حماس بين فخ السلطة وغياب الرؤية
وقف أبو محمد أمام محله التجاري في شارع عمر المختار الرئيسي وسط مدينة غزة، مكتفياً بفتح جانب واحد من باب المحل. قال «أريد أن أرضي الطرفين، بموقف وسط بين الالتزام بالإضراب وعدمه».
الإضراب الذي يتحدث عنه أبو محمد هو الإضراب العام الذي دعت إليه الفصائل الفلسطينية يوم الأحد 9 سبتمبر. وكما جاء في سياق بيان أصدرته تلك الفصائل، فالإضراب يأتي احتجاجا على ما قامت به حماس من قمع واعتقالات يوم الجمعة 7 سبتمبر عندما تدخلت القوة التنفيذية التابعة لحماس، ولحكومة هنية، ومنعت بالقوة صلاة الجمعة في الساحات المفتوحة واعتدت على المشاركين بعنف مفرط أمام العديد من عدسات الصحفيين ونال بعضهم نصيبه من الاعتداءات. صلاة الجمعة في الساحات دعت إليه قيادة فتح في تحد جديد لحكومة حماس في غزة في أعقاب المواجهات التي انتهت بسيطرة حماس على القطاع وحل الأجهزة الأمنية التابعة لأبو مازن ومحمد دحلان.
تعامل حماس مع الإضراب لم يكن أفضل كثيرا، وإن غاب عنه العنف هذه المرة. ففي مقابل تأكيد قيادات فتح على نجاحه علق فوزي برهوم الناطق باسم حركة حماس -التي بسطت سيطرتها على القطاع منذ شهر يونيو الماضي- تصريحات قال فيها: «ليس ثمة إضراب عام، إنه فقط إضراب جزئي في بعض القطاعات، يعطي الدليل على أن منظمة التحرير الفلسطينية “التي تنضوي تحتها معظم الفصائل الفلسطينية” لم تعد الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني»، وأضاف: «إن لدى حماس الوسائل الكفيلة بالكشف عمن يتعاون مع عصابة رام الله، ومن يستجيب لنداءاتها».
التعليق الأخير يمكن أن يصدر عن أي حكومة عربية مستبدة وليس عن حكومة حماس التي اختارها الشعب الفلسطيني في مواجهة فساد السلطة الفلسطينية ومهادنتها للاستعمار وإسرائيل. ولعل مثل هذا التصريح يفسر موقف «أبو محمد» الذي قال:
«لقد وجدت نفسي بين نارين… قررت الوقوف على مسافة واحدة كي لا أكتوي بنار فتح إذا خرقت الإضراب، وبنار حماس إذا التزمت به».
موقف حماس وردها العنيف لا يبرره العنف الأعلى الذي تمارسه أجهزة محمود عباس ضد نشطاء حماس وقياديها في الضفة -مثلا حين فضت تلك الأجهزة بالقوة مؤتمر صحفي حاول طلاب حماس في جامعة الخليل تنظيمه- وبتغطية إعلامية شبه معدومة. فمجرد المقارنة بين حماس وبين سلطة أبو مازن يمثل فشلا للحركة ويساويها في نظر الشعب الفلسطيني لأبو مازن وزبانيته.
وبالطبع سيستغل أعداء حماس وخصومها الفرصة. فالإمبريالية والأنظمة العميلة ستقوم بالتنديد بالحركة والتأكيد على استبدادها وعجزها. ولن يخلو الأمر من يساريين وعلمانيين يطنطنون: «ألم نقل لكم، الحركات الإسلامية ستكون أكثر قمعا من الأنظمة الحالية».
الثمن الذي تدفعه حماس لا يتوقف هنا، بل يمتد للحلفاء والمتعاطفين. فحركة الجهاد الإسلامية شاركت في بيان الفصائل وانتقدت حماس وإن تحفظت على دعوة الإضراب.
وهذا «فلسطيني مستقل» يعلن في تعليق على أحد المواقع الإخبارية «لقد ثبت أن حماس لم ولن تصحوا من غفلتها. انا لست فتحاويا وأنا سأعطي صوتي لحماس في الانتخابات القادمة. ولكني أكره جهل حماس السياسي…»
ويكتب أحد شباب الإخوان: « يعتصرني الألم وأنا أكتب هذه التدوينة… إن ما تقوم به حماس الآن … عبر قوتها التنفيذية … صورة «إسلامية» لحكم القمع؛ لا فرق الآن بين حكم فتح أو حماس أو مبارك والقذافي فكلها أشكال حكم ركائزها الأمن والقوة والقمع لا الحب والسماحة والرضا بحكم الناس…»
ولكن الثمن الأفدح بالتأكيد هو ما تفقده الحركة من شعبية وتأييد من بسطاء الفلسطينيين مثل أبو محمد، الذي تحدث سابقا، المكتوين بنار الاحتلال ونار الصراع بين حكومة الضفة وحكومة غزة.
