هل تولد مقاومة عراقية جديدة؟
كان العراق قد أصبح هو الخبر الأول في نشرات الأخبار منذ 2002-2003. لكن في العامين الأخيرين بدا الأمر كما لو أن العالم، عالم الصحافة والإعلام بالتحديد، قد فقد حماسه لما يحدث في هذا البلد المنكوب. فلقد توارى العراق وأصبح خبرا روتينيا، غالبا عن انفجار سيارة ملغومة، لا يهتم بسماعه إلا القليلين. فما الذي حدث؟
كانت الولايات المتحدة، حتى قبل وصول أوباما للسلطة، قد بدأت في مراجعة سياسة الرئيس السابق جورج بوش.
بوش والمحافظون الجدد كانوا يرون أن الطريق للحفاظ على الهيمنة الأمريكية “لمائة عام قادمين” هو ممارسة سياسة إمبريالية هجومية اعتمادا على التفوق العسكري الكاسح الذي تتمتع به الولايات المتحدة الأمريكية مقارنة بالقوى الكبرى الأخرى.
فشل أمريكي
أهم محطات تلك السياسة كان، كما نعلم جميعا، غزو العراق واحتلاله، وذلك على اعتبار أن العراق مهيأ أكثر من غيره لأن يلعب دور منصة الانطلاق للهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط ثم العالم.
لكن “الخطة العراقية” فشلت فشلا ذريعا. ومن ثم تحول العراق من “منصة للانطلاق” إلى “مقبرة” للسياسة الأمريكية التوسعية. وهكذا، استمر الخبر العراقي متصدرا لنشرات الأخبار، لكن هذه المرة ليس كقصة نجاح للإمبريالية الأمريكية، بل كورطة، لا تضاهيها ورطة، وقعت فيها القوة العسكرية الغاشمة للولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى الجانب الآخر، اعتبرت القوى المناهضة للهيمنة الأمريكية، عن حق، أن العراق هو المحور الأكثر أهمية في السياسة العالمية. فلو انتصرت الولايات المتحدة لأصبح العالم كله معرضا لخطر انفلات العربدة الأمريكية من عقالها. ولو انتصرت المقاومة لأصبح المثل العراقي أساس تصاعد حركات المقاومة والتحرر على اتساع العالم كله.
لكن ما حدث في العامين الأخيرين هو أن مقادير المعركة العراقية تبدلت. صحيح أن “المغامرة العراقية” أضعفت الولايات المتحدة وعطلت مشروعها التوسعي. وصحيح أن شوكة المحافظين الجدد تحطمت على الصخرة العراقية. وصحيح أن التوازن الدولي بدأ يسمح بزيادة نفوذ القوى المناوئة إقليميا ودوليا. لكن كذلك صحيح أن التراجع الأمريكي في العراق لم يقابله انتصار لقوى المقاومة الشعبية أو لأي قوى تحررية مدعومة جماهيريا.
في الثلاثين من شهر يونيو الماضي أعلنت الولايات المتحدة أن قواتها أكملت انسحابها من المدن العراقية، وذلك في إطار خطة انسحاب عسكري كامل بحلول 2011. إذن بدأت الولايات المتحدة انسحابها من العراق بعد أن فقدت ما يقترب من 4400 جندي أمريكي وبعد أن أُهينت إهانة غير مسبوقة منذ فيتنام. هذا مكسب كبير لقوى المقاومة في العراق وفي العالم كله.
لكنها علينا ألا ننسى أن الولايات المتحدة تركت مكانها حكومة طبقية فاسدة متعاونة معها تتنافس على كعكة الثروة العراقية مع قوى كردية وأخرى سنية أغلبها يتسم بالرجعية والمهادنة مع الاحتلال. كل ذلك بينما شبح الصراع الطائفي يطل برأسه بقوة في بلد أصبح الانقسام الطائفي هو أساس كل صراعاته السياسية.
تراجع المقاومة
إذن فالذي حدث في العراق، إلى جانب الورطة والفضيحة الأمريكية، هو تصفية سياسية واجتماعية، ناجحة إلى حد كبير، للمقاومة العراقية، على الأقل مؤقتا.
جزء من السبب في النجاح في تصفية الأساس السياسي والاجتماعي للمقاومة هو المقاومة نفسها. قطاع من المقاومة كان منتسبا إلى ما أطلق عليه “تنظيم القاعدة”. وبغض النظر عن صحة هذا الوصف من عدمه، إلا أن المهم هو أن جزء من المقاومة كان مكونا من قوى أغلبها غير عراقي ينتسب إلى حركات إسلامية غير عراقية المنشأ. الأهم من هذا أن أيديولوجية تلك القوى، وأسلوبها، كان عصبويا وطائفيا بشكل مقيت. وبالقطع فإن أي حركة مقاومة تخلق عداوة بينها وبين قطاعات واسعة من السكان، أو حتى لا تسعى بدرجة كافية إلى كسب تأييدهم، ستخسر معركتها العسكرية مع الاحتلال. وهذا بالضبط ما حدث. حيث تحالفت قوى شعبية سنية عديدة ضد تنظيم القاعدة في العراق وتمت عملية ناجحة لتحجيمه.
