بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

عربي ودولي

بعد انسحاب القوات البريطانية:

هـل حـقاً تحررت البصرة؟

بتاريخ 15 ديسمبر الماضي أقيم حفل بمطار مدينة البصرة. حضر الحفل موفق الربيعي مسئول الأمن القومي العراقي ومحافظ البصرة محمد مصباح وممثل عن وزارة الخارجية البريطانية. فى هذا الحفل تسلمت القوات العراقية أمن المدينة من نظيرتها البريطانية. الطريقة السخيفة التى نُظم بها الحفل أُريد بها تصدير الأمر وكأنه تبادل حقيقي للسلطة، ووصل الأمر ببعض المراسلين للقول بإن البصرة التى احتلت فى إبريل 2003، تحررت من القوات البريطانية فى ديسمبر 2007!!!

وتعد البصرة –التي تحملت ثقل حربين خاضهما العراق من عام 1980 وحتى عام 2003- رابع مدينة بالجنوب يتسلم العراقيون أمنها بعد انسحاب اليابانيين من “المثنى” في يوليو 2006، وخروج الإيطاليين من “ذي قار” في سبتمبر 2006، وترك البريطانيين مدينة “ميسان” في أبريل 2007.

الوضع في البصرة:

المفارقة فى أمر الانسحاب هي أن كلا من المسئولين البريطانيين والعراقيين اعتبروه نجاحاً لهم. فالبريطانيون اعتبروه بمثابة نجاح لهم فى استتباب الأمن فى المدينة وتسليمه للعراقيين، كما أن العراقيين اعتبروه بمثابة اعتراف بسيادتهم على المدينة وبقدرتهم على حفظ الأمن بها. ووصل الأمر برئيس الوزراء العراقي للقول بإن نقل الملف الأمني يعد دليلاً على انتصار العراقيين على الإرهاب. لكن الحقيقة التي يعرفها ساكنو المدينة أنفسهم هي أن مدينتهم بها حوالي 28 ميليشيا مسلحة يتحكمون في أمن المدينة وفي اقتصادها تحكما تاماً. ووفقاً لصحيفة “ذي أوبزيرفر” البريطانية فأن سكان المدينة يرون أنها تدهورت تدهوراً كبيراً منذ الاحتلال البريطاني، بالمقارنة بحالها قبل هذا الاحتلال. ووفقاً لأحد العراقيين تعليقاً على ذكرى عام على إعدام صدام حسين وبرزان التكريتى، “فإن الإعدام والقتل أصبحا أخباراً معتادة للعراقيين، لأنهما عادة يومية مثل الطعام والشراب والبطالة”. وقد أقر قائد القوات البريطانية في البصرة العميد جريهام بينز بفشل قواته في تحقيق الأمن في البصرة قائلا “لم نتمكن من تحقيق تطلعات الشعب العراقي”.

والسؤال الأساسي هنا هو كيف نرى أثر هذا الانسحاب على المدينة نفسها والصراع المختلط بين المقاومة والمليشيات الطائفية والاحتلال؟ الإجابة المختصرة هي أن قوات الاحتلال والحكومة العراقية وجدتا فى البصرة مكاناً مثالياً للانقضاض على بعض الأحزاب القوية وجيوب المقاومة فى المدينة. فيتوقع العديد من المحللين العراقيين أن الأحزاب القوية فى مدينة البصرة فى الفترة القادمة (مثل حزب الفضيلة والتيار الصدري) ستكون محل استفزاز وتشويه‏‏ استعدادا للانقضاض عليها عسكريا من قبل أطراف أخرى. والمبرر هنا سيكون الإدعاء بضرورة نشر القانون وسيادة الدولة. ويقابل ذلك ما يقوله شهود عيان من المدينة عن أن الفترة السابقة شهدت العديد من الاجتماعات والاتفاقات الحزبية والعشائرية بحجة “تكريس الأمن في البصرة وعدم الانجرار وراء أي محاولات لتفجير صراع علي المصالح والعمل على بدء تنمية حقيقية في المدينة”.

