل شعبي يستند إلى الأزمات الاجتماعية باعتبارها تحديات أمام الحكومة الحالية والقادمة إن التزمت بنفس المسار السياسي الاقتصادي.
اختلاف الظروف الموضوعية نسبياً لأجواء نشأة حملة تمرد في تونس من ناحية تدخل المؤسسة العسكرية، أو استباق الحركة الاحتجاجية لتوقيعات الحملة لا يدل على أن تونس ليست مصر كما يزعم الغنوشي، كما أن عدم نجاح الحملة في تهيئة الشارع لا يعني أبداً فشلها الذي يراهن عليه زبانية النهضة، بل على العكس يضع شروط نجاحها ليس فقط في تجميع أكبر قدر من التوقيعات لكن بمدى قدرة الحملة على سلك طريق واضح لا يحيد عن أهداف الثورة التي طالما عانت الالتفاف قبل التهميش. إن التحديات الحقيقية التي ستواجه الحملة ليست القدرة في تعبئة ملايين الأصوات، التي نزلت بالفعل إلى الشوارع، بقدر قدرتها على الانخراط في اشتباكات متصاعدة ونضالات وقتية متفجرة بين المدن والولايات المختلفة طالما عانت من طابعها الانعزالي الذي تميزت به الاحتجاجات المتتالية منذ هروب بن علي.
وعلى عكس تشاؤم البعض حيال الحملة، فإن الظروف الاجتماعية التي آلت إليها تونس لا تزال في تدهور مستمر وبالتالي لا تزال تلقي بظلالها الكثيفة على إمكانية إشعال موجة ثورية اجتماعية جديدة تحمل نفس أهداف الموجة الأولى من الثورة التونسية، بل وتفتح كشف حساب لانتهازية القوى السياسية المتسلقة التي حاولت مراراً التغني زوراً بأهداف الثورة، كشف حساب سيعيد حسم المعركة على أسسها الطبقية بين قوى سياسية فلولية حاولت إنتاج ذاتها بعد هروب بن علي وتصدر المشهد السياسي، كـ “نداء تونس”، وقوى شعبية أخرى تسعى لاستكمال ثورتها بموجات متعاقبة. إن كلا المعسكرين سيتفقا على المطالب السياسية العامة من ضرورة إسقاط المجلس التأسيسي ودستوره مثلما يحدث الآن بتضامن “نداء تونس” مع القوى السياسية الأخرى في تكوين جبهة إنقاذ وطني، لكن تصدير المطالب الاجتماعية وتجذيرها ورفع سقف الحركة سيضع خط ثوري في مقابل التفاف حكومي ستشهده تونس الأيام القادمة.
أعطت الأحداث الأخيرة تطوراً نوعياً لم تكن تتوقعه حركة تمرد في تحقيق أقصى غاية لها بدفع النهضة للجماهير دفعاً للنزول للشارع بعد اغتيال البراهمي في ظل بركان موقوت من الغضب الشعبي. وبرغم كل الاختلافات التي راهن البعض على أساسها في فشل الحملة في محاكاة النموذج المصري، فإن الرهان على فساد الأنظمة وديكتاتوريتها لا يخذل أبدا، فالحزب الحاكم هو من هاجم تمرد وتوعد لها وهو أيضاً من جعلها في زمرة انتفاضة شعبية ضده، وما الحملة إلا جزء من حراك ثوري أوسع ستشهده تونس الفترة المقبلة.