من المهم التأكيد هنا أن جناح “القاعدة” في المقاومة لم يكن يمثل كل، أو حتى أغلب، قوى المقاومة العراقية. لكن المشكلة أن باقي قوى المقاومة لم تكن على درجة من التجانس أو النضج السياسي والتكتيكي تسمح لها بعزل هذ الجناح وتحقيق وحدة وهيمنة للتيارات ذات الرؤى الأكثر تقدما.
هذا بالضبط ما سمح للتيارات الرجعية المعادية للمقاومة أن تلعب على هذا التفتت، وكذلك على رجعية وطائفية القاعدة، لتصفية النفوذ السياسي للمقاومة. فشيوخ القبائل السنية، هؤلاء الأغنياء ذوي المصلحة في المهادنة مع الاحتلال، استخدموا الاستياء المتنامي من القاعدة في تجييش قوى مقاومة سنية عديدة وراء تحالف جزئي مع الاحتلال هدفه تطهير المناطق السنية من حركة القاعدة. وذلك ما نفذته أشكال تنظيمية تمت تسميتها بالصحوات.
على كل الأحوال، فقد كان من أثر تفتت المقاومة وعدم نضجها، ومسعى البرجوازية السنية المحلية إلى تهدئة الأمور والوصول إلى حل وسط، أن تم تضييق النطاق على المقاومة السنية وعزلها سياسيا واجتماعيا إلى حد كبير. وعلى الجانب الآخر، تم تحييد تيار الصدر في إطار تطور الصراعات الطائفية داخل العراق.
كانت هذه التطورات هي أساس تحول المسألة العراقية من مسألة احتلال-مقاومة تدور حولها مقادير الصراع الإمبريالي الدولي إلى مسألة ترتيبات أمنية وسياسية جوهرها هو توزيع الحصص بين الطوائف العرقية والدينية. وهو الأمر الذي سمح لأوباما بتنفيذ سياسة الخروج الهادئ من العراق وإعطاء الأولوية في “الحرب الأمريكية على الإرهاب” لأفغانستان وباكستان. وهو ما يكشف عن الوجه الإمبريالي لأوباما. لكن الأهم أنه يكشف أن المسعى الأمريكي للهيمنة والتوسع، مهما جرت عليه من تعديلات، لن ينتهي في الأجل القريب. وسوى نشهد في الأغلب مواجهة مهينة أخرى في أفغانستان وباكستان تساهم أكثر وأكثر في مواصلة إضعاف الإمبريالية الأكبر في العالم.
الهيمنة بعد الانسحاب
أما العراق، فإن قصته لم تنته بعد، ليس فقط لأن الولايات المتحدة لم تنسحب منه حتى الآن، ولكن كذلك لأنها لو انسحبت عسكريا كما وعدت فإنها ستظل هي القوى المهيمنة عليه استراتيجيا وسياسيا، وهو ما يعني استمرار الهيمنة والإخضاع بطرق أخرى أكثر نعومة! كذلك فإن القوى المحلية الجاثمة على صدر العراق اليوم تمثل أحط نوع من الساسة الطبقيين الساعين إلى اقتسام ثروة البلد على حساب فقرائه ومضطهديه.
المعركة في العراق، وإن تغير شكلها، لم تحسم بعد. ويبقى السؤال الرئيسي: أي من القوى التي برزت وتبلورت مع الغزو والاحتلال سيسود؟ وأي شكل للدولة سيتبلور؟ وأي علاقة مع الإمبريالية ستقوم؟ الإجابة على هذه الأسئلة تحتاج إلى ميلاد حركات مقاومة من نوع جديد تمزج الوطني بالسياسي بالطبقي.
المسألة غدا وبعد غد لن تكون فقط مقاومة الاحتلال، أو الهيمنة، الأمريكية، بل ستكون مقاومة السياسة الطبقية الخاضعة للإمبريالية والناهبة لثروة الشعب. ما يحتاجه العراق هو أن تظهر القوى التي تسعى، بالوسائل العسكرية، إلى طرد الولايات المتحدة ومواجهة نفوذها وقواعدها، لكن كذلك التي تعبئ الشعب ضد سياسة توزيع الحصص الطائفية بوصفها أساس كل إضعاف للفقراء ونهب لهم.