وهناك شبه اتفاق من قبل العديد من المراقبين في العراق علي أن المرحلة القادمة في البصرة يمكن أن تكون بداية في حلقة من الصراع الشيعي ـ الشيعي داخل العراق وفى المدينة نفسها. ويربط هؤلاء درجة الصراع وقوته بالمصالح أولا، ثم بالأحداث التي شهدتها العديد من المحافظات الجنوبية الأخري خاصة القادسية والحملات العسكرية التي تعرض لها التيار الصدري في الديوانية.

وبرغم أن المحافظات الثلاث التي شهدت الانسحابات السابقة هادئة إلى حد كبير مقارنة بالبصرة، إلا أن الأهمية المالية والاقتصادية والتاريخية للبصرة تجعلها محورا للكثير من الصراعات بين القوى العراقية المختلفة ومطمعا للسيطرة عليها بمختلف الوسائل. وهنا يأتي دور القوى الأمنية العراقية المخترقة من قبل الكثير من الميليشيات والأحزاب التي تتصارع على كل شىء فى المدينة. وعلى حد تعبير قائد شرطة البصرة اللواء جليل خلف فالجماعات المسلحة تنشط في المدينة وهي أفضل تسليحا من قواتنا، كما أنها تسيطر على الميناء الذي يدر عليها مبالغ طائلة وتفرض إتاوات حتى على صادرات النفط، فضلا عن كونها تجلب السلاح من إيران عبر الحدود.

لماذا الانسحاب؟

بالطبع يعد من السذاجة تصوير الأمر على أنه تحرير أو أنه هزيمة منكرة للإمبريالية.

فقد كان أحد شروط تسليم الملف الأمني للمدينة إلى العراقيين هو أن من حق القوات البريطانية التدخل مرة أخرى فى المدينة لأسباب أمنية، لكن كل ما هنالك أن ذلك سيكون بطلب من الحكومة العراقية. كما أن الخروج البريطاني سوف يكون غير تام، حيث سيبقى 2500 جندي بريطاني في قاعدة عسكرية بشمال البصرة.

ولا يمكن أن نقول ببساطة إن كل انسحاب هو هزيمة منكرة للإمبريالية. فهذا كلام سطحي ومبتذل لأننا نعرف أن القوات البريطانية والأمريكية لا تزالا موجودتين فى العراق، وحتى بعد انسحابهما التام، فإن قوات الاحتلال أغرقت البلاد بقواعدها العسكرية. ولا يمككنا أن نرى “اتفاق الصداقة والتعاون” الذي وقعه رئيس الحكومة العراقية مع الرئيس الأمريكي فى نوفمبر الماضي إلا بوصفه توقيعاً على وثيقة إعلان العراق “محمية دائمة” للإمبريالية.

لكن من جهة أخرى، لا يمكن أن ننسى أن هذا الانسحاب هو حلقة فى سلسلة من الفشل المستمر لقوات الاحتلال في العراق. وبعد الانسحابات السابقة، ربما نشهد أيضاً قريباً انسحاب القوات الأسترالية، خاصة بعد هزيمة رئيس الوزراء الأسترالي جون هوارد ـأحد حلفاء بوش الأساسيين- فى الانتخابات البرلمانية فى أستراليا في نوفمبر الماضي. أما بالنسبة للبريطانيين، فأن رئيس الوزراء البريطاني جوردن براون كان يواجه معضلة كبيرة قبيل الانسحاب. فهو من جهة يواجه الأرث الصعب الذي تركه له تونى بلير، والذي يتمثل في تصاعد غضب البريطانيين وعدم رضاهم عن الحرب، لكنه من جهة ثانية لا يريد إغضاب الرئيس الأمريكي. والحل الأمثل لهذه المعضلة كان هو الانسحاب باحتفالية سخيفة، لكن مع بقاء قوات بريطانية رمزية فى العراق.

وإذا كانت هذه الانسحابات لا تعني فيحد ذاتها هزيمة منكرة للإمبريالية، إلا أنها تمثل هزيمة مؤثرة لها. والسبب الأساسي في ذلك هو أن هذه الانسحابات على المستوى الدولي تشير إلى نجاح حركة مناهضة الحرب أو على الأقل قوة الأصوات المعارضة للحرب في هذه البلدان كلها. هي كذلك تشير إلى مدى تخبط الإمبريالية التي ألقت بنفسها في مستنقع يصعب الخروج منه.