ماذا بعد؟
أزمة حكومة هنية وحماس في هذه اللحظة تتجاوز الدعاية السيئة أو فقدان التعاطف. بل وتتجاوز الحصار الدولي والعزلة والتجويع الذي يتعرض له قطاع غزة. الأزمة الحقيقية أن الحركة لا تقدم الإجابة على سؤال «ماذا بعد؟»
فعندما جاءت حماس للحكم على أكتاف أصوات الشعب الفلسطيني في الانتخابات في يناير 2006 كان هناك وجهان؛ وجه يتعلق بفساد السلطة الفلسطينية القائمة وقتها ونهبها المنظم والموثق للموارد المحدودة المتاحة في الضفة وغزة أو لأموال المساعدات الأجنبية. وبدرجة كبيرة نجحت حكومة حماس وكانت عند حسن ظن من انتخبوها، فوزراء حماس ربما كانوا الوحيدين من بين أقرانهم الوزراء العرب الذين ألقى القبض عليهم متلبسين بتهريب الأموال لداخل بلادهم وليس لخارجها.
الجانب الآخر لانتخاب حماس يتعلق بالموقف من اسرائيل ومن القضية الفلسطينية. فرفض حماس للاعتراف بإسرائيل مثل للشعب الفلسطيني رفضا للوضع الراهن، رفضا للاحتلال وجدار الفصل العنصري ونقاط التفتيش ورفضا لإهدار حق العودة لستة ملايين فلسطيني في الشتات.
وبعد فوز حماس، وبدرجة أكبر بعد أحداث يونيو والانفصال بين الضفة وغزة، يبدو أن كل ما تطمح إليه الحركة هو تعترف بها «الشرعية الدولية» وأن تدعى إلى موائد الكبار – اللجنة الرباعية ومبعوثي السلام والأمم المتحدة- وأن يتم دمجها في مفاوضات التسوية. ومثل الإفراج عن مراسل البي بي سي المختطف في غزة آلان جونستون خطوة هامة في تقديم الحركة كشريك يعتمد عليه. هنا تكمن أزمة حماس الحقيقية.
فما تطرحه الشرعية الدولية المزعومة ليس حتى حل الدولتين، بل دولة وسجن- أو سجنين. فهل تستطيع حماس أن تقول إنها لا ترغب في مثل هذا الحل الذي يهدر أغلب حقوق الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة وكل حقوق الفلسطينيين خارجهما، سواء في أرض فلسطين المحتلة عام 48 أو اللاجئين وفلسطينيي الشتات. وأن الحل الوحيد المنطقي هو حل الدولة الفلسطينية الديمقراطية العلمانية الواحدة على كل أرض فلسطين.
هل باستطاعة حماس ألا تقع في خطأ وخطيئة حركة التحرر الفلسطيني عبر تاريخها بادعاء الحياد بين الشعوب العربية وبين الأنظمة العربية المستبدة والعميلة لأمريكا والاستعمار.
وأخيرا على المستوى الإيديولوجي، هل باستطاعة حماس في هذه اللحظة أن تدرك أن شعار «فلسطين إسلامية» لا يمكن أن يقود التحالف المطلوب لتحرير فلسطين وإقامة الدولة الفلسطينية الموحدة على أرض فلسطين، تحالف يجمع الشعب الفلسطيني وحركاته المقاومة مع الشعوب العربية وطبقاتها الكادحة ويضم كذلك القوى المناهضة للاستعمار والصهيونية في مختلف أنحاء العالم.
مأزق حماس يلخصه أحد كتاب موقع (عرب 48):
… ولأننا صرنا الممزقين ما بين إمارة غزة وحكامها، وحاكمية رام الله وزعمائها، صرنا التائهين بكل شيء، وصرنا نشك بفلسطينيتنا، ونشك بأحلامنا، ونشك بأجسادنا…
فهل تثبت الأيام صحة هذه نظرة اليائسة أم باستطاعة حماس والمقاومة الفلسطينية بشكل عام أن تثبت العكس وأن تعود مرة أخرى ملهمة لنضال الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، بل وللمناضلين في كل العالم؟